القسم الثاني
إذا كانت اليوتوبيا بنية مكانية بديلة ومبتغاة ترتبط ارتباطا وثيقا بالخيال، فإن الدستوبيا بنية تاريخية غير مبتغاة خلفتها جملة أزمات وصراعات انتهت بها إلى سوء الحال والمآل وخلل الأهداف وعقم الوسائل وتردي الأعمال وانعدام الخدمات وتلاشي الخير وسيادة الشر.
وتعد جنة عدن مثالا لليوتوبيا وقد ذكرت في سفر التكوين وفي القرآن واختلف الباحثون في تحديد مكانها، فقيل هي في اليمن وقيل بين نهري دجلة والفرات أو في جيحون في أرض كوش وقيل في أرض دلمون. وكثيرة هي الأعمال القصصية التي اشتملت على يوتوبيات حالمة لا وجود لها على أرض الواقع. وقد أحصاها الباحث «ديفيد سيد» فوجد أن عددها ما بين أواخر القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى يزيد على مئتي قصة. وعُرفت قصص الدستوبيا في القرن العشرين وفيها المدن فاسدة بلا نظام ولا رحمة ولا إصلاح. أما الهيتروتوبيا Heterotopia فمصطلح مكاني وسطي وهجين ما بين اليوتوبيا والدستوبيا بوصفها انتباذا فيه تتغاير الأمكنة كتصورات تلائم المدينة الحديثة اليوم وكوجود حقيقي في الواقع المادي المعيش الذي هو معقد إلى درجة التناقض.
وتعد رواية( كانديد) لفولتير أوضح مثال على الهيتروتوبيا وفيها استلهم الكاتب فكرة طرد آدم من الجنة ليبني عليها فكرة روايته الفلسفية هذه. وبطلها كانديد الشاب الذي سكن في قصر جميل لكن حبه للبارونة كونيغوند جعله يخسر هذه الجنة بعد أن طرده البارون شاندر شر طردة، ليعيش الضنك ويعرف البؤس ويدخل في سلسلة مغامرات،( بعد أن طرد كانديد من الجنة على الأرض مشى طويلا من دون أن يعرف إلى أين يذهب باكيا ورافعا عينيه إلى السماء وملتفتا غالبا إلى أجمل القصور الذي تعيش فيه أجمل بارونة)( كانديد ترجمة أنا ماريا شقير، ص38).
لكن تمسك كانديد بالفطرة جعله ينجو من كثير من الأفعال الشريرة، وبعض تلك الأفعال أوصلته إلى الموت لكنه نجا بما يمتلكه من العقل وما لديه من البراءة لاسيما حين حُكم عليه بالقتل لكن الملك عفا عنه (هذا الملك كان عبقريا فقد فهم من كل ما أخبره إياه كانديد أن هذا الشاب عالم ما ورائيات يجهل بأمور هذا العالم، فعفا عنه عفوا ستتحدث عنه كل الصحف في كل العصور) ص42. ويصل كانديد في نهاية الرواية إلى الاعتماد على عقله الاجتماعي في العيش داخل مدينة هيتروتوبية، فيها تبدو كل الأمكنة ممكنة ومترابطة حتى إذا قال له بانغلوس ( لو أنك لم تطرد من قصر جميل وتضرب على قفاك بسبب حبك للآنسة كونيغوند.. لما كنت تأكل هنا ثمارا وفستقا) رد كانديد بعقلانية ومنطقية (هذا صحيح ولكن يجب أن نزرع حديقتنا) ص300 ، فبدلا من الانقطاع عن الحياة أو اعتزالها يكون العمل هو الطريق نحو السعادة وسيكون التفاؤل هو النهاية السعيدة لكل عمل مثمر وخيّر.
