شهرزاد مازالت تعلم النساء تغيير واقعهن وواقع الرجال
نشر بواسطة: mod1
الثلاثاء 30-07-2024
 
   
مصطفى أمين

لن يتوقف الحديث عن السرد والقصص، فقد رافقت الإنسان منذ القدم ومازالت سترافقه لا بوصفها فنّا فحسب بل رفيق حياة، فالإنسان نفسه حكايات متراصة، ولعل أشهر وأهم الحكايات على مر التاريخ "ألف ليلة وليلة" التي ستبقى من أمهات الأعمال السردية وأكثرها تأثيرا وأطولها خلودا. وفي إضاءة على شخصية شهرزاد وملامح من “ألف ليلة وليلة” كان لـ"العرب" هذا الحوار مع الباحثة اللبنانية عايدة الجوهري.

حينما تذكر شهرزاد، فهي تبرز بوصفها واحدة من أشهر الراويات – الساردات والحكاءات في التاريخ، لا بل على مستوى فن “الحكي” عموما، سواء أكان السارد رجلا أم امرأة. ولكن هذه “الحكاءة” لم تخترع حكايات “ألف ليلة وليلة” الشهيرة في العالم كله، فالكثير من الدراسات، العربية والغربية، أثبتت، أو سعت لتثبت، أن الحكايات لها مصادر غير عربية، ولكن جرت ترجمتها إلى العربية، قبل أن تشيع في الكثير من لغات العالم.

هذه الدراسة “دروس شهرزاد” للباحثة والأكاديمية عايدة الجوهري، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، قيّمة على غير صعيد، بدءا من منهجها التحليلي المركب، الحديث، مرورا بالمادة التي حشدتها الجوهري لإثراء بحثها وتعميقه، واستفادتها من مناهج البحث الحديثة في مجالها، خصوصا استفادتها من دراسات اجتماعية وفكرية وعلم نفس، غربية وعربية، والأكثر حضورا فيها عالم السرديات الفرنسي غريماس، وصولا إلى ما قدمته من إعادة “ألف ليلة وليلة” إلى الأصل الهندي متمثلا في حكايات “شوكاسابتاتي”، الكتاب الهندي الذي ينطوي على 70 حكاية، والمقاربة بين مضامين النصين، وهو عمل ربما تكون الجوهري سباقة في طرحه.

وكلما جرت محاورة الكاتبة والباحثة حول أيّ موضوع، تتعزز قناعتها بأن إعادة سرد التاريخ أو العودة التاريخية إلى أيّ موضوع هي الشرط الأوّليّ للحكايات المتماسكة التي تقدم إطارا نظريا منهجيا، وبالتالي تفتح لها إعادة سرد تاريخ الحكايات وخاصة حكاية شهرزاد محاولة جديدة ومتنوعة للتحليل والنقاش، وهذا ما تمثل في هذا الحوار معها.

شهرزاد امرأة استثنائية

العرب: عنوان الكتاب “دروس شهرزاد”، ما هي الدروس التي تعلّمها شهرزاد للنساء والتي أودعتها في ذاكرة التاريخ والأدب؟

عايدة الجوهري: بداية، سعت شهرزاد إلى خلاصها وخلاص بنات المدينة، اللواتي أشارت إليهن باستخدام عبارة “بنات المسلمين”، ولكن سيرورتها، وأفعالها وأقوالها، وصيرورتها، أي ما صارت إليه، مليئة بالإيحاءات والدلالات، والتي من شأنها أو تتحول إلى دروس.

تعلّم شهرزاد النساء المتهورات والمضطهدات أن تغيير مصائرهن ليس أمرا مستحيلا، وأن ما هن عليه من قهر واضطهاد وتهديد ليس قدرا محتوما، بل قابل للتغيير والتعديل والتوازن. ولكن هذا الوعد بالتغيير يشترط أن تعي المرأة ذاتها، ملكاتها، وطاقاتها، وقيمتها الذاتية، وأن تثق بنفسها، وأن تتزود بالمعرفة، والمهارة، والجدارة، الكافية لخوض غمار الحياة.

تفترض دعوة شهرزاد المضمرة إلى وعي المرأة بذاتها، وبقيمتها الذاتية، وبملكاتها وطاقاتها، أن وعي النساء الناقص بذواتهن، وعدم تقديرهن لها، يسهم أيّما مساهمة في تكريس أوليات اضطهادهن، كما في حشرهن بأدوارهن الجندرية المكتسبة، والمفتعلة، والتي تبقيهن في مكانتهن الدونية، ويمهد وعي النساء الناقص بذواتهن للتمييز ضدهن، وعزلهن عن الثقافة الاجتماعية السائدة وعن ديناميكيات الحياة العامة.

إن شعور المرأة بالنقصان هو حجر الزاوية الذي يتكئ عليه البنيان الذكوري، فهذا النظام مثله مثل أيّ نظام استبدادي، يستثمر في استسلام موضوع له، ويتجذر، فالمواطن سهل الانقياد والامتثال يسهم في تعزيز أدوات قمعه. إلا أن الوعي العميق بالذات وبقيمة هذه الذات، يظل منقوصا، تعوزه الفاعلية، ما لم تتزود المرأة بالمعارف والمهارات، التي تؤهلها للانخراط في الحياة من بابها الواسع.

كما يشترط هذا التغيير أن تنفض النساء عنهن غبار الكسل، والسلبية، والاستسلام، وأن يكن إيجابيات فاعلات، فالفعل هو اتصال الفرد بالعالم، هو تفاعل بين الذات والأفراد والأشياء.

ولا يتحقق التغيير إلا إذا تمكنت النساء من التحرر من الخوف المديد الذي يكبلهن ويعيقهن عن الفعل، والانطلاق، وعن مواجهة مفاعيل وتمظهرات النظام الذكوري المتعنت، على أن تكون هذه المواجهة مدروسة، ومبنية على أسس معرفية.

فبفضل هذه المواصفات والاشتراطات، انتقلت شهرزاد من واقع إلى آخر، من وضعية إلى أخرى، من وضعية المرأة المحتقرة، منزوعة القيمة، المهددة بالذبح، إلى وضعية المرأة الناجية، والمحبوبة، والمتوجة ملكة، وأمّا لأولاد الملك، وورثة ملكه.

وتعلّم شهرزاد النساء أن مواصفاتها التي ستغير واقعها، سوف تؤدي في الآن عينه إلى تغيير واقع الرجل نفسه، بمعنى أنه سوف يضطر إلى مراجعة نفسه، وتصويب تمثلاته وتصوراته، والتخلص من الأفكار المسبقة والجاهزة المترسبة في قاع اللاوعي حول كينونة النساء، والتي تسمّم حياته وحياتها.

إن شهريار نفسه تغير وتبدل، ونفض عنه ذاته القديمة، العابقة بالكراهية، والعنف، والتأزم، فظهر في قميصه الجديد، ودودا، محبا، متسامحا، متصالحا مع نفسه.

أجبرت شهرزاد شهريار على كبح جماح شهواته المدمرة، والإنصات إليها، والإبحار معها في عوالم جديدة، مبهرة، يتعالى من خلالها على الواقع الفج والمبتذل، وصولا إلى الاعتراف بها كائنا إنسانيا يستحق الحياة، والحب، والكرامة، والتكريم.

حاصله، إن دروس شهرزاد مطابقة لنموذجها، فهي تمثل وتجسد نموذجا مضادا للأنثى التي اصطنعها المجتمع الذكوري، محددا أدوارها، وخصالها، وهي عموما، المرأة التابعة، الصاغرة، مشلولة الطاقة والإرادة واللسان، ضئيلة الوجود والحضور، هي نموذج المرأة غير المطابقة لجندرها، أي لمجموع الأدوار والخصال، المرسومة والمقررة سلفا، والنابذة للإبداع والتفرد.

