وجدت المخرجة والممثلة التونسية ليلى طوبال في خشبة المسرح مساحة شاسعة للمقاومة عبر الفنّ وللحديث عن مشكلات النساء ورحلتهن الطويلة لافتكاك الحقوق والحريات من المهد إلى اللحد من خلال عملها المونودرامي الجديد “ياقوتة”.
وليس من السهل أن تكوني امرأة وتكلفي نفسك عناء الدفاع عن حقوق بنات جنسك، فالمسيرة النضالية لافتكاك الحقوق والحريات -والأهم تغيير الموروث المجتمعي- طويلة جدا؛ بدأت مع أسماء تونسية كثيرة خلدها التاريخ وهي مستمرة مع أخريات في مجالات مختلفة.
لا يحدها زمان أو مكان
يعدّ “ياقوتة” تكملة لثلاثية مسرحية بدأتها طوبال بمسرحية “سلوان” (2015) و”حورية” (2017)، وذلك بالشراكة مع الجهة المنتجة “الفن مقاومة” والموسيقي مهدي الطرابلسي. وكلّ عمل منها يغوص في أعماق المعاناة الأنثوية في مجتمع ذكوري بامتياز، حيث حاربت “حورية” و”سلوان” التشدد الديني والتكفير والإرهاب ودافعتا عن حرية المرأة ومكتسباتها في فترة حرجة من تاريخ تونس ما بعد ثورة يناير 2011.
واختارت ليلى طوبال لمسرحيتها الجديدة اسم “ياقوتة” إيحاء بأنّ المرأة تلمع كالياقوت مهما “سترها” المجتمع برداء الفضيلة والمحرمات، ووشحها بسواد النوايا والأحكام والعادات والتقاليد والأديان، على حدّ قولها.
وهي عبر هذا العمل المسرحي تدعو المرأة إلى أن تكون لا مثالية ولا غير مثالية، بل أن تكون هي نفسها فقط، بكلّ تناقضاتها وأخطائها ومميزاتها وعيوبها البشرية.
وتصدح “أم ياقوتة” (ليلى طوبال) بصوت النساء وتغوص في مواضيع مسكوت عنها تُراوح في طرحها بين الدراما والكوميديا السوداء، وتسترسل في ذكرها بدءا من مشهد تعرضها للعنف الزوجي وصولا إلى حوار بين الأم وابنتها “ياقوتة” (ثمرة تعرضها للاغتصاب)، إذ بعد سنوات من البعد لم يتغيّر شيء من واقع المرأة التونسية.
وتستحضر طوبال في نصّ طغت عليه المباشرتية في أحيان كثيرة مشكلات المرأة بإسقاطها على عملية التكاثر البشري التي تتصارع فيها الحيوانات المنوية للفوز بالبويضة، وفي هذا التنافس إيحاءات مختلفة لصراعات تدور على أرض الواقع بين ذكور تشترك في سمات كثيرة وتختلف في أخرى؛ فالعرق التونسي لا يشبه العربي ولن يكون أيضا شبيها بالعرق الفرنسي ولن يشبهها جميعا العرق الصيني ولا حتى سلالة المتشددين دينيا.
وتستعرض طوبال طوال ساعة ونصف الساعة حزمة ضخمة من المشكلات التي تناضل المرأة من أجل إيجاد حلول لها، في كلّ عرق أو سلالة؛ فصرامة النظام الياباني تقابلها الفوضى العربية المطلقة، في حين أن النظام الفرنسي لا يمنع حبه للفن والموسيقى من أن يخوض مناوشات مع أصحاب السترات الصفراء ويتصارع مع الجزائر، بينما يبدو جليا أن الولايات المتحدة لم تغادر بعد دائرة الصراع التاريخي بين العرقيْن الأسود والأبيض.
وليست السلالة التونسية في منأى عن التناقضات، فشعبها يراوح بين التحرر والالتزام الديني بسهولة. وفي هذا السياق ذكّرت طوبال بالحريات النسوية، وبمسألة الكويرية الجندرية، وصراع الطبقات الاجتماعية الذي بدأ منذ الأزل ولم ينته بعد، مستذكرة شعارات تونسية ضدّ استبداد قوات الأمن ترتبط ذكراها بوقائع مريرة، مثل شعار “تعلم عوم” (تَعلّمْ السباحة) و”تعلم اجري”(تعلم الجري) اللذين يرتبطان في مخيال شباب تونس بحادثتين راح ضحيتهما شابان بسبب مناوشات مع قوات الأمن التونسية.
