لم تهدف الكاتبة والمخرجة السينمائية ايمان خضير من وراء انتاج فيلمها(مقاهي بغداد الادبية) التعريف بتاريخ وعمارة ومواقع هذه المقاهي، بل استعراض الحياة الثقافية العراقية بأكملها واستعراضها بطريقة بانورامية من خلال الشخوص: شعراء وكتاب وصحفيين وفنانين تشكيليين ومسرحيين ومؤسسين من خلال تواريخ هذه المقاهي التي كانت ملتقى للمثقفين والمبدعين وجمهورهم في آن واحد، فتلك المقاهي كانت منتديات ومدارس ادبية وسياسية انتجت اساليب وبيانات ثقافية مهمة في تاريخ الادب العراقي في الشعر والقصة والرواية والمسرح والتشكيل، وايضا سياسية بالمعنى الثوري خاصة في العهد الملكي.
الفيلم الوثائقي (مقاهي بغداد الادبية) الذي كتبت السيناروة والتعليق له واخرجته ايمان خضير هو مختصر تاريخ الثقافة العراقية وتحولاتها منذ الثلاثينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، التاريخ الثقافي بكل تقلباته واعاصيره واستقراره القلق، مستعرضة سيرة حياة اربعة مقاهي ادبية او ثقافية ببغداد، وهي: الزهاوي وحسن عجمي وام كلثوم، قريبة من بعضها في شارع الرشيد، والشابندر في شارع المتنبي ليست بعيدة عن سابقاتها، ولم تتستعرض تفاصيل المقاهي الادبية الاخرى لاسباب موضوعية، توضحها لشبكة رووداو بقولها:" صعوبة ايجاد ارشيف او معادل صوري (رشز) للمقاهي قديما مع الاسف، فنحن في بلد لا يمتلك ارشيفا لماضية اما يحرق بسبب الانقلاب العسكرية او يهمل فكل حاكم جديد يلغي ماقبله ..ولذلك حذفت مقاهي مهمة ولعبت دورا في حياتنا الثقافية مثل البرازيلية والجماهير والبرلمان ومقاهي أخرى بسبب غياب الارشيف الصوري لها.. لهذا حددت اربع مقاهي فقط المتوفرة حاليا وهي الزهاوي وحسن عجمي وام كلثوم والشاهبندر". موضحة:" لهذا اضطررت ان استعين بلقطات او مشاهد من الافلام السينمائية الروائية التي صُورت في هذه المقاهي وهذا أمر ساري في كل انحاء العالم فالافلام الروائية او الوثائقية يمكن استخدام مادتها اذا كانت تؤدي الغرض." .
استعانت كاتبة السيناريو والمخرجة ايمان خضير على شخوص كانوا، وبعضهم ما زالوا، رواد هذه المقاهي، امثال الباحث التراثي زين النقشبندي الذي شرح وظيفة المقهى في المجتمع البغدادي وهو يتحدث عن مقهى الشاعر جميل صدقي الزهاوي الذي كان لا يجلس الا في هذه المقهى التي حملت اسمه حيث كان يكتب آرائه المناصرة لحرية المرأة وسجالاته المثيرة مع الشاعر عبد الغني الرصافي والتي تاخذ طريقها مباشرة للنشر في الصحف البغدادية آنذاك.
المخرجة ايمان خضير
المقاهي الادبية كانت مركزا لانطلاق التظاهرات العارمة ضد الانجليز، خاصة ضد معاهدة بورتسموث عام 1948 والتي استشهد فيها عدد كبير من العراقيين من بينهم جعفر شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كتب في مقهى حسن عجمي قصيدته الشهيرة(اخي جعفر). وفي ذات المقهى وبعد عقود طويلة يتحدث الشاعر عبد الزهرة زكي عن ولادة قصيدة النثر في الثمانينات في فضاء ذات المقهى، حسن عجمي.
كما عرجت المخرجة على عدد من المقاهي التي احتضنت حفلات موسيقية وغنائية استضافت ام كلثوم وعدد من المطربات العراقيات وقراء المقام وكان اشهرهم يوسف عمر، وكيف ان هذه المقاهي كانت ميدانا لرواة القصص(القصخون) الشعبية مثل(ابو زيد الهلالي) و(عنتر بن شداد) و(الف ليلة وليلة).
