ليس من الميسور الكتابة عن مسرحي عالمي فذ مثل أبسن (1828 - 1906) ذلك لأنه لم يكن كاتباً مسرحياً تقليدياً، ولم يكن نرويجياً أحاط نفسه بعوالم محلية محدودة، كما أنه لم ينقل الواقع المادي بمنظور فوتوغرافي، مثلما لم يتخذ من المسرح، فناً للمتعة المجردة، ولا خطاباً حوارياً ميلودرامياً عابراً.
إن الكتابة عن أبسن، لا بد أن تسير على وفق منظورين: فكري وفني، ولا يمكن الفصل بينهما وعلى جميع مسرحياته الـ (26).
لقد اتخذ أبسن من المسرح رسالة إنسانية عميقة، وعمل على كشف وإدانة السلطات التي تمارس أسلوب الكذب والنفاق والابتزاز وقمع الحريات والحيلولة من دون اتخاذ المرأة وجودها الإنساني الحر.
صحيح أنه انطلق من بيئة محلية نرويجية، الا أنه تمكن من توظيفها، لتصبح موضوعة إنسانية تشمل كل المجتمعات التي تعاني من تلك الظواهر السلبية والسلطات القمعية والتقاليد الجامدة.
من هنا يجيْ كتاب (إبسن/ الحداثة، الجماليات، الشخصيات النسائية)* للأستاذ رضا الظاهر حاملاً أهميته وضرورته في واقعنا الراهن. إن مسرحية (عدو الشعب) مثلاً، يمكن أن تقع أحداثها في العراق، وذلك عن طريق إدانتها للبيئة الملوثة والفاسدة المقترنة بالإدارة السيئة التي تمارس الكذب وتجانب الحقيقة. و(بيت الدمية) تقدم شخصية نورا، التي تعمد الى وجودها الإنساني، وليست دمية أو عبدة أو كائنا ساكنا لا يراد له الا أن يظل هامشياً. أما (الأشباح) و(أعمدة المجتمع) فهي إدانة للكذب الذي يشوه الحقائق، وأما (سيدة البحر) فدعوة الى الحرية وتحمل المسؤولية والتغلب على كل ما من شأنه تقييد إرادة الانسان.
ولسنا بصدد تقديم خلاصة لأي من مسرحيات أبسن، وانما أن نقدم إشارات الى معطيات واهتمامات ومنظور هذا الكاتب المسرحي الذي تمكن بفكره النيّر من نقل الوضع أو الحالة أو الظاهرة المحلية النرويجية، الى كل ما يشغل ويهم ويواجه معاناة الشعوب، في عالم يضيق على حريات البشر، ويمارس أكاذيبه التي لا تنطلي على وعي وإرادة الشعوب.
من هنا كانت مسرحيات ابسن تحمل الكثير من العقبات أينما عرضت، وقد تواجه الحجب.. سواء كانت نصوصاً، أو عروضاً مسرحية أو أفلاماً.. ذلك أن هذه المسرحيات، كانت بيانات ثورية تتخذ من الحوار سبيلاً لتوعية الناس، ومن ثم إيقاظ حسهم النقدي والثوري.
واذا كان إبسن "صعب الفهم، واعظ فلسفي، وحكيم معقد، وإن مسرحياته مفعمة بالقلق العميق، تتجلى مشاهدها في غرف شمالية خانقة، وشخصيات مثيرة للجدل وعصية على التفكير"، كما يقول الأستاذ رضا الظاهر؛ فأن هذا لا يقلل أبداً من أهمية وبراعة وتأثير إبسن، ذلك أن الفلسفة والفكر عندما يستخدمان في فن المسرح، فانهما يضفيان عليه قدراً من الجدية والرصانة والعمق، على العكس من تلك المسرحيات الميلودرامية العابرة والتي لا تجد صداها في وعي الناس ولا تؤثر في عقولهم ووجدانهم وأحاسيسهم.
إن إيصال الفكر عن طريق الفن، يعني انقاذ أو تخفيف الجفاف الذي يصاحب الفكر والفلسفة، والفن - مسرحاً او تشكيلاً او قصاً او شعراً.. ـ من شأنه أن يرتقي برصانة الفكر ويسهم مساهمة فعالة وراقية في إيصاله كمعطى إنساني قابل للتفاعل والارتقاء بالبشر.. وهذه هي رسالة الفن الراقي والمسؤول.
ويرى الأستاذ الظاهر أن زواجه من الشاعرة والكاتبة المسرحية والشخصية الذكية سوزانا داي ثوربسين، ورحلاته ورؤيته مسارح أوربا ومسرحيات شكسبير على وجه الخصوص، كانت تشكل عوامل رئيسية في مسيرة حياته الإبداعية، وهو أمر ينبه الى إمكانية تبادل الأثر والتأثير.. ذلك أن أياً منا هو مجموعة ثقافات وليست هناك ثقافة أحادية تعيش في عزلة عن العالم وعن الشخصيات المؤثرة فينا.
