فلسطين في الشعر العراقي
نشر بواسطة: mod1
الأحد 23-06-2024
 
   
د. نادية هناوي- المدى

واكب الشعراء العراقيون القضية الفلسطينية على اختلاف مراحل نضالها، وتناولوا مفاصل مأساتها بدءا من النكبة الأولى عام 1948 ومرورا بالنكسة في 1967 ووصولا إلى ما يجري اليوم في غزة وسائر مدن فلسطين المحتلة من إبادة جماعية تمارسها العصابات الصهيونية ومن يدعمها من قوى الامبريالية العالمية.

وليس يسيرا تعداد التجارب الشعرية العراقية التي صدحت بالقضية الفلسطينية وآزرت المقاومة وفصائلها الثورية، لأن فلسطين حاضرة في كل المراحل الفنية التي مر بها الشعر العراقي سواء على مستوى كتابة القصيدة العمودية أو كتابة قصيدتي التفعيلة والنثر. وأول تلك المراحل يتمثل في النزوع الوجداني وبدأت بوادره تتجلى على يد شعراء النصف الأول من القرن العشرين بالتزامن مع توسع نوايا الصهيونية ومخططاتها داخل فلسطين. واتسمت قصائد الجيل الشعري الأول في العراق -والذي بدأ من مطلع القرن العشرين إلى قيام الحرب العالمية الثانية- بصنوف من التعبير العاطفي رثاءً وشكوى وأسى على ما ضاع من فلسطين وقدسها الشريف مع التغني بمآثر الفلسطينيين تاريخا وأرضا ولغة وشعبا. فرثى الجواهري فلسطين واستشرف وضعا مريعا لما سيؤول إليه حالها إن لم يتحرك العرب للدفاع عنها:

سيُلحقون فلسطيناً بأندلسٍ ويَعْطفون عليها البيتَ والحرما

ويسلبونَك بغداداً وجلقةً ويتركونك لا لحماً ولا وضما

جزاء ما اصطنعت كفاك من نعمٍ بيضاء عند أناسٍ تجحد النعما

وواصل شعراء الجيل الشعري الثاني التعبير عن الألم والحزن على ما تركته نكبة 1948 من مرارة في نفوس العرب وجسدوا معاناة الفلسطيني النازح والمهاجر والمنفي واللاجئ، وكانوا دائمي التعاطف مع اللاجئين الذين سكنوا مختلف مدن العراق. فناصر عبد الوهاب البياتي بقصيدته (الملجأ العشرون) الشعب الفلسطيني في ما يواجهه من تشريد وقتل. وندد بأفعال الاستيطان الإرهابية وكيف استولى الصهاينة على أراضي الفلسطينيين بالقوة وشردوهم قسرا وعدوانا. وتوجع البياتي مما يعيشه اللاجئون الفلسطينيون من أوضاع صعبة في مخيمات توزعت بين لبنان وسوريا والأردن.

وما أن حصلت بعض الخيبات السياسية في العراق وفي مقدمتها خيبة 1963 ثم جاءت نكسة حزيران 1967 حتى بدأت مرحلة شعرية جديدة في دعم فلسطين فغدت القصيدة تحريضية تدعو الى الوحدة في مواجهة الخطر الصهيوني. وتطورت أشكال جديدة تتناسب مع ما استجد آنذاك من أوضاع سياسية واجتماعية، هزت الكيان العربي من الداخل هزة عنيفة. وانبرى أغلب الشعراء العراقيين لنصرة قضية العرب المركزية فتغنوا بأبطال المقاومة وأشادوا بالصمود الفلسطيني في مواجهة الصهيونية وإجرامها الوحشي المتغطرس والمتعالي على كل القوانين والشرائع والمعاهدات الانسانية. فكتب سعدي يوسف قصيدة( البحث عن خان أيوب)1972 وجسد فيها حاله تائها داخل مدينة تراه غريبا والزمان بندقية تتفرد ولم تعد المدن ثغورا بل صارت مصارف مال وكل شيء يراقب الشاعر وهو العاشق الفرد ولكن فجأة يجد:

هناك مقهى كراسيه سقف، كان يرتاده العدميون/ والهاربون ومن يصنعون القنابل السرية، لوددت/ لو اني آتيك منه بفنجان قهوة./ ولكنني ان اردت الحقيقة اخجل من بعض روادها/ فلنقل ما نشاء هنا انني قائل ما تقول

ويستمر في توصيف حال هؤلاء فعرف أنهم إخوته وأنهم يقيمون جسورا ويمدون أعمدة لمدينة فيها تلتقي مدن الناصرة ودمشق وبغداد فاهتدى بنفسه إلى خان أيوب.

وواصلت القصيدة العراقية نبرتها التحريضية إلى نهاية التسعينيات ساعية الى بث الشعور القومي بين العرب رافضة ما تمخض عن معاهدات المنتجعات من سياسات التسوية ومشاريع المساومة والاستسلام ونددت وفضحت أوضاع التخاذل، وحرضت على الحرب ضد الصهاينة ودعمت الفصائل الفلسطينية بكل ما تقوم به من عمليات فدائية.

ولعل أهم شكل تحريضي هو الذي اتبعه مظفر النواب في قصيدته الحارقة (القدس عروس عروبتكم) وهي ملأى بالنقمة والاستياء ومحملة بسخرية ساخطة ولاذعة. تعري الأنظمة المتخاذلة وتفضح تقاعس الجبناء والمتآمرين على فلسطين التي هي مركز فيه تلتقي الأمة من أجل استعادة أراضيها من أيدي المغتصبين.

واتخذ الشاعر أحمد مطر السخرية السوداوية اسلوبا في كشف وتعرية أشكال التخاذل والتواطؤ والمساومة كما في قصيدته( بين يدي القدس) وفيها يرى أن الجهاد بالنفس والمقاومة المسلحة هما الطريق الوحيد نحو تحرير فلسطين وأن ذلك لن يتحقق والمواطن العربي متقاعس ينتظر من حكامه أن يعلنوا الجهاد كي يهب هو للنصرة. ولهذا تندر من حال هذا المواطن وصوّره تصويرا مقذعا في قصيدة( أصنام البشر) وأشاد في قصيدة( لا نامت أعين الجبناء) بالفدائي الفلسطيني الذي يحمل روحه على راحته، مضحيا في سبيل أرضه وشعبه. واستعمل طريقة القناع فكان هو الفدائي الذي يمشي برغم الموت على أشلائه متبرما من وجوه يعلوها الخزي والاستحياء وشفاه( كثغور البغايا تتدلى في كل إناء وما من شعراء سوى الشهداء)

ولا تكاد تخلو قصائد الشعراء العراقيين الاخرين من الحديث عن القدس ومحنتها ومسجدها والاستيطان الصهيوني فيها ورفض مفاوضات السلام في اوسلو وغيرها.

ومن منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم أخذت النبرة التحريضية في القصيدة العراقية تتمازج بنزعة وجودية في مساندة فلسطين، وهو ما يمثل المرحلة الشعرية الثالثة وتوصف بأنها رمزية. واتضحت أبعادها بشكل جلي خلال العقدين المنصرمين من هذا القرن. فهجر الشعراء في الأعم الأغلب النزعة التحريضية، والأسباب كثيرة منها ما عاشه العراق أبان الغزو الأمريكي من تحديات مصيرية وصدمات نفسية وإخفاقات سياسية وانتكاسات اجتماعية. ومنها أن الشاعر العراقي صار يحمل هما وجوديا أكثر منه قوميا أو محليا كما أن الشعر المنبري الكلاسيكي تراجع ولم تعد قصيدة التفعيلة محيطة بمسائل الواقع بل مالت نحو مسائل الذات والميتافيزيقيا، وطغت الرمزية عليها وهي تواكب مجريات الوضع العربي عامة والوضع الفلسطيني خاصة.

وكثيرون هم الشعراء الذين وجدوا في الرمز بغيتهم، فنظروا إلى فلسطين أيقونة لكل أرض مستباحة أو حق مضاع أو تاريخ مدنس، فيها تتجسد معاني البطولة والفداء والأصالة والصمود والنضال. وليس يسيرا الإحاطة بالكم الشعري المنشور في خضم هذه المرحلة لأن استعمال الترميز يجعل القصيدة مفتوحة على التأويل ومن ثم يكون القارئ هو الفيصل في الإحالة بالقصيدة على فلسطين أو غيرها بمعنى أن الشاعر يضع إشاراته في إطار رمزي، لا ينطبق على الوضع الفلسطيني وحده بل ينطبق على كل وضع عالمي مشابه. يقول الشاعر كاظم الحجاج في قصيدة (سيناريو موت جندي في ارض أخرى):

لقطة أولى/ خوذة خلفتها هزيمة جيش الغزاة/.. / تسقط كف الجندي/ على ارض ترفضها/ وتراب يأبى ان يصبح طينا/ بدماء غريب/ لا تبعد ذاكرة المقتول عن القاتل/ والنزف/ ودائرة القتل مربعه/ لتذكر بالشطرنج/.. / لافتة ملطخة بالدماء مكتوب عليها: " قبل ان نبتني وطنا لنعيش عليه/ أ لابد من وطن أولى/ نموت له؟

ولقد أثبتت معركة طوفان الأقصى التي اندلع أوارها في السابع من أكتوبر 2023 أن غزة في صمودها بوجه الإبادة الجماعية هي أنموذج لكل فلسطين، تأبى الضيم وترفض الظلم والاستكانة ولكن هذه المعركة أثبتت أيضا حقيقة أخرى وهي أن النزوع الرمزي في القصيدة العراقية انتهى بها في الأعم الأغلب إلى الجمود الشعري في ملاحقة الأحداث الدامية في فلسطين من جانب وملاحقة ما حققته من أثر ومساحة على الصعيد العربي من جانب آخر. ويتبادر الى الذهن السؤال الاتي: لماذا لم يؤثر شعراء المرحلتين الوجدانية والتحريضية الذين عاصروا النكبة والنكسة في شعراء المرحلة الرمزية؟

إن الظروف السياسية التي شهدتها البلدان العربية في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي لم تكن كتلك الظروف التي عايشها شعراء القرن العشرين فالشعر كان سلاحا في المقاومة لكنه اليوم ليس كذلك، بل هو لا يملك سلاح نفسه أعني أنه غير قادر على إثبات فاعليته كفن أدبي، فثمة تراجع واضح في همم كثير من الشعراء مع سوء هضم لدى كثير من المتلقين. ونادرا ما نجد شاعرا يولي التجريب الفني اهتماما أو يسعى إلى بناء تجربة فريدة، بها يقدر على تلبية طموحات المتلقين. وبهذا الشكل انتهى للأسف زمان النغمة الوجدانية وغابت شمس الفاعلية التحريضية، ومن ثم لا تطلعات ينشدها الشعر الراهن غير التطلع نحو الرمزية. وصحيح أن تقدير المدة التي سيبقى فيها الشعر العراقي خاصة والعربي عامة محصورا في هذه الزاوية ليس يسيرا، بيد أن الأمل يحدونا في أن يخرج الشعر معافى؛ وإلا فإن العقم هو مآله لا محال.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced