لا يختلف اثنان على ريادة بدر السيّاب لحركة التجديد في الأدب العربي المعاصر. فالمحاولات العديدة التي سبقته لم تكن سوى الأسس التي مهّدت لظهور الشعر الحر وما يسمى بالشعر الجديد.
فتجربته في هذا المجال تجربة رائدة ومتفردة، فقد واصلت عملية التطور التي طرأت على القصيدة العربيّة خلال تاريخها الطويل، و تغلبت على الجمود الذي ظلّ مخيماً على القصيدة العربيّة شكلا ومضمونا، لقد استطاع السيّاب أن يفجّر ينابيع الإبداع للأجيال التي تلته ويجعل من الشعر العربي مواكبا الأحداث.
ولا شك ان الانعطافة التاريخية التي أحدثتها حركة جيل قصيدة التفعيلة الريادية بتحوّل النسق الشعري من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص. والتي يتصدرها السياب. فبعد 100 عام ما الذي تبقى من السياب، وها ما زال الشعر العربي، والعراقي بشكل خاص، متضوعا بأريج تجربة السياب؟ ".
في هذا الاستطلاع و في الذكرى المئوية لميلاد السياب، شارك عدد من الادباء العراقيين في هذا الاستطلاع:
فاضل ثامر: السياب ربان حركة الحداثة الشعرية في الخمسينيات
تقترب الذكرى المئوية لميلاد الشاعر بدر شاكر السياب رائد حركة الحداثة الشعرية العراقية في الخمسينيات هذا العام وسط تحضيرات واسعة لتنظيم الدورة الخامسة والثلاثين لمهرجان المربد التي تحمل اسم الشاعر العراقي المغترب احمد مطر. واذا ما اعتاد النقاد والمؤرخين على المفاضلة بين مساهمتي السياب ونازك الملائكة في تفجير حركة الحداثة الشعرية الخمسينية وفيما اذا كانت قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة او قصيدة "هل كان حباً".
بدر شاكر السياب هي الاولى في هذا السباق، فانا اذهب الى ان ظاهرة الحداثة الشعرية في الخمسينيات لم تكن نتيجة جهد فردي في هذا الشاعر او ذاك، بل كانت ظاهرة موضوعية وفنية وتاريخية لها مبرراتها الموضوعية والذاتية للتعبير عن حالة التحول الاجتماعي الذي تسرع به المجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية، والرغبة في دخول مرحلة التحديثة والتجديد للحاق بموكب الامم المتقدمة.
ولذا فقد كانت حركة الحداثة آنذاك حركة جماعية ساهم فيها الشعراء ربما يقف في المقدمة منهم المثلث العراقي بدر شاكر السياب -نازك الملائكة – عبد الوهاب البياتي فضلا عن شعراء اخرين امثال بلند الحيدري ومحمود البريكان ورشيد ياسين وغيرهم.
واذا ما كانت نازك الملائكة اول من نظر لحركة الحداثة الشعرية في كتاباتها النقدية والنثرية وبشكل خاص في مقدمتها لديوان "شظايا ورماد" 1947وكتابها (قضايا الشعر المعاصر)، ورغبتها في تأنيث القصيدة في تأكيد هويتها الانوثية وقدرتها على ازاحة الارث الذكوري في عمود الشعر الكلاسيكي فانها لم تواصل مشروع الحداثة الذي بشرت به، واعلنت عن التخلي عن الكثير من منطلقاته الاساسية حيث دعت في مقدمة ديوانها شجرة القمر 1967، بينما واصل السياب هذا المشروع الحداثي وعمقه، وفتح امامه الكثير من الافاق المسدودة، ونجح في تسويقه عربيا فأصبح الاسلوب المفضل لدى الاجيال الشعرية الجديدة. اما الشاعر عبد الوهاب البياتي فقد استطاع ان يذهب بهذه التجربة الشعرية بعيدا نحو افاق انسانية وكونية واجتماعية و تخلص الى حد كبير من النزعة الرومانسية المبكرة في شعره وفي شعر زميله السياب ونازك، كما اجترح البياتي ادوات تعبيرية وبنيوية جديدة في الصوغ الشعري، وخاصة في استخدام الرمز وقصيدة القناع وتوظيف الميثولوجيا والرموز الشعبية.
وبهذا يمكن القول ان حركة الحداثة في الخمسينات كانت في الجوهرة حركة فنية اجتماعية موضوعية للخروج من اسار الماضي، والانطلاق الى افاق شعرية جديدة، ربما كان السياب هو ربانها الاحمر، لكن انكفاء تجربته على الهموم الذاتية ومعاناته المرضية جدّت كثيرا من انفتاح هذه التجربة وتواصل نحو افاق كونية متجددة، لكن السياب يظل في نظرنا واحدا من الرواد الاوائل الذين خطوا بشجاعة مقومات قصيدة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة التي ودعت الى حد كبير قصيدة العمود الشعري الكلاسيكي التي استمرت ما يقرب من خمسة عشرة قرنا.
يخيل لي اليوم وانا اراجع تجربة الحداثة الخمسينية وما تبقى منها، ان تجربة السياب تظل هي المثل الاصدق لحركة الحداثة الشعرية وقصيدة الشعر الحر، حتى ليحق لنا القول ان قصيدة الحداثة الشعرية الخمسينية هي قصيدة سيابية بامتياز.
علي حسن الفواز: تحويل البناء الاستعاري الى مجال جاذب للمختلف
الحديث عن حركة السياب التجديدية في الشعر العربي ترتبط بالأسئلة العميقة التي اثارتها، والتي اعادت الى الاذهان مفهوم الريادة بوصفه تأسيسا ضديا، وتمفصلا فارقا في التاريخ، وبقدر ما حملت القصيدة السيابية جدّتها ومغايرتها، فإنها فتحت المجال لحديثٍ اكثر جدلا حول هوية هذا التجديد، ومدى قدرته على مواجهة التاريخ القار لمركزية القصيدة العربية التقليدية..
بعد مئة سنة على ولادته، وتسع وخمسين سنة على رحيله، لا يجد العقل النقدي العربي نفسه، سواءً في خطابه، أو في سؤاله، إلا ازاء مراجعة لفاعلية المشروع الشعري، بوصفه تجاوزا، وخروجا عن نسق المركزية، وانشدادا الى زمن شعري يتسع للمفارقة، على مستوى تقويض الشكل ونمطية بنائه الصارمة، والنزوع الى نظام تفعيلي مفتوح، وأكثر تحررا، فضلا عن المستوى الذي يتعلق بحمولات القصيدة الجديدة، بوصفها قصيدة وعي مغاير، ورؤية مغايرة، وانفتاح على اليومي والاسطوري والنفسي، إذ تحولت القصيدة السيابية الى رهان على الجدّة، والى خيار لمواجهة مركزية النظام الشعري العربي، بتوصيفاته ومرجعياته البلاغية والبنائية والاسلوبية، احسب أن السياب المسكون بشغف وعيه القلق، وضغط اسئلته الوجودية لم يجد سوى الانحياز، وبـ "قصدية" الى حرية الكتابة الجديدة، بوصفها حرية صاخبة، لكنها حذرة، جعلت من تجربته الشعرية، وحتى تجربته الحياتية مزحومة بصراعات عميقة، وبتحولات اكثر عمقا، واكثر اندفاعا لتجاوز "الفطرة الشعرية" الى "الصناعة الشعرية" حيث خرق المألوف، وحيث تحويل البناء الاستعاري الى مجال جاذب للمختلف، والمفتوح على الاساطير والمثيولوجيا، وحتى على الرمزي بتشفيراته النفسية والطقسية، إذ هي قصيدة التجربة والمغامرة، مثلما هي قصيدة التلاقح المفتوحة، وبحساسية عالية على انماط شعرية عالمية، حيث الشعراء الانكليز، لاسيما أليوت وستويل، وحيث شعراء التجربة المصرية في ابولو، وكذلك في تجربة المهجر اللبناني، وبهذا تكون مغامرة السياب في الكتابة تمثّلا حادا لاشباعات الوعي بشعرية العالم، التي مهدت الطريق لمغامرات اخرى تستفزنا ونحن نراجع ذاكرة المشروع، وسيرة "الشعراء الموتى" وما استغرق شعراء الستينات في العراق، وشعراء المغامرة اللبنانية والمصرية من تحولات يظل هاجسا يتذكّر تلك الاسئلة التي تركها السياب على طاولة اللغة..
عمار المسعودي: يمكن حسبان هذه الانتقالة من العمودية إلى الأفقية ضربا من المدنية
يمكن حسبان هذه الانتقالة من العمودية إلى الأفقية ضربا من المدنية وهي تقرر انبساطها ومفارقتها قرقعة الجمال وخطوها الوئيد أو المتسارع قطعا للمفاوز والصحارى. الأفقية فكرة تأملية تطلب مستقرا لا عبورا مهتزا، تطلب فردانية وعزلة لا جماعية ولا أغراضا شعرية موقوفة على هدفية واحدة وجهوية بائنة.
هذه أحداس عما حصل من تبديد نسقي كانت ضحيته القيامة الشعرية جهة المنبسط الأفقي من القصيدة إلى تهيئة أولى لفكرة النصوصية المبثوثة على بياض الورقة.
ما يحسب للريادة هو جرأتها في كسر النمط العمودي بعده سلطة ارتبطت بمفهوم الشعرية العربية الأمر الذي المجال واسعا أمام ما حصل لاحقا من تغييرات طرأت على الشكل الشعري وعلى مضامينه. مع كل ضجة قيام الريادة إلا أنها لا يمكن عدها ثورة كاملة فقد ظلت اللغة وظلت الرؤى تتقارب مع ماضي السطح الشعري الذي تم اختراقه مرة إلى الأعلى وأخرى نحو الأسفل. لو نظرت الآن للنص السيابي لوجدته مشابها للمتن العمودي عدا منثوراته على الورق مع وجود التفعيلة التي تمنعه من أن يكون حرا.
لو دققنا نظرا فيها أعني الظاهرة السيابية لوجدت انشغالا شكليا يكاد ان يخلو من الفعل على المنظومة اللغوية مع استجلاب لإضافات ثقافية املاء لفراغات غياب الشكل.
كانت اللغة تكاد أن تكون مباشرة معجمية عاقلة لم يجننها وجود فضاء شعري مجازي عدا افعال بلاغية تشبيهية واستعارية قريبة وجه الشبه. انسحب هذا الأمر على الجيل الستيني ويصلح حسب الشيخ جعفر مثلا فكان جل همه هو الألعاب الشكلية داخل مشغله الشعري بينما لو فتشت عن التشغيل الشعري فأنك ستجد المفردة نفسها غير مستباحة وغير مغيرة دلاليا لإنتاج عوالم جديدة من صنع اللغة وليس من جراء العالم الخارجي من توظيفات أيدلوجية أو مناسبتية.
ماتبقى هو الريادة!! !
علي عبد الأمير عجام: النص السيابي.. دراما الاختلاف مع وقائع حياته ومحيطه الاجتماعي
ظل النص السيابي يمتلك من القوة والديناميكية ما أعطاه القدرة على أن يبدو ابداعاً مستمراً، وريادة ذلك النص كانت تتمثل في تجاوزه الاطار الشكلي القديم للشعر، فهو نص بمثابة سؤال يحمل رؤيا المصير، فضلاً عن الاندفاع باللغة جاعلاً منها "لغة حيوية" تخرج من نطاق الانطباع والوصف إلى مستوى ذي بنية درامية قائمة على الاختلاف الحاد مع البيئة الاجتماعية والفكرية، فشخصيته على النقيض من وقائع حياته ومحيطه الاجتماعي، فكان دائم التطلع الى الكشف فيما كان السياسي فيه يأخذه الى التمحور في دائرة موقف محدد، كان ينضج فنياً في قمة انشغالاته الفكرية - انتماءاته السياسية فيما هو جزع منها، برم بها، بأنقاض هياكلها - كما اكدت الاحداث لاحقاً صدق ما رآها عليه السياب في حينه.
انه الرومانسي، هو الحالم في بواكيره... ومن المكان الذي يأخذه الى فطرة الانفتاح والتطلع الى الغد، كانت تلك الرومانسية، هي التعبير الهادئ والموجز عن توقعه لمغادرة المكان إذ يصبح أضيق مما يتسع في روحه من عوالم و رؤى... ثم انها سيرة نمطية للمثقف في أن يغادر أمكنة صباه نحو مراحل التعليم العليا في العواصم. تلك البداية لشدة كونها حقيقية وأصيلة، كانت نقطة الجذب لكل التحولات... فها هو السياب عند ذاته ولها يعود في مرحلة متأخرة من حياته والتي سميت مرحلة "الانكفاء على الذات"... الذات المتعبة جداً، والجسد المنهك المضاء بالكثير من الشموع الشخصية للشاعر.
د. نادية هناوي: الرؤيا المتكاملة والاستيعاب النوعي
شيء رائع أن نستذكر التجارب الإبداعية المميزة، وتجربة السياب الشعرية تنطبق عليها مقاييس الإبداع كلها، بدأت بالسير على التقاليد وانتهت بالابتكار والتجديد. ولا يكون للشاعر أن يجدد إلا وهو صاحب رؤيا نوعية متكاملة تستوعب حركة الشعر في تاريخه وأصوله كي ترتقي الى ما هو تأصيلي. وما كان لأبي تمام أن يكون رائد الحداثة في الشعر القديم لولا أنه تعمق في فهم التقاليد وكان ذا رؤيا شعرية ترسخت ذائقتها وتكامل بنيانها، فسار الشعراء اللاحقون -بما فيهم المتنبي-في ضوئها ولزمن طويل تجاوز عشرة قرون وأكثر.
وبسبب طول هذا العهد صار التحديث تقليدا قارا لا يواكب متغيرات الحياة والعالم لاسيما في ما بين الحربين العالميتين. وعندها غدت الحاجة طبيعة إلى إحداث تجديد في الشعر العربي يضع القصيدة على منعطف آخر يغير ما رسخه أبو تمام من دون أن يتقاطع معه أو ينفصل عنه، بل يبني عليه ليبتكر غيره. وهذا ما فعله رواد حركة الشعر الحر ومنهم بدر شاكر السياب الذي ابتكر برؤيته الخاصة تحديثا جدد بنية القصيدة العربية وجعلها معبرة بصدق ووعي وعمق عن روح العصر وجوهر الانسان، فكان رائدا ساهم في صنع ثورة شعرية هي الثانية بعد ثورة أبي تمام.
وريادة السياب هي فيما انتجه خلال عمره الإبداعي الكبير -لا الزمني القصير-من قصائد مبتكرة-شكلا ومضمونا-تولد كل يوم من جديد، محتملة مختلف التفسيرات ومقروءة على مختلف وجوه التأويل، فكان موته انبعاثا، ورؤيته ثورة، وتناقضات ذاته ومحنها هي العراق في تاريخه ومآسيه. وما من شاعر أتى بعد السياب إلا وهاجس التناقض والانبعاث متغلب عليه وجودًا وأسطورةً.
وما دام التجديد السيابي/ النازكي يثير الجدل ويدفع الى المزيد من الاختلاف والانتاج، فإن سلطتهما كصوت شعري رائد ستظل قوية وتطويرية كطفرة تحديثية لا منافس لها ألا حين يصبح هذا التحديث تقليدا، فيتوجب على شاعر(ما) يملك رؤيا متكاملة أن يكون هو النسخة الثالثة في ريادة التجريب بعد أبي تمام وجيل الرواد، فيغترف منهم كي يبتكر في القصيدة جديدا ويتمكن من إحداث ثورة في الشعر العربي. ونتمنى أن يكون هذا الشاعر من زماننا أو من زمن لاحق غير بعيد.
أحمد عبد الحسين: هو في كلّ شاعر أتى بعده
النقلة التي حدثتْ على يد السيّاب لم تكنْ تغييراً شكلياً، من العمود إلى التفعيلة وحسب. على يديه تغيّر كل ما يتعلق بالشعر العربيّ. فقبله كان هناك شعر وفير لكنْ معه وبفضله ولدت "القصيدة".
هناك شائعة كبرى يتداولها شعراء ونقّاد منذ زمن بعيد، وهي أن الشعر جوهر مفارق والأشكال الشعرية أوعية له، أيْ أن الشعر يظلّ شعراً مهما كان النمط الذي يٌكتب به. الجميع يردّد هذا، لكنّ التجارب الكبيرة وفي مقدمتها تجربة السيّاب تكذّب هذه الشائعة بألف لسان، غير أنّ الثقافة العربية، والعراقية بوجه خاص، تطربها الشائعات ويتعكّر مزاجها أمام الحقائق.
منذ أن تكرّست قصيدة التفعيلة على يد السيّاب وبعض مجايليه الذين هم أقلّ موهبة واجتهاداً منه، عرفنا أنّ وراء هذا الشكل الشعري الجديد موقفاً مغايراً من الحياة والثقافة، وفُتحتْ نافذة لم يعهدها الشعر العربيّ تطلّ على فهم للوجود وللإنسان لم تكن تسمح به ولا تقدر عليه أعراف الشعر العموديّ. عرفنا مذّاك عمق المقولة العربية "كل تغيير في المبنى يستدعي تغييراً في المعنى". وفي الشعر دون سائر الأنشطة الإنسانية فإن الشكل وما يجري عليه هو الجوهر.
النسخة السيابية من الشعر نَسختْ الشعر الذي قبله، وكان عارفاً بحجم الخيارات التي أتاحها له هذا الفتح الشكليّ ـ الجوهريّ فكان يرود آفاقاً جديدة مع كل قصيدة كتبها في عمره القصير. كتب القصيدة الرمزية والملحمية والغنائية وفي بعض نتاجه المتأخر نجده يقترب كثيراً من سوريالية مدهشة كما في قصيدته "أغنية في شهر آب". وأحسب أنه لو عاش مديداً لأدهشتنا تحولاته.
السيّاب الذي قال "كم حياة سأحيا"، عاش حيوات كثيرة بعدد الشعراء الذين اتوا من بعده. لانّ رهانه الأكبر المتمثل في التطلّع إلى الأفق، هو رهان كل شاعر يستحق اسمه.
كولاله نوري: لا يمكن ان ننفي تأثير بدر شاكر السياب على الشعر العربي
قبل ان نأتي الى ذكر تأثير ريادة بدر شاكر السياب الان في عصرنا الحالي، لا يمكن ان ننفي من تأثير بدر شاكر السياب على الشعر العربي والعراقي. أصبح تأثيره التجديدي تاريخ مهم لا يقبل المراجعة بنظرة العصر الحالي للشعر العربي. الابداع الشعري عالميا لها مراحل تجديدية محددة قليله. اي انه ليس مثل الازياء ليتغير كل عام. وهذه المراحل المحددة كالبنيان الرصين يتأثر بنوع التربة، الاساس، جغرافية المكان، دور الصرح في المنطقة اجتماعيا وسياسيا وفكريا وثقافيا ونفسيا ايضا.
فالجواب المباشر للسؤال هو نعم لان من يكتب الان حتى لو لم يطلع على تجربة السياب، فانه لم يأته الشعر العربي الحالي الان بهيئته واسلوبه وطروحاته بلا تربة او اساس. وقد يقول شاعر بان السياب كان متأثرا بالشعر الانكليزي الحديث ومنه اتاه فكرة التجديد وكان قلة من الشعراء العرب يقرأون الانكليزية في زمانه. ولان الان الترجمات او من يقرا الانكليزية مباشرة، والوصول الى الشعر العالمي وتجاربهم في الشعر، وذلك عبر الانفتاح في التواصل الالكتروني يقلل من اهمية السياب عليهم، قد يكون كلامهم صحيحا نوعا، لكنا ايضا نقول لهم ارنا ما سوف تجدده انت مع الكم الهائل لما بين يديك من كل دول العام.
علي سرمد: ألبس السياب الشعر العربي ثوباً ثقافا جديداً، وأعني الانتماء إلى عصره
إنّ الشعر الحقيقي هو من يحقق الانسان بالعالم ويوجده، أي شكل من أشكال التلاقي الذي تؤسسه الذات مع الوجود، ولهذا فهو قائم في عمقه على الفتح والتجريب. هذا التصور المكثف عن الشعر -في رأيي-هو ما يوجز سؤال ما الذي تبقى من السياب؟
لقد ألبس السياب الشعر العربي ثوباً ثقافا جديداً، وأعني الانتماء إلى عصره، وهذا التصور درْسٌ عملي لكل الفنون الحقيقية التي يجب أن تواكب زمانها ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، وعليه فإن ما يبقى من السياب بعد مائة عام هو هذا الدرس الحداثي الذي ينبغي للشعر أن يسير فيه كالماء في النهر، من دون الارتكاز على الثابت. وهذا ما يجعله يسبق الكثير من شعراء عصرنا الراهن ثقافيا.
وإذا أراد الشاعر المعاصر أن يكون سيابيا عليه ألّا يسير على منواله لئلا يقع ضحيةً للتشابه والتماثل، أي على ما ثار عليه السياب، وهو ما يعني إيجاد مساحة من الكتابة تتيح له الانتماء وجوديا إلى راهن الفكر والثقافة في عصره. لأن اللغة التي ثار عليها السياب قبل قد تصبح ذاتها تحتاج إلى ثورة وتجديد. لأن الدوال قد تخلع مدلولها بمرور الزمن وترتدي مدلولات جديدة وهكذا.
ما تبقى من السياب كتابته عن الهوامش في مجتمع ما يزال يعاني من ذات المشاكل الثقافية والمركزية فضلا عن الاضطرابات السياسية والوجودية التي تتعلق بمفهوم الهوية.
ما تبقى من السياب هو ذلك البعد التمردي لكل ما هو نمطي وجاهز والانفتاح نحو الآخر المختلف باستمرار، لأن الأدب الفكر لا يمكن يؤسس لوجوده هوية عالمية من غير الانفتاح على المختلف وقراءته على الاصعدة كافة