من بين ابرز الفعاليات المتميزة لاحياء الذكرى 25 لرحيل الجواهري، التي تصادف في 2022.7.27 اعلنت امانة العاصمة العراقية - بغداد مؤخرا (حزيران 2022) التوجه لافتتاح بيت الشاعر الخالد، نواة متحفٍ لاثاره، وتراثه، ومركزا ثقافيا وطنيا، وعسى ان يكون الامر جدياً هذه المرة، اذ سبق ان قامت الامانة، بل واعلنت، مرات سابقات عن"وعود" و"مواعيد" عديدة عن ذلك الشأن، ولكن لم يتم الالتزام بالمواعيد والوعود، لاسباب تنسجم مع الحال العراقية، المعروفة، ولا نزيد !!..
* وهذا والموعد الجديد يأتي بعد نحو احد عشر عاما مرت على اطلاق كتابات ومطالبات وحملات اعلامية داخل البلاد وخارجها، بادر اليها مركز "الجواهري" في براغ، وتابعها، ليعلن بعدها أمين العاصمة الاسبق، صابر العيساوي، عام 2011 قراراً باستملاك بيت الشاعر العظيم في بغــداد، الواقع في منطقة القادسية / حي الصحفيين، بهدف منع بيعه تجارياَ، ودثره.. وعوض ذلك العمل على تحويله ارثاً ثقافياً ووطنياً، وتحويله إلى متحف يضم ما تبقى من مقتنيات وآثار شاعر الأمتين، العراقية والعربية، التي تناهبتها الأحداث، والمغتربات، وآخرهما تعترابه في العاصمتين التشيكية والسوريـة: براغ ودمشق...
* وبعيداً عما نشر بهذا السياق، في وسائل الاعلام العراقية، والعربية، من مقالات وتصريحات واستكتابات متنوعة ومتباينة، لنا عنها، وحولها، كثير من التساؤلات والتوضيحات المؤجلة لحين قريب كما نتمنى ... نقول بعيداً عن ذلك: ان البيت المعني هو الوحيد، ولنقل: الأول والأخير، الذى تملكه الجواهري في العراق، عبارة عن مبنى اعتيادي تبلغ مساحته مع حديقته: 540 متراً مربعاً، ، شيّــد على قطعة من الأراضي التي وزعتها الدولة، ذات زمان، على الصحفيين ... وقد انجزت اعمال بنائه أواخر العام 1971 بشكل متواضع، وغُطيت نفقاته بين تمويل ذاتي، وقرض من البنك العقاري، وديون شخصية... وقد سكنه الجواهري وهو رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين آنذاك، منتقلاً إليه من الدار التي استأجرها له نجله "فلاح" أواخر العام 1968 في حيّ الداوودي، عند عودة شاعر البلاد العراقية إليها، بعد "سبع عجاف" قضاها اضطراراً في اغترابه الأول إلى بـراغ، بدءاً من عام 1961 حين "لم تكفل له الأوطان دارا"...
* وبيت "ابن الفراتين" الذي نتحدث عنه ليس سوى بناء تقليدي كما اسلفنا، يضم ثلاث غرف نوم، وواحدة للاستقبال، وأخرى للجلوس، مع المرافق الضرورية... وقد شهد طوال عقد السبعينات الماضية أحداثاً ووقائع وتفاصيل متشابكة لمديات بعيدة في الشؤون والشجون الوطنية والثقافية والشعرية وما إليها، وما بينها...
* وذلكم البيت، ونكرر انه الأول والأخير، والوحيد، على ما ندري ونؤكد بيقين، تملّكه الجواهري، بعد ترحال وإقامة واغتراب، وتغرب، وهو لا يحمل معه غير "منقار وأجنحة" على مدى نصف قرن ... وفي ليالي ذلك البيت، ونهاراته، أينعت العبقرية الشعرية قصائد ومطولات عديدة، فيها ومنها الانساني، والوطني والاجتماعي والوجداني، ولافكاك بينها من التداخل والتلازم مع الهموم والانشغالات الفكرية والسياسية والاجتماعية وما إليها...
* وعلى مدى السنوات العشر – تقريباً – وللفترة (1971-1980) تحديدا، التي عاشها الرمز العراقي في بيته الذي نعني، عصفت بالبلاد وأهلها محنٌ هنا، ومآسٍ هناك، تحت سلطة الحزب الواحد فالعشيرة، فالعائلة فالفرد... وقد كان الجواهري يعيش تلك الأجواء الأليمة، بكل صبر، وان تغلفت أحياناً ببراقع، وترقيع، تفاءلَ بها البعض، غير القليل، بآمال وتمنيات ولحد المبالغة في أحايين عديدة...
* وبهذه الحال كان ذلك البيت ذاته – لا غير – مزار أطياف ونخب سياسية متباينة الرؤى والمسؤوليات، وحتى الوفاء احياناً، فبعضها صادق أمين، وآخر متزلف متدثر بألف زيٍ وزيّ، ولكنها كانت جميعاً، في حضرة الجواهري – على ما نشهد - دعاة تآلف ومحبة، وان راحت احياناً في الأقوال وحسب...
* كما ان البيت الذي نعنى، بات ملتقى للنخب الفكرية والثقافية والشعرية، من كل النحل والرتب، تؤم مقام الجواهري: مودة وتلمذة وتباهياً، دعوا عنكمو الآخرين الذين كانوا يريدون صكوك الغفران. وكم يطول التعداد، ويعرض، ويعلو، لمن زار، وأحـبَّ، وتبارك بزيارة أو لقاء أو حديث مع الشاعر الرمز...
* وإضافة لكل ما تقدم، شهد ذلك "البيت" التاريخي منح الجواهري جائزة "لوتس" عام 1975 وولادة أول جمع وتدوين لتراثه الشعري في مجموعة هي الاولى من نوعها حتى اواخر السبعينات، ونعني بها الأجزاء السبعة (1973-1980) التي أشرف عليها، مع حفظ الالقاب: مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وابراهيم السامرائي ورشيد بكتاش... كما راحت تترى من البيت ذاته مختارات الجواهري لعيون الشعر العربي، أواسط السبعينات لتنشرها صحيفة الجمهورية البغدادية بمتابعة محمد حسين الأعرجي ... ذلكم إلى جانب ما شهده – البيت- من مقابلات وحوارات تاريخية مع الجواهري ومن أهمها على ما نزعم الحواران التي انجزهما محمد الجزائري عام 1975 وحسن العلوي عام 1979...
* ومن ذلك البيت الذي نوثق له، وعنه، كانت انطلاقات الجواهري لعواصم عربية وعالمية عديدة: رئيساً لوفود أدباء العراق في مؤتمرات ومشاركات رسمية، أو ضيفاً أول على فعاليات ومهرجانات عديدة: شعرية وثقافية وغيرها، ومنها في دمشق وتونس وصوفيا وموسكو والدوحة والكويت وابي ظبي وعديد سواها، اضافة الى براغ التي بقيّت "جنة الخلـد" عنده ... ذلك الى جانب " فراره " من البلاد لفترات متفاوتة الى القاهرة والرباط واثينا،... مخاصماً وغاضباً ومغاضباً، مسؤولين وحساد وحاقدين، بل وحتى محبين "علهّم كانوا حيارى في مفترق الطرق" ..
* وفي ذلك البيت الذي نعني، اينعت روائع جواهرية، ومقطوعــــات وجدانيـــة ووطنية واجتماعية عديدة، نحصر منها : مطولة "حبيبتي" عن زوجته آمنة... مناجاة "يا فرحة العمر" عن شقيقتـــه نبيهة ... مقطوعة "ابا مهند" إلى نديمه مهدي المخزومي ... بائية "إلى وفود المشرقين" في تجمع عالمي ببغداد... دالية "أزح عن صدرك الزبدا" المجلجلة في احتفاء اقيم له في النجف... " فتى الفتيان" عن صديقه "المتنبي" في مهرجان مهيب ببغداد ... ولامية "أم الربيعين" خلال احتفال تكريمي خاص به في جامعة الموصل ...