من هنا تأتي منطقية أن يكون العقل الاجتماعي كمفهوم ثقافي هو الصورة العملية لكيان معرفي خيالي يريد أن يكون واقعيا متجسدا في شخصية تفكر بإجرائية منطقية. وكلما ازدادت فاعليتها التفكرية تعززت استقلاليتها أكثر وكانت أقرب إلى صنع مدينتها الهيتروتوبية بتفاؤلية حقيقية بعيدة عن المثالية الطوباوية للامكان أو النظرة السوداوية المتشائمة للمكان المعادي والأليم. ويتوقف أمر صنع مثل هذه المدينة بالطبع على طبيعة المغايرة داخل العقل الاجتماعي، وهو ما عرفه فولتير فبنى لبطله مدينة لا تتوفر فيها السعادة ولا يتحقق فيها الرخاء والأمان بمجرد الأحلام والأمنيات؛ وإنما هو العمل بنوايا سليمة، تبعد كل المفاسد التي يمكن أن تفضي إلى الشقاء والعيش المرير.
وتعد مخططات المدن الهتروتوبية من أشهر أشكال بناء الأمكنة في السرد ما بعد الحداثي لاسيما في رواية الأفكار، بعكس الرواية الواقعية التي عادة ما تتخذ من مخططات المدن الدستوبية وأحيانا اليوتوبية طريقا لبناء أمكنتها التقليدية. وليست المدن الهيتروتوبية أماكن مستقبلية متخيلة أو فضاءات يُرتجى صنعها في الواقع الحقيقي حسب، بل هي أيضا استثمارات اقتصادية بهندسيات جغرافية، كامنة خارطتها في وعي الإنسان أصلا ليقوم بتطبيقها على أرض الواقع بالعمل الفعلي في شكل تجمعات سكانية أو مصانع عمالية مستقبلية أو مستعمرات اشتراكية أو تعاونيات مجتمعية أو ورش إنمائية صغيرة ذات كفاءات إنتاجية.
والمعتاد في الروايات الواقعية التقليدية أن يحلم أبطالها أحلاما رومانسية متطلعين إلى أرض ضائعة لا وجود لها أو فردوس مفقود للأبد أو مؤمنين بآيديولوجيا طوباوية أو تنظيم أوتوقراطي أو بفكر مثالي، مما حاول الروائي ذو النون أيوب تجسيده في روايته ( اليد والأرض والماء) 1948. وقد خاص حقيقة تجربة عمله الروائي هذا، وهو القائل في مستهل العمل (هذه رواية بناها الخيال من لبنات الواقع .. فهي خيال محض إن أردت واقعا محضا. وهي حقائق صادقة إن أردت حقائق عامة غير مربوطة بقيود وحدود.. الحقيقة أغرب من الخيال) ص7.
وتتجلى مأساة البطل سليم في مشروعه الزراعي الحالم الذي حال الواقع الاقطاعي الفاسد دون تحقيقه وهو ما جعل الرواية تبدأ بمثل ما تنتهي به وهو أن يفقد سليم وعيه مغشياً عليه؛ حين رأى في مفتتح الرواية أهل بلدته يتقاتلون( غامت الدنيا في عينيه وارتمى على الأرض فاقد الوعي)ص10. وثانيا في ختام الرواية حين فقد وعيه أيضا بعد أن طعنه أحدهم بخنجر في معركة دارت بينهما من أجل الأرض/المشروع. وفي هذا ترميز الى أن المشاريع اليوتوبية ليست رهناً بمنفذيها، بل هي رهن بأمور خارجية تتمثل في السلطات الجائرة كالاستعمار والاقطاع والشركات والأنظمة البيروقراطية والعادات البالية المترسخة في المنظومة المجتمعية والحائلة دون التطوير والتقدم. وذو النون في توجهه الفكري هذا إنما يعبر عن إيمانه باشتراكية (روبرت أوين) التي أراد من خلالها خلق مجتمع جديد بعلاقات جديدة، فيها الانسان هو نتاج البيئة التي يعيش فيها حيث إلغاء الربح وتحقيق التكافل والتكافؤ مسائل أساسية في بناء مدينة فاضلة تعيش على وفق نظام عادل ومتوازن.
