للثقافة تعريفات عدة تختلف في جوانب معينة، وتلتقي في جوانب أخرى كما أن هناك مقاييس أو مواضعات في من تحق تسميته بالمثقف، وهي مُختلف حولها أيضا. إذ لا إجمال ولا تحديد مع مفردتي الثقافة والمثقف. ولقد حاول كثير من المفكرين لملمة معاني الثقافة ومقاييسها من اجل بلورة فهم شامل وموحد، به يُستدل على المثقف فتُعرف أدواره في المجتمع ويتأكد موقعه فاعلا أو غير فاعل فيه.
ومن المفترض أن يكون كل الأدباء مثقفين، فحتى ذاك الموهوب فطريا ينبغي أن يتمتع بقدر ما من الثقافة، ولا شك في أن الأديب ينبغي أن يكون صاحب موقف يعرف به، بما يملكه من وعي عميق فيما يجري حوله، فلا يخضع للابتزاز.
والغالب على مرحلتنا الراهنة وجود نفر من الأدباء لا يرتفعون الى مستوى ثقافتهم ، بل اهتمامهم منصب على وسائل تقع خارج الأطر الثقافية، بها يختصرون الطريق الذي لا يستطيعون أن يقطعوه بإمكاناتهم الأدبية، وقد لا يقطعونه أصلا! وأعني بهذه الوسائل التسلل والتصيد بغية إقامة علاقات مع السلطات من أي نوع كانت؛ سياسية أو أدبية أو حزبية أو عشائرية أو كارتلات الثقافة أو تكتلات أنصاف المثقفين وغير الموهوبين، متمسحين بأكتاف هذه السلطات، متملقين ديناصوراتها، من أجل الحظوة بمكاسب مختلفة، قد تكون ثمينة أو زهيدة كمشاركات ودعوات وعضويات ولجان تجعل منهم بعد حين أدباء يظفرون بما قد لا يظفر به الأدباء الحقيقيون. ومحصلة ذلك كله أن يصبح التدجين طابعا ممنهجا يتصف به الواقع الأدبي ولا ينجو من شركه سوى أولئك الذين تحصنوا بالثقافة الأصيلة فوعوا حقيقة ذلك الواقع التدجيني وغاياته، فلا يقبلون من ثم بالمساومة أو بيع الذمم.
أما أمر الرعاية والاهتمام بأدباء التدجين فليس من ورائه سوى تدني حال الأدب، فلا ثقافة يسعى هؤلاء الى التزود بها ولا اشتغال على الذات من اجل التطوير والارتقاء، وبدلا من أن يكونوا مصدر إنارة للمجتمع يصبحون هم مصدر التعتيم والتجهيل.
وعلى وفق هذا الحال صار مثقف التدجين يمارس مسلكيته بحرفية فيتخذ من انتاجه وسيلة تحقق له منافع ذاتية ولا مطلب له سوى أن يكسب ولا فرق عنده ان تأتيه الشهرة من اي طرف وبأية وسيلة فيغتر بنفسه ويبدد طاقته متوجها نحو المزيد من الأعطيات الآنية، ولتذهب المبادئ إلى الجحيم.
وأكثر الأساليب التي يتبعها أدباء التدجين هي لعب دور البهلوان القافز على الحبال، ومع القفز تتشتت قابلياته، فتضيع البقية الباقية من قيمته الانسانية، فتراه لا يزيد الطين إلا بلة، ولا يزيد الظلمة إلا دكنة، ويتخبط في حلكتها بما يخلطه من أوراق وما يستجمعه منها فيغدو وجوده مثل عدمه. ويكون السياسي السلطوي والاداري الوصولي هما قدوته، يحتذي حذوهما وقصده ان يتعلم منهما كيفية مسك عقدة اللعبة بيديه، يجاهر من جهة بالدفاع عن الضحية، ويهادن من جهة أخرى الجلاد، ويذرف دموع التماسيح على الفئة المغلوبة ويضحك بشدقين ماكرين للفئة الغالبة، يوقّع بيده بيانات تناصر المظلومين، ويصافح بها الظالمين مصافحة الأحباب للأحباب، يصور نفسه الضحية وهو الذي بتخاذله وتواطئه يناصر الجلاد، كي يلتهم أي أحد يقف حجر عثرة أمامه، يمسك برقاب الصغار فأما يكونون مثله فيدعمهم وإلا يسحقهم فلا تقوم لهم من بعده قائمة، فهو ملك الأطراف كلها. هو المحترف والحريف، وأسوأ المدجنين ذاك الذي سيصبح فيما بعد معلما، يتعلم منه المستجدون الصغار أصول التدجين.
ولا نغالي إذا قلنا إن التدجين صار يسري بيننا مسرى النار في الهشيم ومن ثم يقل عديد الأدباء الانقياء. ولهذا مسبباته وهي مدروسة ومخطط لها بحذاقة وتسخر لها كل الإمكانيات من اجل ان تحقق نتائجها المرجوة وبها يكون أمر التدجين ساري المفعول بقوة وفاعلية، مكافحا كل من تظهر فيه إمارات التنوير أو لديه بذرة الثقافة الحقيقية والأمثلة كثيرة ولكن ليس كل ما يعرف يقال.
وليس غريبا بعد ذلك أن تغدو أفعال هؤلاء على المدى المنظور أو البعيد عنصر تخريب، تشيع المساوئ في المجتمع. وبوادر هذا المنظور تلوح في الافق ومرصودة من لدن الذين ما زالت أمام أعينهم تلك الصورة النقية للثقافة من الذين لم تجرفهم عجلة الهبات الدسمة والأعطيات الفخمة والموائد العامرة.
هذا الواقع الثقافي المزري هو ما أكده وأفرزه عدوان الكيان الصهيوني على غزة بوصفه هزة أيقظت الضمير العربي والعالمي، فخلخلت موازين القوى وأرعبت أول ما أرعبت العدو الصهيوني وآخر من أرعبتهم هم أدباء التدجين الذين بدوا فاعلين في مهمتهم التعتيمية الراهنة، فمنهم من راح يدبج المقالات من اجل إعادة الاعتبار للعدو الذليل، نافخا في قرب الصهاينة المثقوبة، وحاملا لواء المدجن الكبير الطاهر بن جلون، لا لأنه الأقدم مثالا واحترافية في التدجين، بل لأنه جرّب اخطر أداة من أدوات التدجين وهي الكيل بمكيالين فظهر عاريا مكشوفا للجميع حين نشر في أسبوعية “لي بوينت” الفرنسية يبرئ ساحة المحتل الصهيوني ويسيء الى المقاومة الفلسطينية وعمليتها طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 فوصفها باللااخلاقية واللاانسانية معتبرا الجلاد الصهيوني ضحية وانه (جرح لكل الإنسانية) !!.
بالطبع المساومة على الوطن ليست أقل عارا من المساومة على الشرف، إنما هو التدجين الذي يجعل صاحبه يحمل في وجهه وقفاه صورة التابع الذي لا يسبِّح إلا بحمد أسياده. ولقد اتخذ أدباء التدجين حذرهم بعد ذلك فصاروا يستعملون أدوات أقل خطرا، بها يمسكون العصا من الوسط، مدعين من جانب نصرة الفلسطينيين ومن جانب آخر يقزمون الفرد العربي والشخصية العربية، يلومون ويقرعون أكثر مما يشيدون بنضال الثوار الأحرار، يسمون الأشياء بغير مسمياتها ويخبطون خبط عشواء كي لا تبين حقائق الأشياء، يتعكزون على ما هو آني وسلبي ولا يستشرفون المستقبل الواعد، ممارين بذلك الطرفين ظالما ومظلوما، فهم مع هذا تارة وتارات مع ذاك.
وفي الوقت الذي فيه هز العدوان الصهيوني على شعبنا في غزة العالم كله، فصدحت أصوات الضمائر الحية تحتج على المجازر الدموية بدءا من قلب الغرب وانتهاء بأبعد نقطة في العالم، فإن الجماهير في كل مكان لم تفتأ تنادي بالنصرة وتعادي القتلة، تخرج الى الساحات وتجمع التبرعات وتنتظر الفرصة التي تفتح بها الحدود لتقديم المساعدات الانسانية لشعب تمارس ضده الابادة الجماعية، ولا أثر لأدباء التدجين لانهم بالطبع لا يريدون بل يعزفون عن المشاركة الفعلية في هذه الصورة الباسلة. أما ما صدر من بيانات ( عدة) باسم المثقفين وجرى التوقيع عبر الوسائط الافتراضية وكل فئة ببيانها فرحة، فيحتاج بحق تحديدا دقيقا وفاعلا في من تصح عليه التسمية ، فلقد لمسنا الجعجعة ولم نر طحينا من بعد تلك البيانات.
ومن المؤسف حقا ان فئة أدباء التدجين تأخذ بالاتساع يوما بعد يوم، ومعها يتسع الخراب والتشويه. والمتضرر هو الجمهور الذي يختلط عليه أمر هؤلاء المدجَنين بأولئك الاصلاء فيتصور أن هذا هو حال الثقافة في صورتها الحقيقية، وما من خيار بعد ذلك أمامه سوى القبول بهذا الحال. وإذا كان وجود أدباء التدجين يلعب دورا سلبيا ازاء قضايانا المصيرية وفي مقدمتها قضية فلسطين، فإن تعرية هؤلاء واجب على الجميع.. فلقد ساء ما فعلوه ..وما سيفعلون.