* كما، في ذلك "البيت " ايضاً لا غيره " نُظمت " قصائد مجاملة، كان بعضها استجابة لمناشدات – كنا شهود عيان على بعضها – وذلك من شخصيات وطنية، لكي يلقي شاعر البلاد، ورمزها العظيم، بثقله، ويحاول تأخير انقضاض سلطات البعث - ولو لبعض الوقت - على الأحزاب والقوى الوطنية "المتحالفة" معها أو "المعارضة"... ومعلوم طبعاً ما جرى خلال عقد السبعينات الماضية من عسف وقمع وارهاب شمل الالاف، ومن بينهم ً نجل الجواهري "كفاح" اعتقالاً وتعذيباً، وكذلك ابنته الوسطى "خيال" احتجازاً وتخويفاً... ثم، ومن ذلك البيت الذي نؤرخ له، لجأ الجواهري إلى الاغتراب مجدداً، غضباً، وموقفاً من سياسات وتوجهات السلطات الحاكمة، فغادر إلى براغ أولاً مطلع العام 1980 ثم ليتناصف الاقامة بينها ودمشق منذ عام 1983 وحتى رحيله عام 1997…
* ثم دعونا نوثق بايجاز مما توفر لنا سريعا بهذا السياق، فننقل عن " أميرة " ابنة الجواهري الكبرى في حديث خاص معنا في دمشق (آيار / مايو 2000) : ان والدها لم يفكر يوماً بتملك بيت، طيلة أربعين عاماً تقريباً وحتى عام 1971... وكان التنقل في بيوت الايجار ( في الحيدرخانه، الجعيفر، الاعظمية، الكرادة ... وغيرها من مناطق بغداد) سمة مميزة تنسجم ومزاجه المتمرد والكاره للرتابة.... وقد توفرت له فرص للتملك إلا انه "ضيعها" غير آسف عليها"..
* وفي الموضوع ذاته يقول حسن العلوي في كتابه "الجواهري رؤية غير سياسية" الصادر عام 1995: في العام 1979 اصطحبت معي الى بيت الجواهري بعثة صحفية لقضاء يوم كامل على غير موعد معه فسجلت عدسة المصور الفنان الراحل "محمد علي حسن" زوايا لم تكن مخفية على عيون زائريه... ودخل حتى غرفتي النوم والمطبخ ... ولم يجد مكتبة، لكنه وجد رفوفاً. ولم يجد مطبخاً ولكنه وجد قدرين من الألمنيوم القديم... كما ولم تكن للجواهري غرفة نوم مستقلة، وكان يضع ملابس الشتاء في حقيبة تحت سريره، ويعلق على الحائط ملابس الصيف. ويفعل العكس في الشتاء....
* كما نشير بهذا الصدد لما نشره فوزي كريم (الشرق الأوسط اللندنية 4/11/1991) في موضوع مسهب عن الجواهري في السبعينات، نقتطع منه: "كان بيت الجواهري متواضعاً، كنا نقتحمه احياناً آخر الليل، أنا وسعدي يوسف، مدفوعين بأكثر من هاجس شيطاني، قراءة لبيت مثلاً: "الحمد للتاريخ حين تحولت …تلك المرافه فاستحلن متاعبا" او عبارة واحدة "با نبتة البلوى" يخاطب بها جياع الشعب. أو كلمة "تقحم" او "خسئوا".. وكان الجواهري يستقبلنا دون ترحاب معظم الأحيان قائلاً : "الساعة الواحدة يا جماعة. ويتأمل ساعته ونحن نبصبص تحت الطاولة. لا تخلو طاولة الشاعر في الليل. كنا نعرف ولكن من يجرؤ في ساعة كهذه أن يسأل. ونسترضي ابا فرات، نقول: "أنت تعرف محبتنا " ونغني له طربين من شعره... فيستجيب ..."
* اخيرا نختتم الحديث متمنين، وطامحين - مثلما هي حال كل المتنورين- فنقول: ان اكتمال المرام ليس بوضع لبنته الاولى، اي حفل افتتاح "بيت الجواهري" وحسب، ولكن في انجاز الهدف الطموح، من خلال توفير المتطلبات الناقصة، وتهيئة الاجواء المطلوبة لمثل هذا الاثر الوطني، ثم - ولعل ذلك يأتي اولاً- : حسن التنظيم والادارة، وحرص المعنيين من الذين يتحملون المسؤولية عن هذا المنجز، المميز، وصيانته وادامته، في عاصمة لعراق جديد، اؤمل ومرتجى !!------- رواء الجصاني رئيس مركز "الجواهري" للثقافة والتوثيق