نعم.. إبسن لم يكن استثناء في هذا الواقع، وانما هو موهبة لم تتكئ على موهبة مجردة، وانما اتخذت منها منطلقاً لترسيخ تجارب مختلفة ورؤى متعددة وصور شتى عملت على إرساء وجوده الإنساني والابداعي والفكري وتعزيز مواقفه التي تحولت الى خطاب عالمي يحمل رمزه وتفوقه ومن ثم جعلته "يمارس التجريب ويتجاوز الحدود في كتاباته وغالباً ما جعلت نزعة الاكتشاف هذه منه ومن مسرحياته موضوعاً مثيراً للجدل وصادماً للجمهور والنقاد المحافظين". وهذه سمة يتفرد بها إبسن، فهو لم يستجب الى جمهور ساكن والى نقد محافظ ولا رؤية جامدة.
إبسن.. اختط لنفسه طريقاً متفرداً في تجاوز مثل هذه الحالات، بوصفها تشكل قيداً على كتاباته، وعقبة أمام تحولاته، وجموداً لحركته المتوثبة. وينقل لنا الظاهر صورة عن الجدية في العمل الواعي والمسؤول، عندما أشار الى "إليانور ماركس، إبنة ماركس الصغرى، التي تعلمت النرويجية، لتتمكن من ترجمة مسرحيات إبسن".
وهذا يعني أن إليانور، قد وجدت القيمة الرصينة والهامة والأصالة التي تتمتع بها مسرحيات إبسن.. وأنها مسرحيات تستحق أن يتعلم المرء اللغة الأصلية لمؤلفها لكي يفهمها ويستوعبها ومن ثم يقدمها الى لغات أخرى. ويرى الظاهر "أن إبسن وبريخت يظهران مآسي الرأسمالية عبر إضاءة الظلم الذي تسببه للنساء".
في حين نجد أن الظلم لم يكن بعتمته وبطشه معنياً بالنساء وحدهن، وانما هو وطأة واستغلال للمجتمع بكامله .. نساءه ورجاله وأطفاله. وينقل المؤلف عن غرامشي قوله عن مسرحية (بيت الدمية): "لكي تكون الدراما حقيقية وليس مجرد ألوان قوس قزح متغيرة لا مبرر لها، ينبغي أن يكون لها محتوى أخلاقي، وأن تجسد صراعاً لا بد منه في عالمين داخليين مفهومين للواقع ووجودين أخلاقيين".
على وفق هذا الفهم بقي إبسن يعمل على ترسيخ قواعد مسرحية بناءة تهدف الى تقديم مسرح مسؤول، يناقش القضايا الملحة لمعاناة البشرية، وما تواجهه من عقبات وضغوط. كذلك نتبين أن إبسن لم يكن واقعياً معاصراً جامداً حسب؛ وانما انتقل الى متغيرات الحداثة التي يشغلها الفكر من جهة ومتغيرات الواقع الاجتماعي كذلك. وهو الأمر الذي جعل منه مسرحياً طليعياً، لا يقف عند حدود بعينها وانما هو في حالة متغيرات جادة وجديدة بشكل مستمر، من أجل مواكبة العصر وأبعاده الجديدة.
ان ما ذهب اليه الأستاذ الظاهر في كتابه هذا يعد سبيلاً من سبل تنبيه القراء والمشاهدين الى المسرح والأفلام التي تعود الى إبسن بوصفه مفكراً وفناناً في عين الوقت، وهذا ما نطمح اليه في النظر الى فن المسرح لا بوصفه فناً مجرداً للمتعة حسب، وانما أن نوظف هذه المتعة من أجل إيصال قيم فكرية نيّرة تسهم في توعية الناس ومن ثم معرفتهم بواقعهم وظروفهم والعمل على تغييرها تغييراً شاملاً.
وكان الأمل أن يضيف المؤلف قدراً من الاهتمام والإشارة الى الترجمات العربية لمسرحيات إبسن والى الأفلام التي أخذت عن مسرحياته. كما كانت بنا حاجة الى توثيق ما قدمه المسرح العراقي من نصوص إبسن المسرحية لتكوين صورة كاملة عن هذا العبقري المسرحي الفذ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إبسن/ الحداثة، الجماليات، الشخصيات النسائية. تأليف: رضا الظاهر. إصدار: أبجد للترجمة والنشر/ بابل 2024.
"الطريق الثقافي" – العدد 142 – 5 حزيران 2024