«رحلة في بلاد ماركيز» لأمجد ناصر… عن العبور وظلاله
نشر بواسطة: iwladmins
الخميس 11-01-2024
 
   
عبد المنعم الشنتوف

يشكل السفر مكونا رئيسا في التجربة الإبداعية للشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر. ويكفي أن نتأمل في مختلف تحقق هذه التجربة، لكي نتبين الأهمية البالغة لهذا الحضور ونرصد السمات المميزة لاشتغاله التخييلي والجمالي. هل يكفي التشديد على أهمية المكان، ليس بوصفه جغرافيا فقط، وإنما باعتباره تواريخ وتمثيلا لعبور الذات في «مديح لمقهى آخر» أو «منذ جلعاد يصعد الجبل» أو «حياة مثل سرد متقطع» أو «سر من رآك» للاحتجاج لقيمة المكان والترحال الدائب في التجربة الإبداعية برمتها. يكف المكان عن حضوره الفيزيقي والحسي عند الشاعر، ليتحول إلى ملتقى للعلامات الدالة على العبور. إنه الأثر الذي يخلفه العبور، والذي يتمثل في تلكم الألوان والروائح والظلال التي تتخلق من تجربة الانتقال من مكان إلى آخر؛ بما يستدعيه ذلك من تنسيب للرؤى وأنماط التمثيل واكتشاف للآخر.

وازاء هذا الحضور الدال لموضوع السفر، اشتغال مكثف على الرحلة بما هي شكل تعبيري. وسوف نقرأ للشاعر في هذا الخصوص نصوصا قوية أرخ بها لرحلاته إلى مدن عربية وعالمية. ويمكننا أن نمثل لذلك بنصوصه «خبط الأجنحة» «تحت أكثر من سماء». سوف نفترض في هذا السياق أن انفتاح الشاعر على هذا الشكل التعبيري يتضافر وتلك الرغبة في تخصيب رؤيته «الشعرية» والاحتجاج لفكرة مؤداها أن حضور الذات في العالم لا يستشرف الاكتمال النسبي إلا بإسهام الآخر المختلف جغرافيا وتاريخيا وثقافيا.

الاستعادة السردية

تشكل قراءة «رحلة في بلاد ماركيز» الصادرة عام 2012 فرصة للقبض على السمات المميزة لتجربة الاستعادة السردية لتجربة العبور في مكان معين.

يتوزع الكتاب على قسمين يتعلق أولهما برحلة الشاعر إلى مدينة أمالفي الإيطالية في سياق مهرجان شعري، فيما يهتم الثاني برحلة إلى كولومبيا أو بلاد الروائي غابرييل غارسيا ماركيز في سياق مشاركة الشاعر في مهرجان ميدلين الشهير. تكمن أهمية هاتين السيرتين الرحلتين في أواصر القربى التي تحتفظ بها من جهة بالشعر، بما هو المحفز الرئيس لخوض تجربة السفر هذه، ولكون الرحلتين موصولتين بسياقين جغرافيين متناقضين بشكل جذري من جهة أخرى.

يتوسل الشاعر بلغة سردية تتسم بشفافيتها وعذوبتها وسلاستها واستبطانها الذكي لأدق التفاصيل التي تميز المكان والناس. ويلح علينا ونحن نمعن في القراءة أن الذات الكاتبة تراهن على خطة سردية تؤالف بين الواقعي والشعري. ولئن كنا نعثر باعتبارنا ذواتا قارئة على سمات «الواقعي» من خلال الأسماء الدالة على بعض الشخوص «الشعرية» المتحققة في الزمان والمكان وبعض الفضاءات، فإننا لا نخطئ حضور المكون الشعري من خلال الاستثمار الباذخ لوصف لا يكتفي بالاقتراب السطحي، وإنما يتجاوزه إلى استكشاف السمات الدالة على اختلاف الفضاء والناس. تتسلل الرؤية الشعرية إلى فعل الاستعادة السردية لتضفي على بعض المقاطع والوقائع ملمحا سحريا يغري بالدهشة ويؤجج الفضول:

«كانت أمالفي تصنع هي أيضا شعريتها الخاصة: هبوب نسيم البحر، صفحة المتوسط الزرقاء مثل تعويذة عين الحسود. البيوت المطلة باسترخاء أهلي على البحر، الأجساد الفتية الموعودة بمطارحات الأشواق، لا تزال في ثياب البحر، عقود الليمون والفلفل الأحمر المعلقة أمام محلات الخضر والفاكهة، الشوارع الصغيرة المرصوفة بحجارة بحجم الكف. الحنيات والأقواس التي مرت من تحتها القرون، أسماء القديسين والأبطال وتماثيلهم. الألفة وطيبة الأهلين التي تكسر الصورة السياحية المؤطرة للمكان، إلخ إلخ. إن لم تكن هذه شعرية أيضا فما الشعر إذن؟» (النص)

يستلزم استدعاء الشعري بالضرورة التوق إلى الاستكشاف والقبض على المختلف، ذلك أن عين السارد تستقرئ تواريخ المكان وحمولته الرمزية والثقافية التي تحيل بدورها إلى تواريخ وسير الذوات التي عبرت فيه. يلوح لنا ونحن نمعن في القراءة إن ثمة تلكم الرغبة في استبطان السمات المائزة للمكان، التي تغري في آن بالدهشة والركون إلى المقارنة بالأمكنة التي تحتفظ معها الذات الساردة بالألفة والحميمية بتأثير الانتماء أو الإقامة.

يقترن الاستدعاء السردي لتفاصيل الرحلة بنوع من التوحد الوجداني، الذي يتعالى على مجرد الوصف السياحي والتقريري المتسم بحياديته. تستدعي الكتابة تفاصيل دالة على حضور الإنسان في المكان، ويكفي كي نمثل لهذا الاختيار الرئيس بالمقاطع التي سرد فيها الكاتب وقائع حقل زفاف صادفه أثناء توقف قصير في إحدى المقاهي قبيل الوصول إلى أمالفي، أو بعد اللقاء بالشعراء المشاركين في المهرجان، أو الندل الساهرين على الخدمة. سوف يكون التشديد الدال في هذا الخصوص على تلكم الحفاوة المتوسطية البالغة التي تترجم سخونة المشاعر التي أشعرت الذات الساردة ببعض الحرج، بفعل طول مقامها في الشمال البريطاني البارد.

الذات السادرة

يهمنا في السياق ذاته أن ننوه بالاهتمام «الشعري» الخاص الذي أولته الذات الساردة للشرفة بوصفها سمة دالة على خصوصية الفضاء في أمالفي، المدينة الإيطالية المعلقة بين الجبل والبحر المتوسط. سوف يكون تشديد السارد على سمة «الانفتاح» التي تترجم بساطة وتلقائية وسخونة وتدفق المشاعر في الأمكنة المتصلة بالبحر والشمس. ويستدعي ذلك بالضرورة صورة الانغلاق الذي يميز تعاطي الذوات المقيمة في الشمال البارد. يتعالق التخييلي بالواقعي في سياق الاستعادة السردية، ليؤسس لعوالم ممكنة ترغم القارئ على المشاركة الفاعلة بواسطة الركون إلى خبرته الجمالية ومخزونه القرائي. سوف نتبين ذلك في المشهد الذي استعاد في سياقه اللقاء بالشاعر الأمريكي وعضو جيل البيتلز، لورنس فيرلنغتي ومؤسس دار النشر (سيتي لايت) التي أصدرت أهم الأعمال الشعرية لرموز هذا الجيل الشعري. يثيرنا في هذا المعرض حرص الذات الساردة على التقاط التفاصيل المؤججة للدهشة والغرابة والدالة على الاختلاف.

يشكل التبئير السردي على شخصية الشاعر في بعديها الحسي والشعري قرينة دالة على تلكم الرغبة في استدعاء المختلف والاستثنائي والمثير للدهشة. الشاعر الذي طعن في السن، والذي انتبذ في صمت زاوية قصية وهو يقلب أوراقا تحوي القصيدة التي سوف يشارك بها، والذي كان مخبره البسيط مفارقا للشهرة العالمية التي يحظى بها، باعتباره عراب أشهر جيل شعري عرفته أمريكا والعالم. سوف تكتشف الذات الساردة غب عودتها إلى لندن ودخولها إلى موقع فيرلنغتي على الإنترنت ما يلي:

«عندما سألني إن كانت لي أعمال مترجمة إلى الانكليزية أجبته: هناك مختارات لي مترجمة إلى الفرنسية. سألته، لحظتها، إن كان يعرف الفرنسية، فقال لي بما يوحي أن معرفته بها ليست قوية: أعرفها، فأمي فرنسية الأصل. لكن المعلومات الموجودة في موقعه تشير إلى أنه نال شهادة الدكتوراه في الشعر من السوربون. (الكتاب)

