في التاسع عشر من تمّوز/ يوليو الماضي، أشرفَت كريستين كوخ، الوكيل الخاص الرقابي في فريق الجرائم الفنّية، التابع لـ"مكتب التحقيقات الفيدرالي" الأميركي، على إعادة وثيقة تاريخية، هي عبارة عن رسالة من المستعمِر هيرنان كورتيس أرسلها عام 1527 إلى الحكومة المكسيكية، نُهبت أواخر الثمانينيات، وانتهى بها الأمر في دار مزادات بكاليفورنيا عام 2022.
يبدو هذا المثال التحيينَ الأقرب لقصّة الممتلكات الثقافية طويلة المدى عبر التاريخ، وهي تتعرض للسرقة والنهب، في السلم وفي الحرب. وما الوتيرة التي تتصاعد في مناطق النزاع إلّا تصعيد لعدد الانتهازيّين والفاسدين وشبكات الجريمة وأسواقها السرية بين الحدود البرية، المزدهرة، والمفضوحة خلال السنوات الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأبرزها "فيسبوك"، ومواقع التجارة الإلكترونية، وفي مقدّمتها "إيباي"، مروراً بمجموعات "واتساب".
وكريستين كوخ من خبراء عديدين حول العالم شاركوا في "ورشة الدوحة الثانية لمكافحة الاتجار بالممتلكات الثقافية"، التي أُقيمت بين الثاني عشر والرابع عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري في "مكتبة قطر الوطنية"، بهدف استكمال الإنجازات والدروس المستفادة من النسخة الأُولى التي أُقيمت في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.
خطر يتربّص
كان حمد بن عبد العزيز الكواري، رئيس "المكتبة الوطنية"، قد أشار في الكلمة الافتتاحية إلى "تجاوُز الاتجار غير المشروع بالآثار كلّ الحدود"، وإلى أنّ تأثيره "صار يُهدّد كلّ الأمم والمجتمعات. ومع أنّ الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية "يونسكو" لعام 1970، واتفاقية اليونيدروا لعام 1995، وقرارات الأُمم المتّحدة الأخيرة، جميعها تُوفر إطاراً قانونياً للحماية، علينا أن نعترف بأنّ هذا الخطر ما زال جاثماً يتربّص بتاريخنا وثقافتنا وتراثنا الإنساني".
هاتان الاتفاقيتان، وتردفهما عام 2017 اتفاقية نيقوسيا والكثير من الإطارات القانونية لمؤسَّسات ثقافية وأمنية محلّية ودولية، كلّ واحدة تُعزّز ما قبلها وتسدّ ما اعتُبر ثغرات، أو تُغلّظ أدوات الملاحقة والردع.
لذلك وقف أمام جمهور "مكتبة قطر الوطنية" خبراء من "يونسكو"، و"ألكسو"، و"المجلس الدولي للأرشيفات"، و"الإنتربول، و"إف بي آي"، و"الكارابنييري" (قوات الدرك الإيطالي)، و"المنظّمة العالمية للجمارك"، ومسؤولو متاحف.
بدت الأيام الثلاثة كما لو أنها معرض خبرات وتقنيات وصُور على أهميتها الكبرى، إلّا أنّ أبرز ما يُطرح هو فقر الفاعلية القانونية، وقبل ذلك توصيف هذا الإرث الثقافي في مكانه الأصلي، ولدى عبوره في ما يُسمّى دول العبور، وصولاً إلى الوجهة الأخيرة التي تدفع المال: المزادات، والمتاحف، والبيوت خاصّة، إلخ.
مناجم مستباحة
الجميع يبيعون ويشترون، لكنّ التوصيف الأدقّ أن بلداناً مثل العراق وسورية واليمن وليبيا وأفغانستان هي مناجم تنقيب مستباحة، لا يمكن أن تعمل بلا جدوى اقتصادية ودون أن يكون الأغنياء ملوّحين بالدولارات في انتظار الغنائم، خصوصاً في أوروبا وأميركا والصين وكوريا.
يضعنا عمرو العظم، الأستاذ في "مركز دراسات الخليج" بجامعة قطر، أمام صورة فضائية لموقع "أفاميا" الأثري في سورية، وخلال السنوات الأُولى من الحرب في البلاد، تبدو المنطقة مليئة بالنقاط المعتمة الصغيرة، التي هي في الحقيقة حُفر، كلُّ واحدة بعرض وعمق بضعة أمتار.
ومع السنوات اللاحقة كان الحفر الجنوني يتّسع وفيضُ القطع الأثرية لا يتوقّف، وما جرى هنا نراه في شريط مأساوي مصوَّر. غير أنّ البيع العلني على الإنترنت لا تُمثّل فيه أفاميا إلّا نموذجاً في بلاد عربية تمزّقت.
وصحيح أن نهب الآثار قديم جدّاً منذ أن كان الإنسان يَدفن موتاه برفقة أشياء ثمينة، ليأتي من بعد آخرون فينبشون القبور ويسرقون محتوياتها، لكنّ العظم يتحدّث عن فارق بين "النهب الانتهازي" والنشاط الإجرامي المنظّم؛ فالأوّل يعيده إلى التدمير الكارثي لسبُل العیش وفقدان الوظائف الذي أجبر الناس على نهب الآثار في مناطق أينما مشوا بها تعثّروا باللقى، واكتشاف أنهم ليسوا بحاجة إلى شبكات التهريب القديمة بعد انفتاح غالبية الحدود.
المرتبة الثالثة
يذهب بنا عالم الآثار وأستاذ آثار الشرق الأدنى في "جامعة بواتييه" الفرنسية، فينسينت ميشيل، إلى مقاربة أُخرى مساندة، حين يتحدّث عن تهريب الآثار التي تقع في المرتبة الثالثة بعد سوقَي السلاح والمخدّرات.
وهو يمرّ في كلمته على استهداف ليس جديداً للتراث، في مصر، ويقصد هنا مصر القرن التاسع عشر، والمسلّاتُ هي بعضٌ ممّا نُقل منها على سبيل الهدايا، وكنوز أُخرى سُرقت بالحيلة والنفوذ، وعلى مقربة منها واجهة قصر المشتى الأموي في الأردن التي أهداها السلطان العثماني عبد الحميد إلى القيصر الألماني فيلهلم الثاني المعروف عربياً باسم غليوم.
مّا موضوعه الراهن الذي يتعلّق بتراث إنساني موزَّع على حدود وطنية يتبادل بعضها الاعتراف ببعض وترتبط بقوانين وتفاهمات دولية ناظمة، فإنه ينضوي تحت "مفاهيمنا الجديدة" التي "تجعلنا مقتنعين بأنّ خلف هذا التهريب شبكات مجرمة".
وهذا، كما يمضي ميشيل، لا يستند إلى انطباعات، بل إلى بيانات من الشرطة الدولية والجهات الجمركية، مشيراً إلى أن هناك نقاط ضعف وهشاشة أمام من يهرّبون الآثار، وهؤلاء يتّسمون بالذكاء والإبداع.
لكنّ أصحاب الحيلة من المعتدين على الآثار أصبحوا في سنوات الحرب جزءاً من حالة استباحة واسعة النطاق، الاستباحة التي تقول فيها نجيبة الزاير، المستشارة القانونية في "ألكسو" إنّها أحد وجوه الحرب التي دائماً تُغتصب فيها النساء والأطفال وتُغتصب الغنائم.
سرقة ونهب
وهذا هو الرقم الذي تحصّل عليه ميشيل: 520 ألف قطعة تُنهب سنوياً، مميّزاً بين السرقة والنهب، فالأُولى تختصّ بالقطع المجرودة، والثانية بالقطع غير الموجودة على اللوائح الحمراء المعروفة للمنظّمات الدولية. مثلاً، لدى الإنتربول لائحة بـ 52660 شيئاً مسروقاً، والغريب أنّ بلداناً أعضاء في هذه المنظَّمة لا تعرف عن القائمة الحمراء شيئاً.
وعليه فإنّ النهب إنما يستشري بعد استشراء أجهزة الكشف عن المعادن وأدوات الحفر المتاحة بسهولة، وليس ذلك وحسب، بل هناك دروس عبر الإنترنت يتعلّمون فيها كيفية الحفر والتحقُّق وسبل البيع، واللعب في هوية القطعة وتاريخها. فقد يعرف حفّار من الحفّارين أنّ تسمية تمثال صغير نهبه باسم "أفروديت" يمكن أن يُعزّز حظوظه في سعر أعلى.
والمشكلة عنده ليست في الأساس القانوني، بل في الإرادة الدبلوماسية، ضارباً على ذلك مثلاً بلاده فرنسا التي لم تتحدّث عن هذه الجرائم إلّا في عام 2016، فقط عندما تبيّن وجود رابط بين الاتجار بالآثار والإرهاب.
حدود الإنتربول
من طريق غونزالو جيوردانو، ضابط المخابرات الجنائية الأرجنتيني في وحدة الأعمال الفنّية بالإنتربول، نتعرّف إلى "قدرات الإنتربول في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية".
وهي قدرات من الضروري تلمُّس حدودها وإمكاناتها. فحسب أطروحة المتحدّث والنقاشات التي تلت، يتّضح أنّ الإنتربول تتعامل مع السلطات استناداً إلى المادّة الثالثة من دستورها التي تنصّ على الحياد.
كذلك فإنّها تتعامل مع الجمهور العام الذي يمكن أن يزوّدها بالبيانات عبر تطبيق هاتفي متضمّنةً الصور الواضحة بشأن القطعة التي يمكن أن تدخل في القائمة الحمراء، وجيوردانو يشجّع على ذلك بالقول إنّ المنظَّمة لا تتجسّس على هواتف أحد.
قاعدة البيانات للقطع المسروقة تستثمر في عمليات التنسيق مع منظّمة الجمارك العالمية وتوفير الدعم التحليلي والعملياتي والتعاون في عمليات "باندورا" التي تصادر وتلقي القبض على أعضاء شبكات تهريب القطع الأثرية والممتلكات الثقافية الأُخرى.
إلّا أنّ الضابط يعيد التأكيد أن منظّمته يمكنها أن توفّر مسارات لاسترجاع القطع المسروقة، لكنها هي بذاتها ليست مخوَّلة بهذا الأمر، بل إنها تتوسّط بين حكومات بشأن مزاد على قطع مسروقة دون أن يكون من صلاحيتها إيقاف المزاد.
استرداد الممتلكات
في ما يخصُّ استردادنا الممتلكات التراثية التي استوليَ عليها في البلدان العربية بطُرق غير مشروعة، فإنّ بضع نقاط وضعَتها نجيبة الزاير تطالب بالانخراط في الاتفاقيات الدولية، وتعزيز القوانين الوطنية، والعلاقات الدبلوماسية من الداخل وبالخارج، وإبرام الموافقات الثنائية ومتعدّدة الأطراف.
وكذلك تهيئة ملفّ خاص بالممتلكات المطالَب باسترجاعها، ووسائل الإثبات الكافية، والرصد وجرد الممتلكات الثقافية على المستوى الوطني، وتكريس مبدأ الإعلام والنفاذ إلى المعلومة ومبدأ التشارك، وشبكة معلومات محيّنة.
في بلاد مساحتها حوالى 164 ألف كيلومتر مربع، تشكو نجيبة الزاير من فقر في إحصاء هذه القطع الأثرية التي تضمّها المخازن، ما يشكل عاملاً مشجعاً على الاستيلاء والمتاجرة بها.
15 ألف موقع
وفي الجزائر البلد الأكبر في الوطن العربي وأفريقيا، تُقسَّم الجغرافيا الوطنية إلى خمس حظائر وطنية، مساحة إحداها تفوق مساحة فرنسا، وبها جميعها أكثر من 15 ألف موقع أثري.
في مشاركة عمّار نوارة مدير الحماية القانونية للممتلكات الثقافية وتثمين التراث الثقافي بوزارة الثقافة والفنون في الجزائر، يعرض لنا المنصّة الرقمية "تراثي" للشرطة والجمارك في الجزائر لمحاربة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية.
وهذه المنصّة أُنشئت العام الماضي لرقمنة هذا الإرث الذي يقع في مساحة 937 ألف كيلومتر بما يوازي 43% من مساحة الجزائر تحت وصاية وزارة الثقافة.
