ترى أن الكثيرمن ميادين المعرفة الإنسانية التي لم تدخل بعد في علم الاجتماع في العراق
حاورها علاء المفرجي
القسم الأول
الدكتورة لاهاي عبد الحسين مختصة بعلم الاجتماع، ولدت في بغداد عام 1952. وهي من أسرة تنحدر من مدينة الديوانية في الفرات الأوسط. حصلت على البكالوريوس في علم الاجتماع / كلية الآداب / جامعة بغداد عام 1977. والماجستير من جامعة ولاية يوتا مدينة لوجان الولايات المتحدة الأمريكية عام 1985، والدكتوراه في علم الاجتماع / جامعة يوتا / مدينة سولت ليك ستي / الولايات المتحدة الأمريكية / 1991. التخصص الدقيق التنظيم الاجتماعي. التخصص الثانوي : السكان.
قامت بتدريس المواد التالية : المدخل إلى علم الاجتماع، التنظيم الاجتماعي، علم اجتماع المرأة نظريات اجتماعية (جامعة يوتا منذ عام 1987 – 1990). المدخل إلى علم الاجتماع، حضارة وشخصية، نظريات اجتماعية مفاهيم ونصوص باللغة الإنكليزية (جامعة بغداد منذ عام 1992 – 1998). تصميم البحوث الاجتماعية، علم الاجتماع الصناعي ، تاريخ الفكر الاجتماعي.
لها العديد من المؤلفات في علم الاجتماع منها: الملامح الاجتماعية في أعمال عدد مختار من الفلاسفة العرب المسلمين ، ومقدمة في علم الاجتماع، ومصطلحات ونصوص اجتماعية باللغتين العربية والإنكليزية. نظريات اجتماعية (سوسيولوجية) عضو الجمعية العراقية للعلوم الاجتماعية. نساء عراقيات.. وجهة نظلر إجتماعية، وترجمت عددا الكتب منها : العرقية والقومية.. وجهات نظر انثروبو لوجية، وكتاب العلامة علي الوردي في علم إجتماع المعرفة، من الادب الى العلم.
هل كانت هناك إشارات في الطفولة على ميلك لدراسة علم الاجتماع؟ حدثينا عن طفولتك وأهم المراجع الفكرية التي قادت خطواتك في هذا المجال؟
- قد تكون الطفولة مبكرة جداً ولكني أتذكر أنّ وعيي الثقافي بدأ بالتشكل بوضوح منذ دخولي مرحلة الدراسة المتوسطة حيث استلهمت سلوك بعض الصحافيات العربيات والعراقيات. ظهرت هؤلاء في نشرات الأخبار، يدخلن مكاتب المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين بأناقتهن العملية والبسيطة. وكنّ يحظين بدعم المجتمع كونهن يدخلن ميداناً جديداً غير تقليدي بالمقارنة لتوجهات الغالبية العظمى من النساء آنذاك ممن قصدن التعليم الابتدائي وفي أحسن الأحوال التعليم الثانوي للعمل كمعلمات أو مدرسات. كان ذلك في ستينيات القرن الماضي. بدا العمل بالصحافة بالنسبة لي مغرياً. ولكني سرعان ما شعرت بالحاجة إلى عمق فكري بقضايا المجتمع فكان أنْ بدأت أحلم بعلم الاجتماع لتوفيره ركيزة فكرية عملية بالمقارنة إلى الفلسفة التي بدت بالنسبة لي آنذاك كطائر يحلق بعيداً عن أرض الواقع المباشر الذي كنت أتعجل فهمه ومحاولة وضع الحلول لمشكلاته وارهاصاته العملية المباشرة. الخلاصة، أنني رغبت بالعمل كصحافية بخلفية فكرية سوسيولوجية لا تكتفي بملاحقة الحدث بل تتوجه إليه وفق تصور أولي يروم المزيد من الفهم والتعمق والتحليل. جاءت بعد ذلك المكتبة الوطنية التي كنا نؤمها في العطلة الصيفية لقتل وقت الفراغ الثقيل مما عانينا منه كفتيات لا يسمح لنا بغيره، كونه من الأماكن الآمنة. هناك طلبت كتباً اجتماعية فتعرفت على كتاب "ثورة على القيم" للدكتور متعب مناف السامرائي الذي أصبح فيما بعد أستاذي وبعد التخرج والتعيين في القسم، زميلي. تطورت النزعة لدي للتعرف على الاجتماعيين العراقيين فكان أنْ قرأت كتاب الوردي، "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، الذي بدا جاذباً ومطمئناً للغاية وهو يشرح ويرسم ويصور ما نحن فيه كمجتمع. وعندما عانيت من الخلط بين الصحافة كميدان عمل وعلم الاجتماع توصلت إلى قرار أنّ الصحافة تتطلب مؤهلات فنية يمكن اكتسابها بالخبرة والتجربة أما علم الاجتماع فيتطلب تفرغاً لدراسته والتمكن منه نظرياً وفكرياً. وهذا ما دفع بي إلى التخصص في علم الاجتماع.