ينفتح القسم الخاص بكولومبيا أو بلاد ماركيز على احتفاء كبير بالتعدد الذي يسم هذا البلد. يكثف الكاتب هذه المقصدية منذ المشاهد الأولى، التي كان مسرحها مطار مدريد والرحلة العجيبة إلى بوغوتا على متن طائرة ألبيانكا الكولومبية، وشت أجواء الصخب الشديد، الذي ميزها بأنها لم تكن تختلف عن حافلة استوائية ريفية. ينضاف إلى ذلك اللقاء بسيلفيا الكولومبية ذات الملامح الهندية، أو كاتالينا المهجنة من العنصرين الأوروبي والهندي.

تتكشف كولومبيا مع اطراد السرد، بوصفها فضاء مفتوحا على الغرابة والدهشة وموصولا بسمة التعدد في ما يهم الجغرافيا والثقافة والناس. تتسيد المفارقة للمألوف والحالة هذه فعل الاستعادة السردية وتتاخم بصيغة محايثة الولع الشعري بالكشف. سوف يكون لزاما علينا باعتبارنا ذواتا قارئة أن نتخلص جملة وتفصيلا من جماع ما ترسب في ذاكرتنا عن كولومبيا بتأثير قراءتنا لأعمال غابرييل غارسيا ماركيز، وأن ننخرط آنا بعد آن في استراتيجية سردية هاديها التوق المشبع بالفضول إلى تقصي التفاصيل الدالة على سمة المفارقة للجاهز والمستقر. يبدو أمجد ناصر في هذا المسعى وشأن سروده الرحلية الأخرى، مولعا باستقراء تواريخ المكان والناس، وحريصا على اطراح الوصف التقريري المحايد والاستعاضة عنه بما يمكن عده حالة توحد.

تتأسس هذه الرحلة على افتراض رئيس مؤداه إن الاقتصار على عمل أو أعمال أدبية بغية التعرف أو استكشاف فضاء ما لا يعدو كونه من قبيل الخطل في الرأي. ذلك أنه لا محيص من السفر بما هو انتقال فيزيقي ولقاء مباشر بالحجر والشجر والروائح والناس كي يعود المقدور الزعم بالإحاطة النسبية بتفاصيل فضاء معين. نستشف في هذا الخصوص دلالة العنوان المشحون بالالتباس «بلاد ماركيز» الذي يتبدى والحالة هذه بوصفه عتبة تؤدي إلى حقيقة أخرى تتمثل في أن كولومبيا بلد وجوه وأقنعة تتناسل بقوة. ويتأسس على ذلك أن اختزال المعرفة بها في نصوص غارسيا ماركيز أو ألفارو موتيس على افتراض أهميتها يهدد بتقليص ثراء المكان وتكريس رؤية معينة على حساب رؤى أخرى:

«تركت رحلتي إلى كولومبيا أثرا في نفسي يبز، ربما أي رحلة قمت بها إلى مكان آخر. فهذا عالم لم آلفه من قبل: جغرافيا ومناخا وبشرا وثقافة وعادات. عالم جديد، كليا بالنسبة لي . حتى القراءات التي تأخذنا إلى أقرب الأماكن وأبعدها لم تقدم لي عنها تصورا يمكن التعويل عليه. أستثني من ذلك بطبيعة الحال أعمال ماركيز – وقلة غيره من الكولومبيين- التي صورت جانبا من الحياة في تلك الأمكنة البعيدة عنا تماما» (الكتاب).

تمثل الاستعادة السردية نقضا للصور والكليشيهات الجاهزة في خصوص كولومبيا بما هي جغرافيا وثقافة وناس. ولأن عين السارد تسعى في المقام الأول والأخير إلى الغوص في ما وراء الظاهر للعيان، فإننا نباغت باطراد بكشوفات تثير الدهشة وتحملنا على الانخراط بفعالية في فعل التأويل، بما هو بناء للدلالة.