ولقد تجاوزت الروايات ما بعد الحداثية مثل هذه التصورات اليوتوبية وصارت تبني مدنا هيتروتوبية بديلة عن المدن الافلاطونية الفاضلة واليوتوبيات الذهبية التي ولى زمانها، بعد أن حلت الثقافة محل الايديولوجيا وغدت الفئات المهمشة قادرة على تقرير مصير البشرية وصار التفكير العملي حاضرا في تفاصيل الحياة اليومية بحثا عن حلول منطقية لمختلف المشاكل والأزمات التي تعتري الواقع الاجتماعي، ولا مناص من انتقاد الثوابت والثورة عليها وعلى أي أمر يمكن أن يقف حجر عثرة أمام حركة التطور التاريخي.
ويكون التهجين الابستمولوجي بين الخبرات الثقافية والاركيولوجية وبين ممكنات الواقع الافتراضية هو السبيل إلى بناء تلك الهتروتوبيات المتغايرة لتكون ماثلة للعيان بعيدا عن أي تصورات عدمية ودغمائية، مما جسدته رواية الأفكار(مشروع أومّا) للطفية الدليمي في شكل مشروع هيتروتوبي تنموي، وُضعت له مخططات ثم حُدد له اسم(أومّا) وحوله ستدور الرواية برمتها، وفيها الشخصيات مفكرة تمتلك حصيلة معرفية من علوم ومعارف شتى، ستؤهلها لأن تتجاوز أزماتها الخارجية وتتعالى على همومها الداخلية منغمسة في هم واحد هو البحث عن سبل إنجاز المشروع على وفق تجارب ملموسة توفر الخبرة والمشورة وتجعل متطلبات الإنجاز ممكنة وواقعية.
وهو ما أعطى للشخصيات صورة فكرية تخالف الصورة النمطية المعتادة؛ أولا في براءتها وحسن نواياها وهي تنهمك في إعداد خطة العمل، وثانيا في احترافها المهني وهي تضع بدائل تخمن احتمالات، تتوقع حصولها وثالثا في احترازها للحالات الطارئة التي يمكن أن تحصل خلال عملية تنفيذ المشروع، ورابعا في عدم اتكاليتها على ما خلّفه لها الأسلاف من إرث وموارد وطاقات.
ولأن الناس ـ كما يقول الاشتراكي روبرت أوين ـ نتاج موروثاتهم وبيئاتهم، صنع الجيل الجديد من اللاشيء شيئا. فكان التاريخ هو الذاكرة التي ينبغي ألا يطالها النسيان(نحاول وصل ما انقطع من جذورنا في نحو 2327 قبل الميلاد 2027 بعده، كلنا نعاني من حكم اللصوص الذين استولوا على مقادير البلاد وأعادوها إلى قاع التخلف معضلتنا الأولى موضوع الطاقة: الكهرباء والوقود ثم المياه والغذاء.) ص109.
وبحثاً عن الحلول الممكنة التي تعود بالنفع على البشر من جانب وتحافظ على البيئة من جانب آخر، كانت أغلب الوسائل محلية وطبيعية تحاول أن تستغني عن التكنولوجيا الحديثة بالاكتفاء بما في الطبيعة من ثراء، فمن أبراج الرياح كحل لأزمة الطاقة الكهربائية التي توقف تزويد البلدة الصغيرة بها عام 2026 إلى الإفادة من مزارع المشروع ومعامله في توفير فرص العمل التي قللت البطالة وساهمت في سد ضائقة الوظائف التي شحت وولى زمنها كما لم تعد الشهادات تخدم الحياة ولا هي الضمان للعائلة.
وأدركت الشخصيات المنفذة للمشروع والمستفيدة منه أيضاً أن للعقول دوراً في توجيه العواطف توجيها يخدم المجموع البشري فكانت السعادة أول تبعات العقل الاجتماعي.