وجاءت معلومات وآراء الكاتب الروائي والصحفي زهير الجزائري في غاية الاهمية وهو يستعرض تطور دور المقاهي الادبية البغدادية في ان تتحول الى ملتقيات سياسية وثقافية في آن واحد ومن ثم متحدثا عن مقهى المعقدين الذي يقع في احد تفرعات شارع السعدون باتجاه شارع (ابو نؤاس)، باعتبارها شهدت اكثر النقاشات اهمية في التحولات الادبية وولادة جيل الستينيات، وخاصة جماعة كركوك، وهو كان احد روادها. بينما يفضح لنا الكاتب والصحفي اسماعيل زاير سبب تسميتها بـ (مقهى المعقدين).
لقد وثقت ايمان خضير، وبعد بحوث عميقة وجهود كبيرة ورصينة، في فيلمها (مقاهي بغداد الادبية) التحولات الاجتماعية والادبية في العراق، ليس اعتمادا على مصادر مكتوبة فحسب بل على الشخوص الذين عاشوا وعايشوا وشاركوا في تلك التحولات والمتغيرات، سواء في عهد النظام السابق ورصد اجهزته الامنية للمثقفين، ومنهم الكاتب والصحفي الاكاديمي هاشم حسن التميمي، العميد السابق لكلية الاعلام بجامعة بغداد، الذي القت المخابرات العراقية في عهد صدام حسين، القبض عليه عندما كان جالسا في مقهى الشابندر، واعتقلته، يوم كان رئيسا لتحرير صحيفة (المصور العربي) التي يصفها باعتبارها كانت"الصحيفة الليبرالية الوحيدة وقت ذاك" وبسبب تغريدها خارج السرب الاعلامي الايدولوجي.
تعد مقهى الشاهبندر، في شارع المتنبي، واحدة من ابرز المقاهي الادبية في بغداد، وتاسست عام 1917 حيث كانت سابقا(مطبعة الشاهبندر) وعندما تحولت الى مقهى وبسبب قربها من مقر الحكومة، القشلة، صارت ملتقى للوزراء والبرلمانيين والمثقفين، يقول صاحبها محمد الخشالي الذي فقد خمسة من ابنائه في تفجير شارع المتنبي، الذي تناوله الفيلم باسهاب، واطلق عليها تسمية(مقهى الشهداء):" مقهى الشابندر يختلف كثيرا عن المقاهي الأخرى، فهو بمثابة المنتدى الدائم للثقافة والفكر والفن والسياسة، بعيدا عن ألعاب التسلية التي تنتشر في المقاهي الأخرى، فأبوابه مفتوحة للجميع من الذين يريدون الاستفادة من الأدب والثقافة والسياسة".
لرواد مقهى ام كلثوم اتجاههم فني اكثر مما هو ادبي، هذا ما يكشفه المخرج السينمائي رعد مشتت في حديثه يوم كان من رواد هذه المقهى وانشغاله بالرسم واثارة السجالات حول المدارس التشكيلية والموسيقية الغربية، بينما يكشف المخرج المسرحي عقيل مهدي عن بداياته في الكتابة المسرحية وهو يستمع لاغاني ام كلثوم.
مقهى الشاهبندر
تمضي ايمان خضير في رصد وتثبيت التحولات الحياتية الكبرى في العراق من خلال فيلمها الوثائقي خاصة بعد تغيير النظام عام 2003، حيث بدت الشوارع خالية والابنية تحمل آثار القصف الصاروخي، دائرة الاتصالات في شارع الرشيد، التي صممها المعماري رفعت الجادرجي، وخلو المقاهي الادبية من روادها وهجرة المثقفين من البلد. غابت المقاهي الادبية ولم يتبقى سوى صدى الضجيج في ارجائها وحيطانها المتهالكة ومقاعدها الخالية، مما ادى ببعض المثقفين للبحث عن امكنة يلتقون بها، فاعلن الشاعر والمترجم نصير غدير عن اكتشافه لمقهى شعبي في منطقة ارخيتة في الكرادة(داخل)، وهو مقهى بسيط حسب وصفه، حيث" مكب الزبالة خلفهم وضجيج مولدات الكهرباء والسيارات"، ومع ذلك تحول مقهى(ابو زهراء) الى ملتقى لبعض او غالبية من المثقفين.
