أنتِ هنا في غرفتي الصغيرة
النقطةُ الأقربُ في الكونِ إلى السماء
أسمعُ طول الليل يا أمي صلاتكِ الأخيرة
وألمسُ الجبينَ وهو ينحني إلى الإله
أنتِ هنا أيتها الميّتة في غرفتي الصغيرة
النقطةُ الأقربُ في الكون إلى الحياة
القصيدة للشاعر فاضل السلطاني، ورغم قِصرها، لكن ما تبلّغه للقارئ كثيرٌ إلى حدّ أنه ما إن ينتهي من القراءة، لا يملك غير أن يعيد تلاوتها بصوت مسموع، ليتأكد من أن أبياتها ستة لا غير، فكيف تركت هذا الأثر عنده؟
الشاعر، وفي لحظة وجدانية، تماهت لديه الأبعاد في الكون، الصغير مع الكبير، والقريب مع البعيد، والحيّ الباقي مع الميّت. إنها لعبة تحتاج إلى الجرأة والجسارة منذ البدء، فالغرفة القليلة تعني الكون الواسع، والصلاة أخذت بُعدها الميتافيزيقي الأقصى لأنها تُحيي الموتى، ومن أجل أن يصير الخيال واقعا قارّا يعمد الشاعر إلى لمس جبين أمه كي يتحقق من وجودها، وهل كانت تؤدي صلاة العشاء، أم أن الأمر أحد أفعال سحر الشعر الحلال؟ يظلّ يتردّد صدى صلاة العشاء طوال الليل، وهي الأخيرة في اليوم، ليتّصل مباشرة بالصلاة الأولى من اليوم التالي عند الفجر، ثم تحلّ صلاة الظهر والعصر والمغرب، وتكتمل دورة اليوم بوجود الأم مع الشاعر في غرفته. هل يجد القارئ في القصيدة نوعا من نوستالجيا إلى إيمان دينيّ غادرَ فاضل السلطاني منذ زمن طويل، نتيجة قناعات فكريّة راسخة، وتعبيرا أيضا عن الجوّ العام في بلاد المنفى؟
في البيتين الأخيرين تظهر مهارة الشاعر في قلب الأمور، وبكلمات قليلة وبسيطة، يعود الشاعر عندها من أبعد نقطة في الكون، الصلاة إلى الإله، إلى الوجود الأقرب، الأم الميتة في الغرفة الصغيرة:
"أنت هنا أيتها الميتة في غرفتي الصغيرة النقطة الأقرب في الكون إلى الحياة".
كم تبدو الأم الميتة حيّةً!؟
تتبادل الحياة مع الموت الدور، ويشمل الأمر ما يحيط بالشاعر في المنفى من أشياء وأحاسيس وموجودات، وربما أفكار أيضا سوف تخضع إلى المعادلة ذاتها.
سعاد
للبائعة في "مول النخيل" صوت خشن في آخره بحّة تكشف عن ألم دفين. سألتُها: "أتدخّنين؟". هزّت رأسها نافية الأمر، وكانت تحاول الاتّصال بمديرها، تستفسر عن سعر الساعة الجداريّة التي أروم شراءها. قلتُ لها، محاولا إملاء فراغ الصمت بيننا، بينما يجيبها مدير القسم الذي تعمل فيه: "هل صوتك مبحوح بسبب الصياح؟". "نعم!". "عراك؟". "نعم!". "مع الأهل؟". هزّت رأسها دلالة على الإيجاب. "وسبب الخصام هو المال؟". أشارت بإبهامها إلى أعلى، ويعني هذا أن تخميني في مكانه. "أقرضتِ أخاكِ، وهو يُماطلُ في التسديد. أليس كذلك؟". قلتُ بنبرة أعلى، وتابعتُ: "ثم سافرَ إلى خارج البلاد، حاملا معه تعبَ عُمرك". فتحت البائعة عينين سوداوين واسعتين، ولمحتُ فيهما دموعا خفيّة، وكان يصلني صوت المدير في هاتفها: "ألو. ألو. ما الأمر أيتها البائعة؟".
لا يعرف المسؤول عن القسم اسم الفتاة السمراء المليحة التي تعمل في المول منذ خمس سنين، وأخبرتني "سعاد" به في الحال، مع رقم هاتفها، بالطبع...