سيظلُّ الصِراع أبديًّا، ذلك تُعانيه المرأةُ في ظلِّ ما يُسمّى بالسُلطة الذُكورية العُليا والتّي تَرى أنّ المرأةَ مجرّد ظِلٍ للرجل،
ولا يُمكنها أنْ تقول كلمتها ولا أنْ تفعلَ ما تُريد، حتّى أنّ بعضَهم ما زال يعتبرها عورة ويُحرمها من أبسط حقوقها، خاصّة عند المجتمعات التّي لم تَستوعبْ بعد فكرة، أنَّ المرأة مثلها مثل الرَجُل ويُمكنها أنْ تكون شريكةً بالحياة، والنجاح، فلا ينبغي أنْ يكون خلف كلّ هذا:
«رجل يقرّر مصير امرأة، ترغبُ في أنْ تكون حُرّة» كما جاء بالرواية، ولكن ورغم كلّ هذه التأثيرات السلبية، وجبَ القول أنّ هناك نماذج من النساء افتككن حريّتهن، وحُريّة غيرهن بجسارة، وأصبح يُضرب بهن المَثل، لكن هل لك أنْ تتخيّل أنّ المرأة بالمجتمع الأمريكي كانتْ تعيشُ هي الأخرى وِفقًا لهذه الرؤية الذُكورية، أي أنّها لا شيء دون الرجُل؟
أحيانًا «الأسئلة التي نطرحُها أهم بكثير من الإجابات التّي نتلقّاها» على حدِّ تعبير بينك بالرواية.
وللإجابة عن هذا السؤال كتَبَ الروائي الإيطالي نيكولا أتاديو سيرة إليزابيت جاين كوكران المدعوّة نيلي بلاي في رواية «حيثُ تولد الريح»، التي صدرتْ مُترجمةً إلى اللغة العربية عن (منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا،2021). محاولًا الإشارة لكلّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانتْ تتميّز بها تلك الفترة،متتبّعًا روائيًّا أثرَ الصحافية الاستقصائية الحُرّة نيلي بلاي،التي علّمت الأمريكان والعالم بأسره، كيف يمكنُ للمرأة أنْ تكون حُرّة في المطالبة بحقوقها،خاصّة نساء الهامش،اللواتي لا يمتلِكنَ حظوظ النجاح، ولا يستطِعنَ مُجارات الحياة وتعقيداتها، متحدّثًا في البداية عن نشأتها و ظروف حياتها من فقر و يتم، إلى ظهور ملامح القوّة لديها، حين رفضتْ الزواج، وظلّت تقرأ كل ما له علاقة بالنساء الضعيفات، المُعدمات،لتقرّر الكتابة، بعد أنْ قرأتْ مقالًا يُسيء للمرأة، و من حُسن حظّها أنّ كاتبَ المقال لم يُمزّق ما كتبَتْه، بل أرسله إلى مدير الجريدة« جورج مادين»، الّذي شعر هو الآخر، أنّ بإمكان هذه الفتاة قول الكثير، فكان لها ما أرادتْ،إذ نشرتْ أوّل مقالٍ لها، موقّع« بقلم فتاةٍ يتيمة وفقيرة».تحت عنوان «مُعضلة النساء»، وممّا جاء في تساؤلها الّذي أحدثَ بالفعل تغييرًا كبيرًا في الذهنيات آنذاك :»ماذا سنفعل بفتياتنا؟ لا أتحدَّث عن الجميلات ولا الوريثات، لا أتحدَّث عن هؤلاء، ولكنّني أتحدَّث عمَّنْ هنَّ بلا موهبة، بلا جمال، بلا نقود. ماذا سنفعل بهنَّ؟
هكذا صدقَت ظنون المدير الشاب مادين، إذ كانتْ انطلاقتها قوّية من خلال ذلك المقال الّذي أحدثَ فوضَة كبيرة بين مؤيد ومعارض، فهي أمدّت النساء بالقوّة في السعي للحصول على حياة أفضل، وأنّ لا شيء يبقى لحاله مع الإصرار والعزيمة.
يسرد نيكولا أتاديو من خلال الرواية تفاصيل التحقيق السري الذي أجرته داخل مصحّة الأمراض العقلية والنفسية بنيويورك إذ أنها ادّعت أنها مصابة باضطرابات عقلية، لتكشف معاناة المرضى بسبب انعدام أبسط الشروط الإنسانية،وهكذا ثارت مجدّدًا لتفضح كلّ قضايا الفساد بذلك المستشفى، ليتم التدخل وتحسين الوضع.
تعرض الرواية كذلك جوانبًا أخرى من حياة نيلي بلاي،التي سيكتشف القارئ من خلالها تجربتها المختلفة،وثورتها ضد السلطة الذكورية بأمريكا.
يعيدُ الكاتب احياء سيرة هذه المرأة مجددًا، عن طريق كتابة «حيث تولد الريح»،كي يشارك حكاية كفاحها مع نساء العالم، اللواتي يأملنَ في حياة أفضل، وفي الوقت ذاته ليقول أنّ نيلي بلاي، قبل أن تكون ثائرة، هي فكرة، والأفكار لا يمكن أن تموت بأي شكلٍ من الأشكال ، بل يجب أن نخلق نماذجًا على شاكلتها، إذ بفضلِ الأدب كما يقول أنطونيو تابوكي: « نكتشف كلّ الاحتمالات الهائلة الموجودة في العالم، فهو يهدي إلينا تجارب الآخرين وحيواتهم.»
انتصرت نيلي بلاي للمرأة ولحقوقها مؤكدة أنّ الكتابة، شأنها شأن السلاح، يمكنها أنْ تغيّر الكثير : «بقوة الكلمات فقط استطعتِ أن تحولّي مسار وجودك، أدهشت الجميع، لأنك رغبتِ في أن تقرري مصيرك بنفسك، وفعلتِ ذلك بالفعل، لم تتراجعي، على الرغم من أنّ العالم كله كان يصرخ بسبب الفضيحة.»
توضح الرواية فكرة أن القوة الحقيقية للمرأة تأتي من مكنوناتها الداخلية،حين تؤمن أنها قادرة على تحقيق ما تريده من أحلام دون أن « تقايض أبدًا كرامتها بأي نوع من أنواع الأمان، لا يجبُ أن تعتمد في حياتها على رجل، لن يحدث هذا أبدًا.» إذ بإمكانها رغم كلّ شيء أن تبدأ من الصفر، وأنّ هناك دائمًا متسعٌ من الوقت، لمن يريد أن يحدث تغييرا إيجابيا بحياته، ودائما هناك فرص متاحة لمن يريد أن يستغلها.
ما حققته نيلي بلاي لأجل النساء في أمريكا، هو ما جعل الروائي والصحفي الإيطالي نيكولا أتاديو يكتب سيرتها، لترغب المترجمة المصرية القديرة أماني فوزي حبشي في ترجمتها بعنوان حيث تولد الريح، لتشاركها منشورات المتوسط مع القارئ العربي، يثبتُ قوة الكلمة وسطوتها في مواجهة الظلم.