دراسات في النقد العربي القديم كتاب صادر من دار فارس للنشر والتوزيع في عمان ..
دراسة للدكتور جابر خضير تناول موضوعة المرأة التي تمثل احدى الموضوعات الاساسية في الابحاث التي اتخذت من دراسة واقع المجتمع العربي وما يتحكم به من عادات وقيم وتقاليد مادة لها ، ولا شك في ان المطلع على مجمل موروثنا في كافة المجالات سوف يجد ذلك الحضور اللافت للمرأة ، وهو حضور افرز الكثير من الدراسات التي تناولت واقع المرأة في الثقافة العربية ، ولعل النتيجة المتحصلة من هذه الدراسات هي تلك الصورة السلبية التي كونتها الثقافة عن المرأة ، وهي صورة شملت كافة الجوانب المتعلقة بها ، الثقافية ، والمعرفية ، والبيولوجية ، والسيكولوجية ، ولكون النقد مؤسسة فاعلة ومتأثرة ببقية مؤسسات المجتمع العربي القديم ، فقد سعت هذه الابحاث التي كتبها المؤلف بأوقات متقاربة نسبيا الى بلورة نظرة خاصة للمرأة من خلال نصوص النقد العربي ، وهي نظرة لا تتقاطع مع التصورات المتشكلة حول المرأة بقدر ما تؤكدها وتتلاءم مع توجهاتها الاقصائية للمرأة .
حاول الكاتب في البحث الاول استجلاء التصورات التي افرزت هذا الموقف السلبي من المرأة في الثقافة العربية بشكل عام ومؤسسة النقد العربي على وجه الخصوص اما البحث الثاني فيدرس موضوعة الغزل من خلال استجلاء المقاييس والمعايير التي صاغها النقاد العرب لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في هذا المجال ودرس في البحث الثالث المرأة والابداع الشعري من زاويتين ، الاولى بوصفها منتجة للشعر والثانية تناولت تقبل المرأة للابداع الشعري محاولا بذلك استجلاء اهم البواعث لهذا التقبل . وتنطلق الدراسة الرابعة من ديوان الحماسة لأبي تمام وذلك للاجماع الادبي الذي نالته مختارات هذا الديوان من لدن النقاد العرب .
لا شك ان الحديث عن الانوثة بوصفها قيمة متدنية في الخطاب النقدي هو حديث يستمد مشروعيته من خصوصية الثقافة التي انتجت ذلك الخطاب وكرست سلطة الذكر والنظرة الى المرأة على انها محور الشر وقد تحدث الباحثون عن خلفيات اسطورية ودينية كان لها الدور في تشكيل ذلك الاتجاه ، الا ان هناك اسبابا اخرى منها ما يتصل بالطبيعة البيولوجية للمرأة ومنها ما يتصل بالنصوص المؤسسة للثقافة .. ويختصر الاسباب في ضعف البنية الجسدية و القدرة العقلية للمرأة ، وان تأكيد على نقص عقل المرأة من قبل نصوص المؤسسة الدينية ترك اثره على التوزيع القيمي للرجل والمرأة ، اذ اصبح العقل قيمة ذكورية يتميز بها الرجل عن المرأة كما ان جميع الصفات التي حددتها الثقافة للعالم هي صفات فحولية ، هكذا تم اقصاء المرأة من دائرة العقل وكل ما يدخل تحته من سياسة وبيان واعمال للرأي وهو ما عكس صورة سلبية تتمثل في جعلها خارج اطار المشاركة الفعلية في انجاز القرار. هذا التصور الدوني للقيمة المعرفية التي تملكها المرأة قد تجلى في الخطاب النقدي بوصفه مجالا للاستثمار المجازي الذي يكرس هيمنة الرجل اذا ما تم قياس معارفه بمعارف المرأة .
وتحت عنوان المرأة والسلطة يقول الكاتب ، ربما يبدو من الغريب ان نتكلم عن سلطة تتمتع بها المرأة في خطاب ذكوري قد نشأ بالأصل في ظل ثقافة ذكورية قامت بتهميش المرأة وسلبتها عقلها الذي يعد أهم المقومات الاساسية التي يتميز بها الانسان عن سائر المخلوقات ، ان الحديث عن سلطة مضادة في ضوء المعطيات يتطلب من الباحث وضع اليد على نقاط الضعف التي يمكن من خلالها ان نتكلم عن صراع سلطوي يحاول فيه كل طرف استحواذ الطرف الآخر والسيطرة عليه ، وبما ان الثقافة العربية هي ثقافة ذكورية ، فلذا يعد الرجل هو العنصر الممثل لهذه الثقافة والمعبر عن توجهاتها . هذا الدور المركزي للرجل في المجتمع العربي هيأ له مجالا واسعا لممارسة سلطته على المرأة التي تعد الفضاء الذي يمكن ان تتجلى فيه هذه السلطة في اوضح تجلياتها . والسؤال هل من الممكن ايجاد سلطة مضادة تسعى الى تقويض السلطة المهيمنة في التراث العربي ؟ وتهدف الى ايجاد نوع من التعارض بين المسيطر ومن يقع تحت السيطرة في جسم المجتمع . لقد تجلت سلطة المرأة في موضوع العشق في الخطاب النقدي عند العرب ضمن دائرتين يمكن ان نطلق عليهما دائرة الالغاء ودائرة المنع وتندرج ضمن دائرة الالغاء ثلاثة محاور ، الغاء الذات ، الغاء العقل والغاء الجسد اما دائرة المنع فتشمل منع المعارضة ومنع التكافؤ ومنع التعدد ومنع التجلد ومنع الاعتدال .
وعن المرأة والابداع الشعري كتب ، انه على الرغم مما توصل اليه الباحثون حول ادب المرأة في التراث العربي والذي يتمثل بقلة ما وصل منه اضافة الى حصره بموضوعات دون موضوعات اخرى ويبقى الامر في هذا المجال مدارا للفحص والتمحيص من خلال ما وصل الينا من هذا الادب فهناك مؤلفات قد تناولت ادب المرأة في التراث العربي ويتناول ابداع المرأة في المنظور النقدي فلا شك ان كثيرا من الاعراف والعادات والتقاليد التي يؤمن بها مجتمع ما تنعكس بصورة واضحة على الادب الذي ينتجه افراد هذا المجتمع ، كما لا شك ايضا ان هذه العادات والتقاليد تفعل فعلها في الخطاب النقدي الذي يدور حول هذا الادب ذلك ان الناقد هو كما المبدع فرد يتأثر بتقاليد المجتمع وتصوراته وقضية المرأة والموقف منها في هذا المجال هو من القضايا الجوهرية في الثقافة العربية وشرح ذلك وفق عدد من المحاور منها ، المرأة والكلام والمرأة والشعر والمرأة والمنظومة القيمية ، مثلا هناك قيمتان متناقضتان الشعر : قيمة ذكورية تمثل الدرجة العليا للجودة ، وقيمة انثوية تمثل الدرجة السفلى للجودة وهذه القيمة الانثوية بما تمثله من عيوب فنية هي ما يندرج ضمنها جميع نتاج المرأة في المنظور النقدي . يقول ابو العلاء المعري بعد ذكره عيوب القوافي في كتابه الفصول والغايات " وانما يوجد ذلك في اشعار النساء والضعفة من الشعراء " . فأبو العلاء المعري يرى ان شعر النساء في مجمله ضعيف لما يعتريه من عيوب فنية لا يتساوى معهن في ذلك الا الضعاف من الشعراء وهذا ربما كان السبب في تغييب شعر المرأة في العصر الاموي كما يرى ابو الفرج الاصفهاني الذي امر من قبل احد الوزراء بجمع اشعار النساء واخبارهن في الدولتين الاموية والعباسية اذ يقول : " ولم اجد في الدولة الاموية منهن شاعرة مذكورة ولا خاملة ، لان القوم لم يكونوا يختارون من شعره لين ولا يرضون الا بما يجري مجرى الشعر الجزل المختار الفصيح " . وبالنظر الى كل ما تقدم هل يمكن للمرأة ان تسحب اعترافا بشعرها من قبل القيمين على الابداع من النقاد اذا ما ارادت ان تمضي بالكتابة في الموضوعات التي تناسب ميولها وخبراتها ام انها ستلجأ الى تفحيل شعرها في مناورة منها لسحب اعتراف مؤسسة النقد بها ؟ وهذا ما فعلته شاعرتان كان لهما حضور لا بأس به في نصوص النقاد العرب وهما : الخنساء وليلى الاخيلية . الخنساء تميز شعرها بالرثاء وايضا الاخيلية بالرثاء ولكنها اشتهرت برثاء حبيبها توبة بن الحمير الامر الذي جعل منها ظاهرة فريدة في تاريخ الشعر النسوي ، لما هو معروف من تشدد المجتمع العربي ازاء شعر المرأة ، خصوصا اذا كان في الحب والغزل . وتقبل النقاد العرب شعرهما على اسس ومعايير تم على ضوئها استحضار شعرها في نصوص النقاد العرب , اسس موضوعاتية كالمديح والرثاء وعلى الرغم من ان اغلب شعر الشاعرتين هو في الرثاء الا ان ذلك لم يمنع النقاد من استحسان اشعارهما ضمن اطار المديح او حتى الفخر وذلك لان النقاد قد نظروا الى هذه الموضوعات على انها موضوع واحد وتبقى الفوارق بينهما فوارق في التسمية لا تغير من مضامينها القيمية شيئا . ومن اهم الاسس التي يبنى عليها المديح عند النقاد العرب هي المدح بالفضائل النفسية وهي العقل والشجاعة والعدل والعفة . ولم يختلف الرثاء على صعيد التغني بالقيم الذكورية عن المدح والفخر عند النقاد العرب الا انهم لاحظوا فرقا في مقياس درجة العاطفة في رثاء المرأة ورأوا ان ذلك يعود للطبيعة السيكولوجية للمرأة والتي تتمثل بالجزع الناتج عن الخور وضعف العزيمة وهو ما ينبني عليه الرثاء في نظرهم . وعلى الرغم من صواب هذه النظرة التي ترى في قوة العاطفة مقياسا لجودة الرثاء الا ان النقاد العرب لم يفضلوا من الرثاء الا ما كان يتغنى بالقيم الذكورية ولذلك رأوا ان من اشد الرثاء صعوبة على الشاعر ان يرثي طفلا او امرأة لضيق الكلام عليه فيهما وقلة الصفات .. والواقع ان الخنساء وليلى الاخيلية لم تدخلا ميدان الفحول الا بعد تفحيل شعرهما من خلال الاشادة بقيم الجماعة في رثائهما وهو ما يتضح جليا في جميع اشعارهما التي حازت على رضا ذائقة النقاد العرب .
وبما يتعلق بأسس فنية كالجدة والابتكار والموازنات والسرقات الشعرية والتي تتصل اتصالا مباشرا بمسألة الابتكار ذلك ان تشديد النقاد على ارجاع المعاني الى اصولها انما هو محاولة للتنويه بحيازة الشاعر لمعانيه الخاصة به بعد ان آمن النقاد بفكرة نفاذ المعاني وان المعاني قد استهلكها الشعراء المتقدمون الامر الذي يجعل من الربط بين الفحولة التي تعني قمة الجودة العليا للابداع وبين السرقات الشعرية في المنظور النقدي ربطا يقوم على اسس فنية وطيدة .. ولا بد من الاشارة الى ان هناك ظواهر فنية عدة هي من مقومات الاسلوب الفني الرفيع كما انها تعد ايضا من اسس القدرة الابداعية للشاعر والتي فتح النقاد العرب لها ابوابا مطولة في مؤلفاتهم تحت مسمى البديع وهو ما لم يغب فيه شعر الشاعرتين فضلا عن غيرهن من النساء الشواعر . ولم يكن حضور المرأة بوصفها منتجة في الموروث النقدي اكثر من حضورها ناقدة للأبداع واذا كان شعر المرأة قد جاء في معظمه ضمن شروط الكتابة الذكورية فان نقدها كان نقدا نسويا بامتياز .
يعد اختيار الشعر اول ممارسة نقدية عرفها العرب قبل تأسيس نظرية متكاملة تقوم على اسس ومعايير معلومة ، فالاختيار جهد نقدي يقوم على المؤهلات التي يمتلكها المختار وما يتميز به من ذوق فني وخبرة في قراءة الاعمال الادبية ويحتفظ ديوان الحماسة لأبي تمام اكثر من غيره من المختارات الشعرية بالابداع النسوي ، اذ لا يخلو باب من ابوابه منه على الرغم من قلته اذا ما قيس بالابداع الذكوري . وللحماسة معنيان تدور اغلب الدلالات المتفرعة عن الحماسة في اللغة حولهما وهما : الشدة والشجاعة . ويمثل الرثاء الباب الاكثر حضورا لشعر المرأة من بين ابواب الحماسة لما لشعر الرثاء من صلة بالمرأة ، اذ نشأت المرثية نشأتها الاولى من ندب النوادب المجرد من القوالب ولهذا غلب تعهده بعد ذلك على النساء . واذا كان الرثاء الصق اغراض الشعر بالمرأة واقربها لطبيعتها العاطفية فان الهجاء يعد على النقيض من ذلك تماما ولهذا كانت مشاركتها في هذا الغرض نادرة . الا اننا على الرغم من ذلك لا نعدم خوض المرأة في هذا الغرض لأسباب ربما دفعتها الى ذلك دفعا وبالنظر الى ديوان الحماسة يمكن ان نصنف من توجهت اليهم المرأة بالهجاء الى ثلاثة مهجوين ، هجاء الجماعة ، هجاء الزوج وهجاء المرأة . اما في باب النسيب ، هناك مقطوعة واحدة واردة للشاعرة ( وجيهة الضبية ) فهي شعر في الحنين الى ديار عشيرتها اكثر منها غزلا لرجل بعينه لا سيما وان التشوق الى الديار يعد قيمة مشتركة بين شعر الحب وشعر الحنين الى الوطن الذي يعد بدوره من اكثر الاغراض الشعرية التي اجتذبت المرأة الشاعرة لان المرأة ربما تزوجت خارج ارضها فتشوقت الى وطنها وما يحمله من ذكريات . ويعد المديح من اكبر اغراض الشعر العربي نظرا للطبيعة التكسبية له الا انه يأتي قي مرحلة متأخرة عن بقية الابواب الاخرى في ترتيب ابواب الحماسة ونجد حصة المرأة فيه تأتي تالية لحصتها في باب الرثاء وباب الملح ( الاحاديث الحسنة ) يأتي في اخر ابواب ديوان الحماسة ولا يأتي بعده الا باب مذمة النساء .
اما القيمة الدلالية للمرأة في ديوان الحماسة فتقع ضمن محاور ( طبيعتها : الشجاعة ، بكاء المرأة وتعظيم الرجل ) اخلاقها ( العفة ، البخل ، الجبن ) جنسانيتها ورغباتها .. ولم يهتم العرب بشيء من صفات المرأة قدر اهتمامهم بجمالها وقد عكس لنا هذا الاهتمام من خلال رسم الصورة المثالية لكل تفاصيل المرأة فلا غرابة ان يحتل الجمال عرش المنظومة القيمية الخاصة بالمرأة .