ومشاعر السعادة والتكافل جعلت( الهجمة الاستهلاكية البشعة) التي كانت صورة من صور النظام الرأسمالي وشراسته تتقلص ويقل خطرها. وكانت العقلانية في التعامل مع الأزمات هي التبعة الثانية من تبعات العقل الاجتماعي التي تجاوزت الفكر اليوتوبي المتطلع الى الامل واللامكان، يقول عادل:( أننا لا نبحث عن فردوس متخيل ولا نعمل على إيجاد جنة أرضية أو يوتوبيا لقد ضيقوا علينا الخناق نحن في ضائقة والسلطة عاجزة تماما ولم تعد تقدم الخدمات الأساسية مشكلتنا الأولى هي توفير الطاقة والماء والغذاء الكافي) ص107
أما أهمية التاريخ في بناء المستقبل فهي التبعة الثالثة من تبعات العقل الاجتماعي في بناء المشروع بناءً واقعياً، إذ كلما كان الامتداد التاريخي بعيدا كان التطبيق العملي منطقيا ومبررا. وأما تغيير العادات من اجل إدامة الحياة فهو التبعة الرابعة.
وإذا كانت الأنظمة الوحشية الباحثة عن الهيمنة والاستحواذ والبذخ والاستهلاك تتخذ من المدن مركزا لها، فإن الانظمة الاجتماعية الصغيرة والضعيفة تتخذ من التعاونيات الصغيرة مركزا لها باحثة فيه عن السلام والوئام وممارسة مشاريعها الصديقة مع البيئة والمتصالحة مع الاخر والمبنية على التكافؤ في الفرص والتعادل في الانتاج. وليست فكرة استثمار ممكنات البلدة الطبيعية عبارة عن تجربة يوتوبية ذهبية خيالية كتلك التي بناها هاريسون في روايته( افسح المجال) 1966 وجورج اورويل في روايته( 1984)، بل هي نموذج حي لبلدة بنيت على خلفية بلدة فاسدة وذلك باعتماد معايير اجتماعية تكافلية تأتّى تحقيقها بالتعاون الفعلي والشراكة المجتمعية.
وبذلك تكون المشاريع الاقتصادية الصغيرة في منأى عن شرور المتروبوليات الاقتصادية البشعة متمتعة بالاستقلال والاندماج واللامركزية. وهو ما تحدثت به زهيرة مع عمها عادل فذكرت كيف أن فكرة المينماليزم أي الاكتفاء بالقليل جدا من الاشياء والممتلكات صارت تشيع في العالم الغربي لكن عقلها الاجتماعي سرعان ما جعلها تستدرك على نفسها بوعيها المعرفي، مبينة أن أصحاب الفكرة لم يأتوا بجديد لأن هذا الالتفات الى الترشيد وعدم التبذير وضرورة الاكتفاء بما يسد الحاجة بعيدا عن الإسراف هو شأن الزهاد على مر الازمنة.
وإذا كانت العقول الاجتماعية للشخصيات المنفذة لمشروع أومّا قد عدت تجاربها العملية طريقا لانقاذ بلدة الصافية، فإن الطريق أمام انجاز تعاونية هيتروتوبية ما زال طويلا، ويحتاج كثيرا من التفكير والعمل المقاوم لمختلف أشكال التعطيل السياسية منها والعقائدية.
ولا يعني الاعتماد على العقل إنكار دور العواطف بل هي موظفة في تنفيذ جوانب مختلفة من المشروع. فعقل إبراهيم الهندسي كان مفيدا في التفاوض على شراء الالواح الشمسية، وعقل زهيرة البيئي كان ذا دور في انشاء الابراج من جذوع الاشجار مستغلا طاقة الرياح وكان عقل فلّاح الزراعي مبتكرا في الإفادة من خيرات النخيل، وكذلك كانت لعقلي مها وعادل وغيرهم أدوار مهمة في تنفيذ جوانب أخرى من مشروع أومّا.
وبذلك يغدو(مشروع أوما) فردوسا أرضيا وسط جحيم الواقع، فيه أدى العقل الاجتماعي دورا مركزيا فلم يكن فراديس ليوتوبيات افلاطونية كما لم يكن خرائط لدستوبيات واقعية، بل كان تعاونية زراعية متغايرة ليس فيها تسلط فكري ولا استغلال طبقي وباشتراكية روبرت أوينية حيث كل شيء يتسم بالتوازن والتنظيم ويخضع للتخطيط ويلتزم بالتفكير العملي الحر في النظر للحاضر والمستقبل معاً.