مثل صندوق العرس.. ينباع خُردة عِشِق مِن تمضي السنين !
أقرأ قصائد مظفر النواب الشعبية التي تحولت الى أيقونات وجدانية لدى جيلنا والجيل اللاحق، فأنتشي طربا لبلاغة التعبير وشعرية الصورة وغناها الحسي والوجداني، وأبعادها الرمزية المتواشجة مع ذاكراتنا الجمعية، وأتذكر دوما ما قاله مظفر :
أنه : ( في الفصحى ينحت في الصخر، وفي العامية يشتغل على الطين). الله ما ابلغ التشبيه وما أدق الاعتراف، وكم هو الفارق بين المادتين!!
ويا لروعة الطين الناعم الطري ، الطين الحري الأحمر الشهي ، يا لبدائيته وعراقته وتواصله الحميم مع الجسد البشري المجبول من تراب وماء، واندغامه مع الروح المنسوجة من أهواء ورؤى وصبوات ، تشبيه رائع ودقيق لنضارة الشعر العامي وسخونته، مثل جِبلة الطين الحارة التي تتشكل منها الصور، وهو اعتراف جريء من صـانع بارع للشعر العامي، تسمو قصائده العـامية الساحرة إلى ذرى المنجز الشعري الشعبي، بقدرتها على استيعاب الحالات الإنسانية التي يتصدى لها شاعر مرهف ومبتكر صور فاتنة مثل النواب. يرى مظفر النواب (أن العامية مطواعة وتحتمل حرية أوسع في الاشتقاق)، وقد يفسر هذا جانباً من تحقق شعريته الحقيقية في أعماله العامية، وليس أجمل من قصيدته (الريل وحمد ) التي غدت أنشودة يتداولها المولعون بالشعر الشعبي عراقيا وعربيا، وتتجلى براعة النواب في تعاطيه مع العامية في كل اعماله وبخاصة في قصيدته التي اعدها جوهرته الثمينة ( مو حزن.. لكن حزين).
قصيدة عن لوعة التخلي والنكوص والخذلان والوحشة الوجودية في عالم جاحد، لا يمكن إلا لبلاغة العامية المطواعة التي يمتلك مظفر مفاتيح أسرارها- أن تمنحنا هذا الإحساس الصادم بالخذلان والجرح المكابر وخيبة الأمل..
(مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس/ ينباع خردة ْ عِشِقْ من تمضي السنينْ/
مو حزن لكن حزين /مثل بلبل كِعَد متأخر لِكـا البستان كلها بلايا تين..)
الى أن يقول:
(ما بكيتك/ فارَقِت أنت السفينة/وأنا جايبلك بحر..!
جبتلك طوفان الحلم/حلم منذور بغياب الشمس/
فارقت حلم الناس ومَلّيت السفينة والسفر؟
ما بكيتك انا بكتني السفينة!
منين ما طَشّ الرذاذ .. تريد تبحر!
تِدري نوبات السفن لو ضاق خاطِرها بجبن قبطانها تسافر وحدها!
أنا ما بكيتك، أنا بكتني السفينة!)
أه من جبن القبطان والقباطنة جميعا ، جبنهم الذي يسبب انكسار القلب وانهيار الرجاء .
ليس غير مظفر من يبتكر شحنات الشجن، ويعبر عن تشظي الروح، بثراء عاميته وصوره المبتكرة، فهذا التشبيه البليغ للتخلي (مثل صندوق العرس ينباع خردة عِشِق من تمضي السنين)، يوجز تاريخا من الارتباط الفكري والروحي المخذول ونبرة الحيف الموجع الذي قاله مظفر ببلاغته الساحرة، ويؤكد ما قاله الناقد المصري الراحل لويس عوض عن بيت من الشعر العامي المصري ( ورمش عين الجميل يطرح على فدان) ووصفه بأنه يساوي الف ديوان من الشعر الفصيح متوسط القيمة،
لست من دعاة العامية في الأدب، بل أنا الأشد شغفا بجماليات اللغة الفصحى، واشتغالا في مديات سحرها، وبيانها، غير أني أحتفي بالطاقة التعبيرية الهائلة الكامنة في المفردة العامية، وأحيي طواعيتها للصانع الماهر مظفر الذي ادرك انها تسمو بنمط محدد من الوظائف كالشعر الشعبي والأغاني والتواصل اليومي وتصريف أمور الحياة..
لك البقاء والخلود في قلوب محبيك ايها الصانع الماهر للشعر الشعبي ، وانت الذي قلت من فرط الأسى : ( متعب منّي ولا أقوى على حملي ، ) والان حلقت بك الروح حتى الاقاصي لتحملك برهافة قصيدة ورقتها وتنجيك من أوجاعك الارضية وانخذال الروح ووهن الجسد .
لطفية الدليمي