درست علم الاجتماع في جامعة بغداد وأكملت دراستك في جامعة يوتا الأمريكية حيث نلت الدكتوراه. رحلة طويلة نسبياً ما الذي أضافته إليك؟
- لم تكن ظروف الدراسة في قسم الاجتماع في جامعة بغداد لتلبي الطموح. كنا كطلبة نتعطش لنقرأ لأساتذتنا ونتعرف على انجازاتهم الفكرية ولكننا لم نجد الكثير. كان هناك نوع من التكتم في هذا المجال. كما لم يكن الكتاب المنهجي معروفاً آنذاك في سبعينيات القرن الماضي. وما توفر من كتب لم نكن لنوجه إليه. كان هناك الكثير من المحاضرات والقليل من الزيارات الميدانية والبحوث التدريبية. درسنا كتاب (محمد عاطف غيث) في السنة الأولى كتقديم لعلم الاجتماع. وكانت هناك بعض الكتب الكبيرة حجماً ولكنّها بدت ثقيلة في معانيها وما تهدف إليه بسبب الطريقة الوعرة التي كتبت فيها. وكان هناك ملازم يضعها بعض الأساتذة وهي الأخرى لا تغطي الحاجة للفهم. على سبيل المثال، كيف لطالب أنْ يفهم كارل ماركس أو إيميل دوركهايم أو أوكست كومت بسطرين أو فقرة كتبت بطريقة فنية. كما لم يكن يطلب منا مراجعة المكتبة والاستزادة والبحث باستثناء ما نفعله برغبة شخصية تتراوح بين الجد والهزل. لم يكن لما نتعلمه من قراءاتنا مريد أو وسط نتبادل معه. أستثني من هذا كتاب "السكان" للدكتور يونس حمادي التكريتي الذي كان كتاباً ممتازاً وكان هو أيضاً أول من أقحمنا بالعمل ضمن مجموعات عمل حول بلد من البلدان باستخدام إحصاءات سكانية نحصل عليها من خلال مراجعة الكتب السنوية للسكان الصادرة عن الأمم المتحدة وذلك بمراجعة القسم المختص في مكتبة الجامعة. وكانت لدينا تجربة تدريب محدودة مع الدكتور علاء الدين جاسم البياتي للقيام بدراسة توطين عدد من الفلاحين المصريين في قرية "الخالصة". فيما لم تكن هناك جماعات عمل خاصة بالطلبة وبإشراف من قبل أحد الأساتذة أو نشاطات من هذا النوع أو حتى محاضرات استثنائية خارج الجدول المخصص لكل مرحلة دراسية. لم تكن هناك مؤتمرات علمية يمكن أنْ نحضرها على الأقل وحتى مناقشات علمية على مستوى دراسات الماجستير والدكتوراه. ولكن كانت هناك مناقشات علمية في أقسام أخرى مثل اللغة العربية أو الإدارة والاقتصاد ذهبت لحضورها بشوق بالغ.
ذهبت للدراسة إلى جامعة ولاية يوتا الأمريكية لنيل شهادة الماجستير وهناك تطور وعيي العلمي والمنهجي حيث كان يطلب منا في كل مادة علمية القيام ببحث أو دراسة أو تقرير من نوع ما. إلى جانب اكتساب اللغة فقد كان هناك الكثير من الاهتمام بالربط بين النظري والميداني التطبيقي. بدا لي وكأنني اكتشف العالم في كل مادة علمية أسجل فيها بسبب التوسع وكثرة المصادر والضغط لتحقيق المستوى المطلوب للنجاح الذي حدد بالحصول على درجة 80%. لم يكن هناك تعاطف أو تساهل معنا كطلبة أجانب. كان هناك الكثير من الرصد والجزم والصرامة خلف تلك الابتسامات اللطيفة التي يظهرها الأساتذة والطريقة البسيطة التي يخاطبوننا فيها كطلبة. كما كان هناك الكثير من المطالبة لتطوير النزعة النقدية وعدم أخذ المادة المكتوبة على علاتها. نصحني أساتذتي بالانتقال بعد نيل الماجستير إلى جامعة مختلفة لأتعرف على أجواء جديدة ووسط طلابي وتدريسي مختلف لاكتساب المزيد من المعرفة والخبرة. وهذا ما كان حيث انتقلت إلى جامعة يوتا في عاصمة الولاية. كان علينا في هذه المرحلة ألا نكتفي بالدراسة للمرحلة التحضيرية والعمل على الأطروحة وإنّما ممارسة التدريس على مستوى الدراسات الأولية كجزء من متطلبات نيل شهادة الدكتوراه لاكتساب الخبرة. درّست لثلاث سنوات مواد متنوعة على هامش كوني طالبة دكتوراه كان منها مقدمة في علم الاجتماع ونظريات سوسيولوجية وتنظيم اجتماعي وعلم اجتماع المرأة. وكانت هذه التجربة بحد ذاتها إضافة نوعية لا تقل أهمية عن الدراسة المنهجية. لم نكن نعمل بلا توجيه واشراف غير مباشر. إذ كان بإمكاننا الاطلاع على خطط التدريسيين الآخرين وكان بإمكاننا الحصول على أحدث المصادر العلمية المنهجية الصادرة عن دور نشر متخصصة مجاناً توزع من قبل السكرتيرة حسب الاختصاص. وعندما تكون لدينا رغبة بالحصول على مصدر استثنائي فإنّ السكرتيرة جاهزة لتقوم بتوفير اللازم الذي يأتينا مرزوماً بالاسم وباحترام. وكان بإمكاننا كتدريسيين القيام بتجميع قراءات مختارة هي عبارة عن أجزاء من أعمال علماء معروفين بغية تشجيع الطلبة على تحقيق التماس المباشر مع أساليبهم ولغتهم ومنطقهم وإرسالها إلى مكتب يرتبط بالجامعة يقوم بتهيئتها. تسمى هذه الملازم المنظمة بعناية تبعاً لهدف المادة العلمية المقررة، "قراءات"، يقوم الطلبة باستلامها مباشرة بعد دفع الثمن المطلوب للمكتب. وعلى هامش الدراسة والتدريس كانت هناك ندوات ومؤتمرات علمية ومحاضرات بعضها استثنائي يتعلق بقضايا سياسية عولمية نُشجع على حضورها والمشاركة فيها.
تستطيع أنْ ترى أنّ هناك إضافات مهمة حصلت من خلال الدراسة في الخارج. حاولت نقل ما يمكنني منها إلى طلبتي في العراق، إنّما ليس بلا معاناة استثنائية.
أشرت في اسهامك في كتاب (مستقبل الدراسات الاجتماعية في الوطن العربي) أنّ المتقدمين العشرة للحصول على الدكتوراه في علم الاجتماع لم يتمكنوا من كتابة تعريفات ملخصة مقبولة عن الآباء المؤسسين لذلك القسم؟ اما الذي يسهم بتقديرك في الاهتمام بالدراسات الاجتماعية؟
- كان ذلك جزء من استفتاء قمت به على مجموعة من الطلبة الذين درستهم في العام الدراسي 2012 – 2013 وكان أولها سؤال لتعريف "علم الاجتماع"، لتعقب ما نضح إلى أفهامهم عنه. لفت نظري أنّ أحدهم عرف علم الاجتماع بأنّه "العلم الذي يدرس الإنسان ككائن حي أو كائن بيولوجي". وعلقت على ذلك بأسى لأنّ الطالب جهل واحدة من أبجديات العلم وهي أننا ندرس الإنسان كصيرورة متحولة وليس ككائن عضوي حي يعرف بآليات غرائزية معروفة. وبدا لي ذلك جزء مما أصاب المؤسسة الأكاديمية من ضعف لعله كان نتيجة التدهور الذي حصل في العراق سياسياً أثناء وفي أعقاب الحرب العراقية الايرانية واجتياح الكويت والحصار الأممي الذي عزل العراق عن العالم.
لا تتضمن مناهج الدراسات السوسيولوجية موضوعاً يختص بـ (سوسيولوجيا الأدب) مثلاً في فرع الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى من تعزين ذلك؟
- هناك الكثير من ميادين المعرفة الإنسانية التي لم تدخل بعد في علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا في العراق كما في علم اجتماع الوظيفة وعلم اجتماع وسائل التواصل الاجتماعي وعلم اجتماع التغير المناخي وعلم اجتماع السيرة الذاتية وعلم اجتماع الحياة اليومية وعلم اجتماع الحركات الاجتماعية وغيرها مما يستحدث الدخول فيه. يدخل علم الاجتماع في كل مناحي الحياة وما يطرأ عليها من تغيرات لأنّه علم واسع وهو كما أسماه أوكست كومت منذ القرن التاسع عشر، "سيد العلوم الإنسانية". يعتمد التنوع والدخول في ميادينه المختلفة على الجهد الفردي والمؤسسي الذي يتطلب تفرغاً وأحياناً كثيرة تمويلاً للشروع في أي منها. قدم بيير بورديو على سبيل المثال، دراسة ممتازة حول الحياة الثقافية في فرنسا من خلال تعقب زوار المتاحف الفرنسية وتوجهاتهم. كان ذلك بتكليف من وزارة الثقافة الفرنسية لتطوير المواقع الثقافية منح فيه تفرغاً تاماً للقيام بها على مدى عامين كاملين وحرية فكر ونشر. بالمقارنة، قد يكون علم اجتماع الأدب أيسرها لأنّه يعتمد على مادة متوفرة فيما ينشر من أعمال. وهذا يشبه ما قام به د. علي الوردي الذي أخذ التاريخ كمادة في دراسته للجوانب الاجتماعية والتي أنتج من خلالها عمله "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث". ظهر علم اجتماع الأدب أو سوسيولوجيا الأدب في العالم في سبعينيات القرن الماضي وانتعش في الخمس سنوات الأخيرة نتيجة لغزارة الأعمال الأدبية ومنها القصة والرواية. يمكن لهذا الفرع أنْ يمتد ليشمل الشعر والمسرح والفنون التشكيلية وحتى المقالة. وهو امتداد لما نسميه في العراق "فكر اجتماعي"، نتعقب فيه وجهات النظر الاجتماعية التي عبر عنها كتّاب وروائيون بطريقة مستقلة متحررة من مقيدات النظرية والمنهج الذي يتسم به المشتغل بصورة مهنية في ميدان علم الاجتماع. يمكن لهؤلاء المبدعين أنْ يسجلوا فضلاً على الباحث المتخصص ودفعه للخوض فيما لم يخض فيه، بعد. بالنسبة لنا في العراق، لعب النظام السياسي دوراً مهماً في إدارة وحصر المشتغلين في ميدان العلم للاهتمام بقضايا تهمه كالسياسة والدين والمؤسسات الإصلاحية والتعليمية وما يشبهها. على الضد يخوض الروائي في ميادين أرحب للحياة الاجتماعية ويهتم بشرائح اجتماعية بطريقة "الشخصنة" مما يبث فيها الحيوية والنشاط ويلفت النظر إلى المجهول والمهمل والمهمش فيها. هذه أعمال لا تصب مصباً مباشراً في صناعة النظرية في علم الاجتماع ولكنّها تلعب دوراً ثانوياً وملهماً ويمكن أنْ تعد مكملة بطريقة لا يمكن الاستغناء عنها للعمل كما يحدث في السينما والمسرح. هل تستغني حكومة أو مؤسسة دينية عن قاعدتها الشعبية! هذا ما تأخذنا القصة والرواية إليه وبخاصة إذا ما كتبت بقدر عالي من حرية التفكير والتخلص من المواقف المتحفظة لأن الحياة الاجتماعية تشتمل على أكثر من جانب وأوسع من مجال.