واستعرضت طوبال قوانين لا تخدم المرأة التونسية من بينها إضافة لقب الزوج إلى هوية زوجته رُغمًا عنها لتصبح “حرم فلان”، وقضية الاغتصاب الزوجي من منظور مجتمعي وقانوني، وانحياز رجال الأمن إلى صالح الزوج في أغلب البلاغات المقدمة للنيابة ضدّ العنف الزوجي.
وانتقدت “ياقوتة” الفكرة المتوارثة بين أفراد المجتمع والتي يلخصها شعار “لأنها امرأة يجب أن تسكت” عن ظواهر مثل ختان البنات والمتاجرة بالنساء ليصبحن جواري لدى داعش وتنظيم القاعدة، أو تكتفي هذه الشريحة الواسعة من المجتمع بالتظاهر إلكترونيا أو المشاركة في التظاهرات بالنزول إلى الشوارع من أجل مجرد التقاط صورة سيلفي.
مشهد غير مكتمل
تنتقد طوبال عشرة سنوات من حكم الأحزاب الإسلامية ومن والاها، وجهودها الحثيثة لإرجاع تونس سنوات إلى الوراء، تألم فيها كل تونسي من مشاهد “الحرقة” (الهجرة غير الشرعية) والإرهاب وموت الرضع داخل مستشفيات هشّة، تصرخ “ياقوتة” في وجه المرأة كي تتحدى المجتمع وعقده وقيوده وتبني عالما “حيّا” ومحبا للحياة ويتخذ من السلام والحب والحق منهجا لا يحيد عنه.
اتخذ إيقاع العرض المسرحي منحى تصاعديّا ليحاكي إيقاع الحياة الواقعية المليء بالأحداث الساخنة التي تنتفض لها الروح أحيانا ثم تستكين مقيدة في أحيان أخرى.
وأسهمت الموسيقى التصويرية لمهدي الطرابلسي في تكثيف حركة الإيقاع التصاعدي للعمل وإبراز دراميّة المشاهد أو كوميديتها في محاكاة المأساة البشرية، إلا أنّ السينوغرافيا لم تكن بالثقل المطلوب لتكمل عناصر العمل المسرحي؛ فطوبال كأغلب المسرحيين التونسيين اكتفت بديكور بسيط يوحي بأنها محبوسة داخل غرفتها الخاصة ولم تعتمد -وهي مخرجة العمل- على تطويع مؤثرات بصرية مبتكرة تواكب التطورات في عالم المسرح ما بعد كورونا.
وعموما تعدّ السينوغرافيا نقطة ضعف في أغلب الأعمال المسرحية التونسية التي تنأى بنفسها عن التجريب والابتكار في عوالم الديكور والإضاءة رغم أنها عوالم تخضع لتطورات التكنولوجيا كثيرا.
ووظفت طوبال، المخرجة، المؤثرات السمعية للتأكيد على طابع العمل المسرحي المنتصر للقضايا النسوية؛ فبين مشاهد المسرحية تظهر تسجيلات صوتية لكل من جيزال حليمي (محامية مناهضة للاستعمار الفرنسي) ورجاء بن عمار (مخرجة مسرحية) وزينب فرحات (صحافية ومسرحية ومناضلة نسوية) وتسجيلات لنساء بهويات مجهولة، جمعهن النضال من أجل حقوق المرأة، كلّ واحدة حسب ظروفها والمجتمع الذي نشأت فيه وأهدافها.
وغير بعيد عن هذه الفلسفة كانت “سلوان” و”حورية” و”ياقوتة” نساء مختلفات لكنهن تجارب مسرحية مترابطة من حيث الفكرة وموزّعة على مراحل زمنية مختلفة، أثبتت ليلى طوبال عبرها أن حال المرأة التونسية -ولِمَ لا حال المرأة العربية ومن ثمّ حال المجتمع الكوني عامة- يسبح في فلك واحد ويدور في الفراغ فلا شيء تغير بل تعمقت المأساة أكثر وباتت المجتمعات العربية في حاجة ملحة إلى صدمة فكرية وثقافية كبرى علها تحدث التغيير المنشود وتمنح المرأة حقها في الحياة دون حدود أو قيود أو أحكام مسبقة.