ثمة رحلة سياحية شيقة للعام 2020 إلى باريس مدينة الأحلام أم الدنيا وزمردة المدائن الأوربية وأيقونة الرومانسية والجمال الغافية على ضفاف نهر السين الخالد ، وكانت المكتبة المركزية الباريسية أولى محطاتي في جدول برنامجي السياحي ، مكتبة مذهلة مثيرة للدهشة كم هائل من الكتب والمخطوطات ولجميع ثقافات العالم وكذا المجلات والصحف وبكل لغات العالم ، حيث وقع نظري على : مجلة العربي " التي تصدر في باريس وراقت لي مواضيعها الأدبية والتراثية التأريخية للعالم العربي منها نقدا أدبياً جميلا يرقى لنصٍ سردي مبهر بحق شاعر التصدي والمعارضة " أحمد مطر " :
{--- شاعرَلا يقف في طابور، ولم يفتح سوبرماركت ، ولا يتقن بيع البضاعة ، ولا يدعوك إلى قصيدة غزل ماجنة في جلسة خمر وخضراء وقمر ولا إلى قصيدة مدح في باب السلطان ، ولا قصيدة فخرٍ في باب الرئيس الأوحد ، ولا قصيدة رثاء يتقمص فيها دور النائحة لأستدرار الدموع ، ولا يملك صفراً في البنوك بيد إنهُ من أصحاب الملايين في بورصة : الكلمة الحرة في قصائد التصدي " لرموز(أنا) ربكم الأعلى للنظم الشمولية الدكتاتورية } .
يعتبرويبقى الشعر من أرقى أشكال التعبير اللغوي لأنهُ من أوائل الفنون المحلية والأقليمية والعالمية الجميلة التي تستجيب للطموحات البشرية السوية لعمري هي الرافعة الأساسية في البناء المجتمعي ومآلات أمنياته المشروعة وحضور النهج الثقافي الملتزم والمثقف الواعي والمدرك لمتطلبات شعبه في رغيف الخبزوالحرية الهادفة ولا يخفى أن يرقى إلى ( كود ) المشفر للتغيير ووضع الجمهور على طريق الألف ميل والتماهي مع خطاب ميرابو الثورات ( جيفارا ) وهو يحدد سمات المثقف المطلوب للتغيير : ( المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خراباً من النظم المتعسفة ) ، ونحن بحاجة لفسحة من الأمل بتطلع أنساني مشروع للوصول إلى اليوتوبيا ( المدينة الفاضلة ) المترعة بالفرد الثوري المصلح الذي سلاحه التصدي والذي سوف يكون حديثنا عن أحد شعراء التحدي والتصدي الشاعر البصري العراقي " أحمد مطر " الذي يعتبر من رواد التحديث والتقارب والتماهي مع الشعراء الكبار ، وللبحث عن التكامل الجمالي في أشعاره الأقتحامية المعارضة جعلتهُ يتألق في البحث عن أيحاءات أستلابات الوعي المأزوم بالقهر وآلام أيام الحروب العبثية للطاغية والحصار الآقتصادي الظالم وغياب مفهوم ثقافة أستلابات الحرب التي لا تورث سوى الويلات والدمار والجنائز والمعوقين فشرب منها شاعرنا حتى الثمالة حيث أملى عليه ( جني ) أشعارهِ قصائد ثرة وثرية من التصدي لطغات أصحاب القرار السياسي .
أحمد مطر شاعر عراقي تولد 1954 قرية التنومة أحدى نواحي شط العرب البصرة ، كتب أحمد مطر عن حبه للوطن :
انا
لستُ سعيداً
لأنّي بعيد عن صدى آهات المعذبين ،
لأني أحمل آهاتهم في دمي ،
فالوطن الذي أخرجني منهُ
لم يستطع أن يخرج مني ،
ولا أحبُ أن أخرجهُ ولن أخرجهُ).
وأرى إن الشاعر يبدو لي متابعاً وقارئاً نهماً للنصوص الأدبية والشعرية بمساحة واسعة مطلا من نافذة العراق أولا ثُمّ الأدب الخليجي فالعربي والعالمي ، وبالتأكيد أطلع بشكلٍ جيد على الروايات العالمية والمصرية والسينما الصامتة والمتحركة وموهبتهُ في الرسم الكاريكاتيري كل تلك ظهرت آثارها وبصماتها خلال نصوصه الشعرية ، لذا أن دراسة تجربة " مطر " جعلتني واثقاً ومتأكداً أن الشاعر أتقن مفهوم الحرية لذا أني أمام شاعرٌ كبير صنع شخصنتهُ المطرية بمقاسات الكبار المحدثين .
تميّز بتعدد الترحال بعقوبة المنفى القسري ، فهو مهجرٌ داخل خيمة وطنهِ وخارجها إلى الكويت الجارة! ثم إلى أرض الضباب لندن الذي أستقر فيها ليكتب أسباب ترحاله :
سبعون طعنة هنا موصولة النزفِ
تبدي ولا تخفي
تغتال خوف الموت بالخوفِ
وأحمد مطر من شعراء المهجر الذين تركوا الوطن دفاعاً عن الوطن ، ورضوا بالغربة خشية الأغتراب داخلهِ ، متفهما لما عاناهُ الجواهري من كأس المنافي المرْ ، ويعبر الجواهري العظيم عن هذه المظلومية : بكيتُ وما على نفسي ---- ولكن على وطنٍ مضامٍ مستهانِ .
شاعرنا أعطى للكلمة الشعرية معنى ، وشكل مع رفاقه شعراء المهجر هاجس التصدي الذي أقلق الأنظمة الشمولية ، فحين أمتزجتْ ظواهر الحياة مع عالمهِ الشعري رسمها في أبهى صورها بنكهة وجمالية خاصة ، وبأعتقادي : تلك هي غاية الأدب في الحياة وبدونها تصبح كالماء عديم اللون والطعم والرائحة وهوالقائل :
قصيدة ثارات
قطعوا الزهرة
قالت !
من ورائي برعم سوف يثور
قطعوا البرعم !
قالت :
غيرهُ ينبض في رحم الجذور
قطعوا الجذور من التربة
قالت :
إنني من أجل هذا اليوم
خبأتُ البذور
كامن ثأري بأعماق الثرى
وغداً سوف يرى كل الورى
تبرد الشمس
ولا تبرد ثارات الزهور!؟
أحمد مطر أنسان حرْ متمرد على واقعهِ المذلْ والمهان من جلاديه سواءاً كان في وطنهِ أوالوطن العربي بحكامٍ مدمنين القهر وكم الأفواه وأغتيال الكلمة الحرّة بسياط القوّة والترصد ، ولعل "مطر " عبّر ببساطة ولكن بأقتحامية سردية وبنصٍ جريئ يقتحم سور الشمولية المذل وأن يكسرْ حاجز الخوف ببراعة شاعر أعلن حرباً على الرتابة المملة ، لذا وصفه نقاد عصرنا المعولم بالحداثوية : أن أحمد مطر " ملك الشعراء" لروائع ما كتب في الشعر المعبر ، ويقول : في قصيدة أحتمالات
ربما الماء يروب
ربما الزيت يذوب
ربما يحملُ ماءَ في ثقوب
ربما تطلع شمس الضحى من صوب الغروب
إنما لا يبرأ الحكام في كل بلاد العرب
من ذنب الشعوب !!!
السخرية السياسية في شعر أحمد مطر ، أن السخرية الشعرية فن راقي يحتاج إلى الذكاء والفكر وحركتهِ الديناميكية ، فهي سلاح خطير بيد الكبار في النقد والفلسفة مثل المناضل عبدالجباروهبي ( أبو سعيد ) والأستاذ البصري " جاسم المطير " صاحب المسامير ، فأضطر شاعرنا سلوك هذا الطريق الشائك والخطير للنضال ضد جلادي الكلمة الحرة في وطنه الحبيب وعموم الوطن العربي ، ولأن الشعر في نظر الشاعر مطر : إنهُ نوع من أنواع الفنون من مهماتهِ التحريض والكشف والشهادة على الواقع ، والنظر إلى الأبعد ، وهو بذلك يسبق العقل ويواكبهُ ويضيء لهُ الطريق ويحرسهُ من غوائل التضليل ، والتفكير بواقع المواطن المؤلم وأزماته اليومية إلى جانب صعوبة التغيير الشامل ألا بالشعر وأقول أنه شاعر أنتحاري ذاهب إلى الحرب بدون أسلحة تقليدية ولكن بسلاح صنعه لنفسه يصعب فك شفرته ألا أحمد مطر ، بأعتقادي هذا اللون من الشعر يعني أشعار الثورة والمقاومة . ويقول :
أنا لستُ أهجو الحاكمين : وإنما
أهجو بذكر الحاكمين هجائي
ويقول في قصيدتهِ المشهورة " قهر "
فإذا لم أكتب الشعر أنا
كيف يعيش المخبرون ؟
وإذا لم أشتم الحكام
من يعتقلون ؟
وإذا لم يسجنوني
لمن تفتح أبواب السجون !
كلهم بأسمي يشتغلون
كلهم من خير شعري يأكلون
وفي أخرى يقول:
كل أبناء السمو والمعالي
تحت نعالي
فقيل لي عيباً فكررتُ مقالي
فأنتبهتُ إلى سوء مقالي
فقدمتُ أعتذاري لنعالي
وهو من مؤيدي التجديد في النقلة النوعية من الشعر المقفى إلى الشعر الحر ، القائل :
أعلمُ أن القافية
لا تستطيع وحدها أسقاط عرش الطاغية
لكني أدبغُ جلدهُ بها
دبغ جلود الماشية
حتى إذا ما حانت الساعة
وأنقضت عليه القاضية
يكون جلداً جاهزاً
يصنعُ منهُ الأحذية
وكان رفضهِ للخنوع والذل باللجوء إلى الكويت وأشتغالهِ بجريدة القبس الكويتية التي أعتبرتْ نافذة لهُ يطلُ بها على الجمهور، ولكن المحرر ورقيب الجريدة أستعملا معهُ الفوقية وسياسة لي الأذرع وأستثما ر أمكانياته الأدبية في الأعلام الموجه ، ولكنهُ رفض بشدة ولم يستكين ،مستمراً على نهجه الرافض للعبودية والتصدي بنشر قصيدته المشهورة :
لفت نظر
السلطان
لايمكن أن يفهم طوعاً
إنك مجروح الوجدان
بل لايفهم ما الوجدان؟
السلطان مصاب دوما
بالنسيان وبالنسوان
مشغولا حتى فخذيه
لا فرصة للفهم لديه
ولكن يفهم
لابد ببعض الأ حيان
أن تسعفهُ بالتبيان
أن تقرصهُ من أذنيه
وتعلقهُ من رجليه
وتمد أصابعك العشرة في عينيه
وتقول لهُ حان الآن
أن تفهم أني أنسان
يا ----- حيوان !
ويعود ثم يعود إلى سلاح التصدي والتحدي والأستخفاف بالحكام العرب المستبدين وأستلابات المنفى يقول في قصيدة (مقيم في الهجرة) :
قلمي يجري
ودمي يجري
وأنا بينهما أجري
أوطاني شغلي – والغربة أجري
يا شعري
يا قاسم ظهري
كلمة تقييم : لقد تم يوم 10-2-2024 أفتتاح مهرجان المربد الشعري (35) البصرة دورة " شاعرأحمد مطر" لك المجد والظفروالحسنى يا شاعر المقاومة والمعارضة الوطنية حين يسجل حضورك أهلك البصريون هنيئا وأنت الحاضر الغائب في عكاضك البصري .
كاتب وباحث عراقي مغترب
آذار 2024