ما هو تصورك بشكل عام في تطوير دراسة علم الاجتماع والدراسات الأنثروبولوجية عندنا ... ما هي الخطوات التي نعتمدها في هذا المجال؟
- نحن نتوارث الأزمات والمعوقات توارثاً منضبطاً ومنظماً. كل ما كتب في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا كان خلاصة لما تم القيام به في مرحلتي الدراسة لنيل الماجستير والدكتوراه زائداً الخبرة والبصيرة التي توفرت للبعض دون البعض الآخر بعد التخرج والانخراط في العمل وبنسب نجاح متفاوتة. كتب علي الوردي مثلاً، كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" معبراً عن نظرته لما رصده من ظواهر ومشاهد اجتماعية. ولم يكن ذلك العمل ليعتمد على دراسات ميدانية دقيقة منظمة واضعاً خلاصة فكره وقناعته واجتهاده فيه. وقدم في "خوارق اللاشعور" لميدان علم النفس الاجتماعي مستخدماً المصادر العلمية التي توفرت لديه معززاً إياها بأمثلة عراقية مألوفة جعلت منه كتاباً مقروءً وممتعاً ومفيداً. وفي "اسطورة الأدب الرفيع" عبر الوردي عن انتقادات حادة للمتمسكين بأهداب الأدب واللغة والمنشغلين عن هموم الناس وغاياتهم اليومية الملحة. وكذلك فعل في "وعاظ السلاطين" عندما هز عرش خطباء الجوامع والمتزلفين للسلطة على حساب مطالب عموم المواطنين. وكانت دراسة "الچبايش" للدكتور شاكر مصطفى سليم (1977) ترجمة لأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه عام 1957 من جامعة لندن. عندما عاد أو تخرج الاجتماعيون أو الأنثروبولوجيون الأوائل بعد نيل شهاداتهم العليا وجدوا أنفسهم في أقسام تزدحم بالطلبة سنة بعد أخرى بدون مستلزمات مادية وتقنية فنية لمواصلة البحث العلمي. خذ على سبيل المثال أننا لا نملك بنك معلومات فيما يتعلق بالتوزيع السكاني والديني والمذهبي والعشائري للمجتمع العراقي. تحتكر وزارة التخطيط البيانات في هذا المجال وتضع مقيدات كثيرة للحصول عليها. هذا إلى جانب أننا بحاجة إلى تكييف الإحصاءات لتخدم أغراضنا في البحث العلمي الأمر الذي لا يتوفر بدون الاعتماد على وحدات أو مراكز جمع بيانات متخصصة تصمم بدقة للاستجابة لمتطلباتنا في البحث العلمي. مر العراق بظروف كثيرة صعبة ومنها التعرض لمختلف الأمراض التي انتشرت نتيجة التلوث البيئي وتغير المناخ وآخرها جائحة كورونا ولكننا لم نتمكن كاجتماعيين من القيام بدراسات وافية يمكن أنْ تحظى بالمصداقية اللازمة بسبب المشاكل والمعوقات المشار إليها. نقرأ بين فترة وأخرى ما يشبه التقرير عن حالات لا تقدم قراءة وتحليل يعتمد عليه علمياً لأنه في الغالب يقوم على عينات عشوائية غير صالحة للعمل علمياً. تتطلب "العشوائية" بالعلم الاجتماعي أنْ تكون هناك قواعد يعرفها المشتغلون في ميدان العلم لا يتمكنون بدونها من سحب عينات ممثلة مقبولة علمياً. ولكن الذي يحدث غير ذلك. وهذا ما أدى إلى تنوع في التوجهات تراوح من "دراسات" ميدانية لا تتسم بالمصداقية أو خروج على ميدان العلم الاجتماعي إلى غيره كالتوثيق والتعبير عن الرأي. لا خير في رأي لباحث علمي لا يستند إلى حجة علمية موثقة تستند إلى دراسات قام بها أو أخرى يستشهد بها مع الأمانة في ذكر من أنجزها.