فعل التأويل

تمثل الاستعادة السردية نقضا للصور والكليشيهات الجاهزة في خصوص كولومبيا بما هي جغرافيا وثقافة وناس. ولأن عين السارد تسعى في المقام الأول والأخير إلى الغوص في ما وراء الظاهر للعيان، فإننا نباغت باطراد بكشوفات تثير الدهشة وتحملنا على الانخراط بفعالية في فعل التأويل، بما هو بناء للدلالة. واعتبارا ذلك يكون التشديد على شغف الكولومبيين الشديد بالشعر، وحرصهم المأثور على الاحتفاء به مدعاة إلى نقض الصورة أو القناع اللصيق بتمثيل الكولومبي والمتمثل في الاتجار بالمخدرات وحرب العصابات العنيفة التي طال أمدها بين الحكومة المركزية الموالية لأمريكا وجبهة الفارك ذات الميول اليسارية.

يقترب الاستدعاء السردي من التفاصيل التي لها علاقة بالمعيش اليومي للناس وحركتهم في الفضاء. تتضافر الصور التي يسوقها أمجد ناصر بلغته التي تتدفق بسلاسة لتزج بنا في عالم ممكن يغاير ما ألفناه في أعمال ماركيز وغيره. يهمنا في هذا الصدد أن نشير إلى حادثة الطعام الكولومبي الذي لم تنفع بهارات الشاعر البحريني قاسم حداد في جعله مستساغا، والذي دفع بالكاتب إلى مغادرة الفندق والخروج إلى شوارع بوغوتا بحثا عن الطعام. تكمن أهمية هذه الاستعادة من جهة في مزجها المقصود بين الواقعي والتخييلي، بتأثير استدعائها لأسماء شعرية عربية لها تعين في الزمان والمكان، ولكونها تنقض في الآن نفسه الصورة المستقرة في أذهاننا عن الطعام الأمريكي اللاتيني وبهاراته المثيرة للشهية.

حيث إن السرد وحالاته في هذا العمل الرحلي الجميل، بحث واستقصاء للاستثنائي والمختلف والمدهش، فإننا سرعان ما نعثر على الجسور التي تمتد بين كولومبيا والذات العربية. ينطلق السارد من ترحاله الاستكشافي في شوارع وساحات بوغوتا وغيرها من المدن الكولومبية ليقبض على التعدد العرقي والثقافي الذي يميز هذا البلد وليشدد على ما مؤداه، إنك لا تعدم أثناء التجوال مصادفة من «يشبهوننا» في إشارة واضحة إلى الحضور العربي. سوف يشكل ما سبق ذكره محفزا سرديا على العودة إلى رواية ألفارو موتيس وشخصيتها الرئيسة عبده بشور الحالم بالسفن، وذي النزعة العوليسية، وهي الرواية التي قدم لها غابرييل غارسيا ماركيز.

يستشرف الاستكشاف السردي لكولومبيا ماركيز ذروته بالإشارة الدالة إلى التناغم الموجود بين المقدس والدنيوي أو التجاور بلغة السارد بين الجسد والدين. يبدو الانتقال السلس من حضور قداس ديني داخل كنيسة كاثوليكية إلى حضور أمسية شعرية في مسقط رأس بابلو إسكوبار زعيم كارتل المخدرات، طبيعيا ومؤشرا على حقيقة مفادها إن الدين لا يطرد الجسد بل يتعايشان في تناغم عصي على الفهم:

«لكن حضور الدين البارز في حياة الكولومبيين لا يمنع حضور الجسد. الدين والجسد ليسا، هنا على طرفي نقيض، مع أن المسيحية عموما، الكاثوليكية، خصوصا، ترى في الجسد خطيئة. فالطقس الحار والتقاليد الثقافية ما قبل المسيحية لمعظم السكان ـ هنود، أفارقة- لا تجعل من الجسد الأنثوي عورة ينبغي سترها أو مواراتها» (الكتاب). حيث إن الرحلة انتقال في الزمان والمكان، فإنها تشكل والحالة هذه تخصيبا للمتخيل. ذلك أن اللقاء بالآخر والإنصات إليه والاحتكاك به يغري بالرؤية إلى العالم من زاوية ينبغي أن لا تتسم بتطابقها مع تلك التي ألفناها. وفي هذا السياق إذن، يبدو نص «رحلة إلى بلاد ماركيز» شأن سروده الرحلية الأخرى إضافة نوعية إلى التراكم العربي في خصوص الكتابة الرحلية وتخصيبا دالا لرؤيتنا إلى الذات والآخر.

كاتب مغربي

عن القدس العربي

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced