تُعد ملحمة جلجامش أقدم نص مدوّن على وجه الأرض يوثق لمرحلة شفاهية من تاريخ البشرية كانت قد عاشتها قبل أكثر من أربعة آلاف عام في بلاد الرافدين.
وما كان للملحمة أن تُدون وتُحفظ لولا غايات أوجبت التوثيق لوقائع مرّت بها مدينة أوروك السومرية ولطبائع السكان ومعتقداتهم، فكتبت أسطرها الشعرية أول الأمر بخط مسماري ولغة سومرية ثم تنوعت اللغات التي كتبت بها ومنها اللغة الأكدية، ولا يعرف من الذي نظمها شعريا، أ هو شاعر واحد أو شعراء كثيرون اشتركوا في نظم سطورها التي تجاوزت عشرة الآف سطر وبألواح هي عبارة عن رقم طينية، وصل إلينا منها أثنا عشر لوحاً.
ولم يكن يراد من تدوين الملحمة شعراً أن تحفظ خوفاً من الضياع والنسيان أو خشية عليها من السرقة والانتحال فتكون حبيسة بلاد سومر أو بابل؛ بل هي دُونت لكي تنتشر في أصقاع الأرض، والدليل على ذلك هو تعدد الأماكن التي عُثر فيها على رُقم الملحمة.
وأول حملة تنقيبية عثرت على نصوص الملحمة كانت قبل أكثر من مئة وثلاثين عاماً في مدينة بابل ثم توالت الحملات لنجد النصوص متفرقة في إرجاء المنطقة المجاورة لوادي الرافدين في مدن سوريا وفلسطين وتركيا.
وليس قدم الملحمة التاريخي هو ما يعطيها قيمتها؛ بل أيضاً قيمتها في ما فكر فيه الانسان الرافديني الأول وما مارسه من نشاط ميتافيزيقي أسطوري وخرافي شفاهي إزاء نفسه ومجموعته البشرية وإزاء الموجودات من حوله. ولقد وظفت الملحمة آليات هذا الفكر الذي هو بمثابة قاعدة موضوعية، عليها بنت البشرية تصوراتها الحضارية في مرحلة اخترعت فيها الكتابة وهي ليست بعيدة كثيراً عن مرحلة سبقتها كانت شفاهية، وقد صيغ هذا الفكر صياغة أسلوبية اتخذت من الشعر قالباً كضرورة من ضرورات منح هذا الفكر الخلود الإبداعي.
وهكذا كانت ملحمة جلجامش نصاً تأسيسياً في فكرها وموضوعها وأسلوبها، وقد أودعت فيها خلاصات ما تحصلته البشرية في مرحلتيها التاريخيتين الشفاهية والتدوينية؛ فأما فكرها فإستودع فيه بُعد ميتافيزيقي، وأما موضوعها فكان بطولياً وأما أسلوبها فمعلوم قالبه ومجهول شاعره الصانع أو شعراؤه الصنّاع.
ولا شك في أن الملحمة هي خلاصة نظرة البشر للوجود بحسب ما كانوا يعتقدونه من وجود قوة أسطورية تمثلها كائنات تشبه البشر في هيأتها لكنها تفوقهم في قدراتها الخارقة والرهيبة وبعض هذه الآلهة ذكور، بعضها الآخر أناث، وهي في الأغلب مخيفة ولذلك قدسها البشر وقدموا لها القرابين كي يطمئنوا لخطرها ويكونوا في منأى من عقابها، وهو ما عبرت عنه الأساطير والخرافات التي هي محصلة التفكير البشري في الكون وموجوداته.
وإذا كانت الأساطير تفترض سيادة الآلهة المطلقة على البشر؛ فإن تلك السطوة الإلهية كانت أنثوية مصدرها طوطمي وأثرها مقدس لتكون المرأة هي الإلهة والحكيمة والأم الكبرى، هكذا احتلت المرأة مكانة مرموقة، ما كان لها أن تحظى بها لولا دورها المهم الذي فرض على الرجال احترامها، وذلك إدراكا لقوتها التي كانت في الأساس قوة انجابية لذا وصفت المجتمعات الأولى بأنها مجتمعات أمومية، ومع تغيير الحياة واتساع المجموعات البشرية تطوّرت رؤية الإنسان للوجود، ولم تعد القوة الانجابية هي الأساس، فقد نافستها قوة أخرى هي القوة الجسدية، وغاياتها فردية بها يتسيّد الذكور ويهيمنون على من هم أضعف منهم وفي مقدمتهم الإناث.
وصارت العقلية الميثولوجية تؤمن بنوعين من الآلهة: آلهة دائمة لا تتغير في صفاتها المقدسة وليس لها سمة شخصية وعادة ما تطوق الإنسان برعب أو اعجاب مفاجئ، وآلهة مؤقتة تمثل الشكل الفعلي الأول الذي ينشئه الوعي الأسطوري الديني الخلّاق وهي تتغير منقسمة أو منتقلة من عالم مقدس إلى عالم مدنس ولها صور شيطانية وذات شكل شخصي فردي ومحدود.
وهذا التلاعب بالأسطورة في جعل الآلهة المؤقتة نسوية منقسمة ومتغيرة ومنتقلة، هو ما حصل في ملحمة جلجامش التي حجَّمت الفاعلية الألوهية النسوية، وحاولت سحب الصفة المقدسة منها كنتيجة منطقية للتغير في مكانة المرأة التي تفاوتت "من عصر لآخر تبعاً لتغيرات السلالات الحاكمة".