الشاعر والكاتب حميد قاسم ينفرد بسرد عاطفي موجع عن تلك الهجرة وكيف انه كان يحسب من بعيد، من ابو ظبي، مع صديقه الشاعر خالد مطلك روزنامة ومواقيت الحياة المرتبطة بمقهى حسن عجمي، وكأن زمنه تجمد هناك، ذلك ان الجلوس على مقاعد(كرويتات) المقهى لاكثر من 30 سنة ادى لان تختلط انفاسه ومشاعره باجواء المقهى، على حد وصفه الشاعري الدقيق والذي اثار فينا الشجون كونه تحدث بلسان وصوت جيلنا او اكثر من جيل. خاصة الجيل الذي تفتح وعيه في السبعينيات الذهبية.
ما يميز فيلم(مقاهي بغداد الادبية)، كموضوع ان فيه روح..روح تربط بينه وبيننا كمتلقين..اعادتنا ايمان خضير الى مقهى حسن عجمي، حيث جلسنا، كما كنا نفعل دائما، مع اساتذتنا واصدقائنا: مالك المطلبي وموسى كريدي، ومحمد شمسي، وفؤاد التكرلي، وشجاع العاني، وعبد الاله احمد، وماجد السامرائي وحميد قاسم وغيرهم من المبدعين الذين قادوا او ساهموا بصناعة الحياة الادبية العراقية. اما من الناحية الفنية فقد كانت انتقالة كاميرا عمار جمال، مدير التصوير، وحركتها تدعم اجواء الحدث بروح حية، وتتفاعل مع الحوار لتخلق لغة سينمائية تتناسب مع اسلوب ايمان خضر من جهة ومع روح الفلم الوثائقي من جهة ثانية. كما اضفت موسيقى المايسترو محمد أمين عزت فيتامينات لتأثيث الشريط السينمائي بحياة بغدادية مؤثرة.
من الجدير بالذكر هنا هو أن نعرف ان الفيلم انتج عام 2013 ، حيث كانت المعوقات كثيرة حسب ايضاح المخرجة ايمان خضير:" واجهتنا مشاكل لوجستية حيث مشكلة الكهرباء كانت ومازالت ولكن بشكل أخف الان ، وهذا حتم علينا حمل المولدة الكهربائية في كل تنقلاتنا وكان هناك قرار من قيادة عمليات بغداد بمنع عبور سيارات مكشوفه على الجسور بسبب التفجيرات وعليه توجب ان نؤمن مولدة كهرباء واحدة في الرصافة والثانية في الكرخ ، اضافة الى الموافقات الامنية للتصوير إذ كان لابد من اخذ موافقتين الكرخ والرصافة" .
تضيف:ط"لكن التحدي الاكبر هو أنني امرأة ولم يسبق لي ان دخلت مقهى فهو مكان ذكوري بامتياز وبالتالي يصعب الخوض فيه فاخترت معالجة غير تقليدية بعيدة عن التاسيس ومن الذي بنى ومن هم اصحاب المقاهي وبدلا من ذلك ذهبت للاختيار الاصعب والاكثر تاثيرا للمتلقي وقربا من اهتماماتي وهو البحث عن المطبخ الذي انتج الثقافة العراقية لشحة النوادي الثقافية كما الحال في مصر مثلا او لبنان ..ساعدني هذا الأمر على كشف تاريخ بغداد منذ الثلاثينات ولغاية 2013 من خلال سرد لتاريخ الثقافة العراقية ودورها في الحراك السياسي المضطرب للبلد أصلا من خلال رواد المقهى انفسهم لا اعرف الى أي درجة وفقت ولكنها محاولة لتسليط الضوء على عالم حاضر في حياتنا ولكنه غائب عن الشاشة واردت اعادة الاعتبار لهذه الامكنة وروادها".
ينبغي ان نؤكد هنا بان هذا العرض المقتضب لفيلم (مقاهي بغداد الادبية) لا يغني المتلقي عن مشاهدته، ولنا ان نذكر ان الكاتبة والمخرجة السينمائية تضيف هذا المنجز السينمائي المهم الى سلسلة افلامها الوثائقية والقصيرة التي كتبت بنفسها السيناريوهات والتعليقات لها واخرجتها، وهي:(بصمة) عن د انيس الصائغ ، طوابع فلسطين، وثيقة تؤكد عروبة فلسطين، الملك فيصل الاول ، ظل الكونكريت، عاملات الطابوق وفيلم صفر.