كان لدينا في العراق وحدات بحوث في كل المؤسسات والدوائر المهنية كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمحاكم والسجون وحتى بعض المؤسسات الإعلامية. تأسست وحدة بحوث في قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد بعد 2003 اعتمدت على عدد من الخريجين ممن حصلوا على شهاداتهم العليا من القسم. بيد إنّ هذه الوحدة عطلت ووجه المشتغلون فيها إلى القيام بمهمات أخرى إدارية وتدريسية مما أدى إلى وقفها وعدم تمكنها من القيام بما انتدبت إليه، أصلاً. وكذلك الحال في مؤسسات أخرى مثل المدارس والمحاكم والمستشفيات. ليس واضحاً ما إذا كان السبب في هذا التحول واهمال الغرض الأساسي للوحدة البحثية المعنية فشلها بالقيام ببحوث علمية يعتمد عليها أم إنّ المؤسسات شعرت بانتفاء الحاجة فكان أنْ أصبحت الباحثة/الباحث الاجتماعي في المدرسة أشبه ما تكون بالمعين أو الموظف الذي يساعد المديرة/المدير بترتيب سجلات المدرسة أو تقديم خلاصات كيفية في المحاكم والاصلاحيات. يحق لنا أنْ نتساءل أليس ضرورياً رصد أنماط المرضى من حيث خلفياتهم التعليمية والاقتصادية والمناطقية لنبحث عن أسباب اصابة بعضهم بأمراض معينة دون غيرهم. ما المناطق التي حققت نسبة إصابة بأمراض السرطان أكثر من غيرها أو الكورونا وغيرها مما يهدد حياتهم. منْ هم الأشخاص أو الجماعات الذين يمكن أنْ يكونوا أكثر عرضة للتأثر بالجماعات المسلحة من حيث التعاون معها أو التأثر بفعالياتها ولماذا؟ ما الذي يفسر هذا التدفق الكبير في مواسم الزيارات الدينية التي تشدد على التمسك بقيم الإيثار والفضيلة فيما تنتشر مختلف أنواع الاساءات والاعتداءات والفقر لدى جمهور واسع من هذه الجماعات على مدى أيام السنة؟ ما الذي أدى بالجامعات إلى أنْ تكون مراكز للفكر الانهزامي وشيوع حالات الغش والتلاعب وشراء الدرجات وكتابة البحوث من مكاتب لا تقوى وزارة التعليم العالي على مواجهتها؟ كيف تفسر ظاهرة انتشار التدريس الخصوصي في وقت ازداد فيه عدد المعلمين الجامعيين وليس خريجي دور ومعاهد المعلمين، فحسب. ما الذي تفعله الشرطة المجتمعية في مواجهة حالات العنف الأسري وبيع الأبناء وتبادل الزوجات وغيرها من الظواهر الغريبة في مجتمعنا والتي تهدد بانهياره وتفككه بالكامل. هناك الكثير جداً من القضايا التي يمكن أنْ يبحث فيها الباحث العلمي لتصمم السياسات وفق نتائجها لا أنْ تترك لمزاج الموظف أو المسؤول وثقافته وتقديراته الشخصية. لا يمكن للبحث الاجتماعي العلمي أنْ يبلغ مرحلة التنظير إلا بعد تحقيق تراكم كبير في مثل الموضوعات المشار إليها وهذه مهمة جمعية وليست فردية.
بالمقابل، تخصص الجامعات الأوروبية والأمريكية فقرات في برامج تأهيلها لدفع الطلبة والباحثين ليقوموا بدراسات ميدانية في بلدان أجنبية كما في العديد من الدول الأفريقية والآسيوية أو دراسة الجاليات المقيمة في بلدانها. ليس لدينا اهتمام على هذا الصعيد. يقوم الطلبة في الغالب في بلادنا بدراساتهم على نفقتهم الخاصة مما يرهقهم كثيراً ولهذا السبب فإنّهم يتجنبون الترحال خارج محافظاتهم فكيف بخارج بلادهم. لن يكون ممكناً النهوض بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا خارج تخصيص الأموال اللازمة لدعم الدراسات الميدانية للخروج من عباءة الرأي والبصيرة المجردة لأنهما لا يكفيان مع ملاحظة أنّ تخصيص الأموال وحده لا يكفي لأنه يمكن أنْ يكون بوابة للهدر والفساد المالي. ينبغي للأموال أنْ توضع في ميزانيات تحت اشراف علماء أكفاء بإدارات فنية تعمل بنزاهة وانضباط قانوني للتأكد من توجيهها الوجهة السليمة إلى جانب التأكد من رصانة البحوث العلمية المنجزة ونشرها ليتمكن مريدوها من الاستفادة منها واعتمادها. لا قيمة لبحث أو دراسة علمية لا تخضع للتقويم والتعديل وبالتالي النشر في مجلات علمية محكمة.