وساعدت الكتابة في أن تكون للقوة الجسدية أهميتها الحضارية في مجتمعات أبوية ذات ثقافة كتابية، وأسست تلك الأهمية لعصر جديد سمي بعصر السيف الحديدي أو العصر البطولي وفيه حصل ما سماه أنجلز بالانكسار التاريخي نظرا للطريقة الاستحواذية التي بها هيمن الأبناء الذكور على حق الأم وأحلوا بدله حق الأب، ولم تعد للمرأة مكانتها المقدسة كما أن الأنظمة الحياتية صارت خاضعة لسلطة الذكور الذين لهم السيادة على الموجودات كلها أحياء وجوامد.
وفي خضم هذا الانتقال الحضاري دوّنت ملحمة جلجامش لتكون نصاً تأسيسياً يوثق لمصير البشرية التي فيها صارت الآلهة مؤنثة ومذكرة تتقاسم مع البشر السيادة.
وإذا كان للآلهة أن تكون بصفات بشرية، فإن من غير الممكن للبشر أن يكونوا بصفات إلوهية باستثناء واحد كان صنيعة الآلهة فجمع البشرية بالألوهية وهو جلجامش الملك الصنديد والفارس العتيد الذي كانت صفاته الألوهية غالبة على صفاته البشرية.
ومحورية جلجامش في الملحمة هي أول مؤشر على ميتافيزيقية العقل الذكوري الذي أراد شرعنة انفرادية الذكر البطولية وتبرير استحواذيته في امتلاك حق استلبه عنوة.
فما الذي أراده سكان بلاد الرافدين من وراء التأسيس لهذا الفكر ونشره في العالم ؟ وكيف تمت عملية قولبة الأساطير السومرية وصياغة فكرها شعرياً ؟ وما الذي مكن شاعر الملحمة او شعراءها من ادراك أن الشعر والفكر متعاضدان في تبليغ الرسالة الميتافيزيقية وأعطائها السمة الإبداعية الدائمة التي لا يقيدها مكان ولا يحدها زمان لتبقى أبد الدهر مستمرة ؟ وما الغاية التي أراد السومريون بلوغها من الأساطير وأراد البابليون بلوغها من الملحمة ؟ ومتى مارس سكان وادي الرافدين كتابة الشعر كعمل إبداعي وضمنوه الفكر كعمل ذهني ؟ وما صور الفكر المؤسس له شعرياً أم هي صورة فكرية واحدة ؟
مما لا شك فيه أنّ العقل هو أساس الحضارة ومنه تبزغ المعرفة وبهما معاً أي الفكر والمعرفة يتحدّد الوجود الموضوعي للعالم أياً كانت لغات هذا العالم وألوان أطيافه وتغاير مكوناته. وما مراد العقل الذكوري على طول التاريخ سوى فلسفة العالم الموضوعي ميتافيزيقياً بوصف هذا العالم صورة محاكية للرجل في قوته الجسدية وتفوقه العقلي وإرادته الذاتية التي لا ينافسه عليها أحد. هذه الإرادة التي هي بمثابة مصير كتب على الرجل وحده وليس أمامه إلا أن يذعن له. وهذه هي الخلاصة الفلسفية لميتافيزيقيا ما بحث عنه جلجامش في رحلة طويلة وبعيدة قطع عبرها الفيافي والبحار قاصداً بلوغ عالم ما ورائي.
وبالارتكان إلى نصوص الملحمة السومرية نفسها تتوكد رؤية نسوية ذات نظر وتمرس واعتمال، انتجها السابقون أسطورياً وبنى اللاحقون عليه تفكيرهم ثم صبوها شعراً في نصوص الملحمة. لكنهم اثبتوا وحرفوا وأضافوا وحذفوا إثباتاً للتفوق الذكوري في البناء والعطاء والحساب والتنظيم منتقصين الرؤية النسوية بوصفها فكراً مغوياً وخطيراً.
وإذا كان توطيد النظام الأبوي قد حصل مع الانتقال من المشافهة إلى الكتابة مما ثبتت الملحمة السومرية قواعده إبداعياً وحضارياً معتبرة جلجامش رمزاً للتفوق الذكوري على مستويات الحياة كلها؛ فإن التأسيس لفكر نسوي يتعدى الوجود إلى ما بعده وفي شكل أساطير كان قد سبق الملحمة بكثير. من هنا يحضر الفكر النسوي في الملحمة في الغالب أما متوارياً أو محرفاً أو مشوهاً أو مموهاً مفيداً من تلازم الفكر والشعر حيث إبداعية الثاني وسيلة الأول في ترسيخ الأبوية ودرء خطر الأمومية.
وعلى الرغم من ذلك كله؛ فإن الحقيقة تظل حاضرة من خلال الذاكرة الجمعية اللاواعية التي لا يمكن تزييفها بوصفها حاضناً جينالوجياً تنتقل عبره الطقوس والعادات والحكايات والمرويات من جيل إلى جيل... وهذا من حسن حظ المرأة، لأنها بهذا وحده تتمكن من الاحتفاظ بمكانتها الأولى والتأسيسية بوصفها أمّا كبرى.