تسمح المنصّة بتحديد هوية الممتلكات وإتاحتها للمجتمع المدني بهدف التبليغ الفوري لحمايتها، مثلما تُقدّم المعلومات الأولية لعناصر الشرطة والجمارك، الذين يمكنهم بالمسح الضوئي عبر الموبايل التعرف المبدئي إلى أهمية القطعة ومقارنتها بالبيانات المصوَّرة في المنصّة.
وبحسب الرقم الذي يضعه نوارة أمامنا، لنا أن نُقدّر العدد الهائل من النقاط الهشّة التي تستلزم تطوير المنظومة الأمنية لحماية هذا التراث.
فالمواقع المصنَّفة يبلغ عددها 1043 موقعاً، منها فقط 147 تُحرس من طرف وزارة الثقافة بعدد ألف حارس، وأخيراً صُدِّق على إضافة 668 حارساً جديداً. يعني ذلك أن 87% من المواقع غير محروسة.
ونحن نمر ّبذاكرة التجارب المريرة، تستوقفنا أشدُّها فداحة، لأنها ترافقت مع انهيار أول بلد عربي، كما هي الأيام الثلاثة الأشهر في تاريخ العراق الثقافي سنة 2003، التي سَرقت فيها العصابات المنظّمة والدهماء أكثر من 200 ألف قطعة من المتحف الوطني العراقي.
والفارق بين العصابات والدهماء فارق تقني تدبيري، والجامع بينهما أنّ كليهما ينتظر قيمة سوقية عالية. الدهماء تفضّل أن تعبئ في الأكياس بما خفّ حمله، لأنها تفتقر إلى الدعم اللوجستي المافيوي.
كورونا وعشرية سوداء
في الجزائر، كما يعيدنا نوارة، نشطت قبل سنوات قليلة عصابات الآثار في عزّ أزمة كورونا العالمية، ويطلعنا على آخر تحديث رقمي يفيد بأنه حتى 2022 استطاعت الفرق الأمنية التي كوّنتها وزارة الثقافة استرجاع 23596 قطعة.
وكلّما أظلمت أكثر، كما أظلمت في العشرية السوداء منذ 1991، يُمسي من السهل سرقة خمسة متاحف في ليلة واحدة كما يشهد نوارة. ومثلما هي الصورة دائماً في مناطق النزاع: فوضى، نشاط ليلي للسرّاق، وسيط ليلي، مشترٍ ليلي خارج الحدود.
سيكون من بين آلاف الحكايات غير المكتملة واحدة تصدع بها وسائل الإعلام، بسبب حدوث انهيار نهاري في الجوار نجم عنه سقوط نظام زين العابدين بن علي، فاكتُشف في أحد قصوره قناع الغورغون الذي سُرق من "متحف هيبون" في الجزائر عام 1996.
تردّ كريستين كوخ عن سؤال بخصوص مشاركة جنود أميركيين في نهب المتحف الوطني العراقي وإذا ما توافرت أرقام وبيانات حول المسروقات قائلة إن "الإف بي آي" لم يتولّ التحقيقات، بل الجيش الأميركي.
وفي هذا تورد ملاحظة جريئة من شخصية أمنية من الصعب توقُّعها في عالمنا العربي؛ إذ تقول إنّها لو عرفت بارتكاب الجنود أعمال نهب فلن تفاجأ، فهُم قد نهبوا في ألمانيا واليابان في أثناء الحرب العالمية الثانية.
هذه المنهوبات بقيت مجهولة في بعض الأحيان، حتى وفاة هذا الضابط أو الجندي، فقرّر الورثة التصرّف بالممتلك الثقافي إمّا بالبحث عن مشترين وإما بتسليمه.
والخلاصة من مثل هذه السرديات التي "أبطالها" انتهازيو فرص أفراد، ليس في وزنها أمام كوارث الاستباحة، بل في بلاغتها البسيطة.
نستطيع هنا أن نسرد حكايات المواطن الذي يحفر ترابه أو يسطو على متحف بلاده. لربما كان توصيف عمرو العظم مناسباً لهذا المقام. إنه شخص قد يُفكّر بأنه ينهب من دولته التي تنهبه.