إن هذه النقلة النوعية التي عكسها مسار شهرزاد، وصيرورتها، تدرّب النساء على التخلص من شعورهن المكين، بذنب الأنوثة، المناط بقدرهن البيولوجي، والمشوب بالشعور بالأسى والعجز، والذي يؤدي تدريجيا إلى فقدان ضحاياه من النساء عنفوانهن وقدرتهن على الاحترام والمواجهة، وإلى شعورهن المستمر بانعدام التكافؤ بين قوتهن وقوة ما يتعرّضن له، وإلى وجودهن تاليا في حالة المغلوب على أمره.

إن شعور المرأة بذنب الأنوثة، وبدونيتها، يفقدها الأسلوب الاقتحامي في الوجود، وسرعان ما تتخلى عن المواجهة منسحبة أو مستسلمة، أو متجنبة، احتسابا لسوء العاقبة، ويأسا من الظفر والانتصار والتصدي.

العرب: ماذا أضافت مقاربتك إلى المقاربات السابقة التي تناولت شخصية شهرزاد بالتفكيك والتحليل؟

عايدة الجوهري: لن ينتهي الحديث عن شهرزاد، هي التي انتشر اسمها في كل أرجاء الكوكب، ولن ينتهي كذلك الحديث عن صراعها مع شهريار، وعن مضامين الحكايات التي تخطى عددها المئتين والثمانين حكاية، لأن مسيرة شهرزاد الشخصية، المرتكزة جوهريا على صراعها مع شهريار، والفنية الدرامية التي قضت بسرد هذا الكم من الحكايات على مدى ألف ليلة وليلة، مسيرة أسطورية، لا تني تثير الدهشة.

والذين انكبوا على تحليل شخصية شهرزاد وتفكيكها، توزعوا على اتجاهين متضادين:

الفريق الأول رأى فيها امرأة ذليلة، صاغرة، منصاعة، عاجزة عن مواجهة شهريار بندية، ولإثبات صحة فرضياته يستند هذا الفريق على محتويات الحكايات التي سردتها هذه الأخيرة لإزهاق الوقت وإشغال شهريار عن هوس قتل النساء، والتي كانت بمعظمها كارهة للمرأة، محتقرة لها.

أما الفريق الثاني فهو يرى فيها نموذج المرأة العارفة والقديرة، والحكيمة، التي روت ما روت من حكايات مسيئة لصورة المرأة كي تنقذ شهريار من وطأة هواجسه، فتطمئنه إلى أن النساء الخارجات عن قانونه أو القوانين الذكورية العامة، سوف ينلن عقابهن.

أنا من جهتي، انتهجت منهجا آخر، قضى بأن أفصل بين الحكاية – الإطار، وما يسمى أحيانا الحكاية – الأم، وسائر الحكايات التي ترويها شهرزاد لشهريار لإهدار الوقت، وتهدئته، وبأن أقارب الحكاية – الإطار كبنية مستقلة، باعتبارها كيانا قائم بذاته، وتساءلت عن موقع شهرزاد قياسا لموقع شهريار وعن دورها قياسا لدوره، فوجدت وبسهولة فائقة، أنها هي من يحتل المركز لا شهريار، أنها هي الفاعل وشهريار المفعول به، أنها هي الشخصية الإيجابية وشهريار السلبية، أنها هي المبادرة والباثة، وشهريار المتلقي والمستقبل، أنها هي من يضع الأحداث ويتزعمها، خلافا لشهريار.

دفعتني هذه التساؤلات والملاحظات إلى افتراض أن شهرزاد امرأة استثنائية، مغايرة للأنماط الأنثوية السائدة، والتي تجرأ شهريار على اغتصابها وذبحها، وهي مغايرة تبعا للأدوار والخصال التي أسقطتها الأيديولوجيا الذكورية الجندرية على المرأة، والتي وضع أرباب هذه الأيديولوجيا، وأتباعها، كل الإستراتيجيات والآليات المتاحة، لجعل المرأة التي تخضع لهم، أو تحت وصايتهم، مطابقة لها، وكان سؤالي الرئيس هل كانت شهرزاد مطابقة لجندرها أو متكيفة مع الصورة الجندرية النمطية للمرآة؟

للرد على هذا السؤال اعتمدت منهجية نقدية مركبة.

قصص مختلفة المصادر

العرب: ما هو قوام هذه المنهجية؟

عايدة الجوهري: للإجابة على هذا السؤال وإثبات فرضيتي، أنا اعتمدت منهجية مركبة، قضت بادئ ذي بدء بأن أعود إلى جذور الحكاية – الإطار الهندية، وعلى رأسها الحكاية – الإطار في حكايات الببغاء السبعون، أو “شوكا سابتاتي”، فدرست التحولات البنيوية والدلالية، التي لحقت بالشخصية الأنثوية، بانتقالها من الحكاية – الإطار، هندية المنشأ، إلى الحكاية الإطار، العربية العباسية، في ألف ليلة وليلة، ورصدت الفروقات بينهما، التي جعلت من الشخصية الأنثوية في الحكاية الأولى شخصية نمطية خلافا لشهرزاد.

ولاحقا درست خصال شهرزاد انطلاقا من مقومات الإستراتيجية التي اعتمدتها، لتثبيط عزائم شهريار وتهدئة خواطره وثنيه عن أعماله الشائنة، والتي قامت على التفاوض والمبادلة، المبادلة بين السرد بوصفه عنصرا من عناصر المعرفة والحياة.

العرب: في الفصل الأخير تحدثت عن شهرزاد العباسية، هل تؤكدين أن حكايتها ولدت في ذلك العصر؟

عايدة الجوهري: إن إشارات وعلامات عديدة، موجودة في النص وخارجه، تجعلنا نرجح أن شهرزاد عربية عباسية، بمعنى أنه تم تخيلها وابتكارها في ذلك العصر:

أولا: تحتوي الحكاية – الإطار على إشارات دامغة لم تتبدل، رغم اتساع رقعة تداولها، تدل على حضور هذه الحكاية بعد ظهور الإسلام.

ثانيا: الانفتاح الواسع على الثقافة الهندية في العصر العباسي، ترجمة ومعايشة، وتعدد الرحالة العرب أو الناطقين بالعربية الذين وثّقوا رحلاتهم إلى الهند.

ثالثا: توثيق ابن النديم والمسعودي لمجريات الحكاية – الإطار ومضامينها، في القرن العاشر الميلادي أي في العصر العباسي الثاني.

رابعا: وجود مثيلات لشهرزاد في الحياة العباسية الواقعية، وفي المجاز، إذ ثمة مثيلات لشهرزاد في حكايات ألف ليلة وليلة.

العرب: بالنظر إلى التنوع الثقافي والتاريخي في حكايات «ألف ليلة وليلة»، كيف يمكن أن نفهم التفاعل بين العناصر الثقافية المختلفة التي تشكل هذا العمل الأدبي؟

عايدة الجوهري: إن كتاب «ألف ليلة وليلة»، جزء من الموروث الثقافي والشعبي العربي، غير أننا لا نستطيع الحديث عن سياق سوسيو – ثقافي موحد، وأحادي، في هذا الكتاب، فالسياق يختلف باختلاف أصول الحكايات ومنابتها، علما أنها اصطبغت جميعها، وبشكل متفاوت، بالثقافة العربية الإسلامية، وأنها جميعها تحمل سمات النظام العبودي.

هذه الحكايات متنوعة الأصول والمصادر، فهي تضم حكايات بغدادية أصلية، وجد فيها الباحثون أصداء لقصص واقعية، رواها المسعودي في «مروج الذهب»، وابن عبدربه في «العقد الفريد»، والقزويني في «عجائب المخلوقات»، وداوود الأنطاكي في «تزيين الأسواق» وفي «أخبار العشاق»، وغيرهم من الكتاب الذين اشتهروا في الثقافة العربية الإسلامية في القرون الوسطى. وإلى جانب هذه الحكايات، تبرز حكايات مصرية، مملوكية أو فاطمية، متصلة بالسياق الاجتماعي والثقافي الفاطمي أو المملوكي، وهذا السياق هو سياق عربي إسلامي بامتياز.

وفي المقابل، يحتوي كتاب «ألف ليلة وليلة» على حكايات ذات أصول هندية، أو فارسية، أو سومرية، أو بابلية، أو يونانية، أو بيزنطية، أو فرعونية، فكتاب «ألف ليلة وليلة، جَمْعٌ من القصص تختلف عصورها وأصولها، بحيث لا شيء يحكم ربط أصولها ولا يحد من مادتها»، كما تقول سهير القلماوي.

وعلى هذه الصورة، وما خلا الحكايات عربية المنبت، يتعذر الحديث عن إطار سوسيو – ثقافي أحادي موحد، يشمل كل الحكايات، بل يستقيم القول إنه أعيدت صياغة هذه الحكايات وصهرها، وفق الرؤية العربية الإسلامية للوجود والمجتمع والإنسان والأخلاق.

غير أن إعادة صياغة هذه الحكايات لم تطمس كليا أصولها الثقافية والاجتماعية والفنية، فتم الحفاظ على بنية الحكاية الأساسية، وهيكلها، وفكرتها، ومغزاها، وإيقاع الأحداث فيها، وأدوار شخوصها.

أما عن النظام الطبقي وتأثيره على سيرورة الشخوص، فإن الحكايات تدور في ظل نظام عبودي أبوي ذكوري، يشطر المجتمع إلى أسياد وعبيد، وحرائر وجوار، وهذا النظام أملى على النساء والرجال أدوارهم وسماتهم الجندرية، وفق موقعهم الطبقي.

النظام العبودي

العرب: كيف تسلط حكايات «ألف ليلة وليلة» الضوء على النظام العبودي في المجتمع العربي الإسلامي، خاصة في ما يتعلق بدور الجواري والغلمان؟ وكيف تعكس هذه الحكايات تنوع الأنوثات التي تشكلت طبقا لحاجات المجتمع والسوق والنظام المعرفي والقيمي؟

عايدة الجوهري: تعج حكايات «ألف ليلة وليلة»، بالجواري والغلمان، لاسيما تلك التي ولدت في مناخ عربي إسلامي، فحكايات «ألف ليلة وليلة» تكاد تنتمي بكليتها إلى النظام العبودي حيث ينقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد، وحرائر وجوار، إلى مالكين للعقارات ووسائل الإنتاج والبشر، وغير مالكين إلا لقوة عملهم.

وطبقا لحاجات المجتمع والسوق، وللنظام المعرفي والقيمي والأخلاقي السائد، وللوظائف التي تنتظر كلا من النساء والرجال، تم تشكيل عدة أنوثات وذكورات، فشاعت بين الجواري أنوثة جواري المتعة والإغواء والخدمات الجنسية، وأنوثة جواري الخدمة المنزلية، وأنوثة القيان، المغنيات والموسيقيات، وأنوثة الجواري الراقصات، وأنوثة الجواري الشاعرات، وأنوثة الجواري العالمات، المثقفات، الموسوعيات، وأنوثة الجواري الشغوفات بالسلطة والسياسة واللواتي تزوجن الخلفاء والأمراء والنافذين وشاركن في القرارات العامة.

إننا أمام نوعين من العبودية: العبودية الاجتماعية، والعبودية الجنسانوية التي تحول النساء إلى أشياء تتم قولبتهن وعجنهن، وفق إرادة الزبائن والمالكين والأسياد.

ولكن ما يعنيني هو استطاعة بعض الجواري، من مثل العالمات والمثقفات والموسوعيات والمغنيات والموسيقيات والشاعرات منهن، وبفضل مقوماتهن المعرفية والمهاراتية، اختراق جدار «الليالي» العبودي والذكوري، والخروج عن أدوارهن وسماتهن النمطية الجندرية، ووضع هذه المقومات في مواجهة الحصار العبودي الجندري، وفي مواجهة فرضية النقصان والدونية والعجز، وانتقال بعضهن إلى فرضية التفوق من مثل «تودد»، ويقول التاريخ إن هذا النمط من الجواري تمكّن من الصعود في السلم الاجتماعي، ونيل حظوة الخلفاء والنافذين.

ولقد حفلت كتب التراث، وعلى رأسها «الأغاني» لابي الفرج الأصفهاني، و«المستظرف في أخبار الجواري» للسيوطي، و«المحاسن والأضداد» و«رسالة القيان» للجاحظ، بأخبار الجواري المثقفات والعالمات والشاعرات والعازفات والمغنيات.

إن لظهور الجواري المبدعات، في الواقع والمجاز، دلالة حضارية توازي الدلالة الاجتماعية والاقتصادية، فالإقبال على هذا الصنف من الجواري، إنما يعكس رهانات الحقبة العباسية المعرفية والقيمية والحسية، إذ تأججت في الإمبراطورية العربية، وبفضل التلاقح الثقافي والفتوحات، الرغبة في المعرفة والاطلاع والترقي و«التبحر والتلاقي»، وهذه الرهانات انعكست إيجابا على أحوال شريحة من النساء، رغم الكوابح التي يفرضها النظام العبودي.

إننا أمام قاعدة إضافية: كلما ارتقت الأمم، تبدلت إيجابيا أدوار النساء والرجال.

أما الحرائر المعزولات غالبا وراء الحجاب، والملتزمات بمبدأ القرار في البيوت، فهؤلاء حرمن من فرص التأهيل والاختلاط المتاحة للجواري، واختزلت أنوثتهن بأنوثة «القرار في البيوت»، وأداء الخدمات الزوجية والتربوية والمنزلية، ونخبة قليلة منهن تمتعت بحريات نسبية بفضل تلقيها العلوم الدينية، فتحولت نساء هذه النخبة إلى مدرسات ومحدثات، ومحاضرات في الفقه والعلوم الدينية، إلى جانب قلة قليلة منهن احترفت الغناء والموسيقى والشعر.

غابت في وضعية الحرائر، الخطة المنهجية المرسومة، التي وضعت لتنشئة الجواري بما يلائم رهانات وأذواق العصر الفكرية والحسية، فالحرائر كن خاضعات ابتداء من العصر العباسي، وحسب بعض المصادر من العصر الأموي، لنظام «قوامة الرجال على النساء»، وتفضيلهم عليهن، وطاعتهن المطلقة لهم، بعد أن كنّ قبلا يتمتعن بالحرية التي كان يتمتع بها الرجال في مجتمع «بلا دولة ولا شريعة»، كما يقول هادي العلوي في كتابه «فصول عن المرأة».

وفي الوقت الذي كان فيه الرجال «الأحرار» يستمتعون بالحرية الجنسية والاجتماعية المطلقة مع الجواري والقيان، فقد تفنن هؤلاء الرجال في حبس نسائهم وألزموهن بالبقاء مرهونات في بيوتهن، وعينوا لخدمتهن الخصيان والأغوات، ومنعوهن من المشاركة في الحياة العامة.

إنها ازدواجية الرجل وازدواجية القيم والمعايير، وازدواجية الأنظمة الاجتماعية، وازدواجية النظام العبودي، وازدواجية النظام الذكوري الماهوية.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced