حمى التسابق ودورها في تراجع الأدب العربي
نشر بواسطة: mod1
الأحد 08-09-2024
 
   
د. نادية هناوي- الطریق الثقافي

بحسب القانون الطبيعي للإبداع فإن أي إنتاج كمي يفترض فيه أن يحوي بعض النوعية إلى حد ما. ولا خلاف في أن وراء حركية انتاج الأدب عوامل عدة، وبعض منها ذاتي يرتبط بالأديب نفسه وما يحيط به من أوضاع تحفزه على الكتابة سواء أكانت تلك الأوضاع سلبية أم ايجابية؛ وبعضها الآخر موضوعي يرتبط بالشأن العربي العام من نواحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فضلا عن التزايد في دور الطبع ومراكز النشر التي لا تفرض قيوداً أو معايير على زبائنها الكتّاب باستثناء قيد المال الذي إذا كان جاهزا نُشر المخطوط من دون انتظار أو رجاء.

بيد أن هناك عاملاً آخر صار يؤثر في حركية الأدب هو عامل البحث عن التسابق في مجالات الشعر والرواية والقصة والنقد بقصد نيل الهبات والاعطيات التي تمنحها جهات ذات امكانيات كبيرة. وقد يكون هذا حسنا ويدفع بالأدب قدما نحو الابداع إن كانت هناك لجان تحكيمية فاعلة ومشهود لها بالباع المعرفي والثقافي والنزاهة العلمية غير أن الحاصل ليس كذلك. وما دام الترشح للجائزة عشوائيا وكيفيا ولا يتضمن معايير ولا أهمية إن كانت للمترشح رؤى او معالجات جديدة في الكتابة الادبية أو كان مبتدئا هاويا، فان استسهال كتابة الأدب سيكون هو الحاصل، وسيشترك المبتدئ والمحترف معا ويكونان على كفة واحدة في الحظ والنصيب في ربح جائزة مادية ستتيح له شهرة وانتشارا وستسلط عليه الأضواء وعنه يكتب النقاد وحوله تعقد الندوات!!.

ولكن ماذا بعد الفوز ؟ بالطبع هو تكرار عملية التسابق على جائزة أخرى لاسيما حين تكون الظروف غير الادبية مواتية والعلاقات الاخوانية هي الحاكمة والحاسمة. ومن ثم تكون احتمالية أن الفائز سيعمل على أدبه وسيطور تجربته غير واردة بالمرة. وكيف تكون، والفائز أصابته حمى التسابق. وليس مهما عنده أن يجد الوقت الكافي لكتابة فيها إضافة جمالية؛ إنما المهم عنده ألا يداهمه الوقت في جولة قادمة عليه فيها أن يقتنص فرصة الحظ هذه.

أما آثار حمى التسابق هذه فنلمسها منعكسة على مشهدنا الثقافي الراهن بأشكال عدة، أهمها التراجع الكبير في فنية الكتابة الادبية التي زالت منها جديتها وغاب عنها عمقها ونوعيتها بعد أن ضاعت في دروب الشائع والعمومي من المقاسات المطلوبة او المستحسنة سلفا او المتوافق عليها ضمنا في منح جوائز الادب. وصار القارئ العربي يختنق وهو يجد كما من القصائد والقصص والروايات تكتب على غرار تلك التي أصابها الحظ وفازت بإحدى الجوائز.

ومن اثار الحمى ايضا تزايد الإنتاج كل عام مقابل تراجع نوعية هذا الإنتاج وقلة متلقيه فما عدنا نرى جماعات فنية تتبنى رؤية معينة ولا وجدنا أديبا يراهن على تجريب يبتكره في مجال من المجالات يبشر به ويدعو إليه.

وطبيعي بعد ذلك ألا نلمس في المستقبل اهتماما واضحا بالبحث عن أساليب نوعية ومناهج جديدة في الكتابة تؤسس لتقاليد كتلك التي أسسها الادباء السابقون. وهل ننسى أن البحث عن التفرد النوعي في الأدب كان سببا مهما في ظهور أعلام كبار طوعوا أفكارهم فنيا وحولوها إلى أعمال عكست طاقات إبداعية بعيدة كل البعد عن أية مغريات مادية أو مكاسب آنية أو مصالح ضيقة وشخصية؟. لقد كتب نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وحنا مينة وغائب طعمة فرمان ويوسف عواد وعبد الرحمن منيف روائعهم ولم يكن في بالهم جائزة تحفزهم ولا أصابتهم حمى التسابق؛ بل كان يهمهم واقعهم الاجتماعي والتعبير عنه وعن الهم الذاتي بإحساس موضوعي يصور الحال العربي ويتنبأ بوعي عال وسيمياء فكرية بالمآل العربي القادم، حاملين رسالتهم إلى مجتمعاتهم، بقصد التوعية والتغيير من دون منة ولا رغبة في جزاء أو شكر.

إن هذا كله يغيب في حاضرنا في مقابل تنامي حمى التسابق التي تزداد أكثر وأكثر مع كل دورة من دورات الجوائز العربية في خضم ما تثيره من زوابع إعلامية. ويتبع هذه الاهتمام انشغال الكثيرين بالكتابة على وفق مقاسات وموضوعات معينة.

وقد صار هذا الأمر ظاهرة، ومن مؤشراتها اقتحام الطارئين والمتطفلين لعوالم الشعر والسرد والنقد من دون معرفة بدروب هذه العوالم ومنعطفاتها. فتجدهم يحشرون انوفهم في ما لا يعرفونه، وبخاصة من يتطفل على النقد فيداري ضعفه بالإنشائية وعشوائية المسميات ومجانيتها مع التنطع والتذاكي في استعمالها على مستوى العناوين أو المتون.

ومن المؤشرات أيضا الانكباب على كتابة الرواية او إيثار أسماء ادبية بعينها والكتابة عنها مع الاكثار من عمل المقابلات واللقاءات في أكثر من محفل، لاسيما حين يبلغ حظه مستوى القائمة الطويلة أو القصيرة لجائزة ما. وقد يكلف من يكتب عنه وبخاصة اذا كان له موطئ قدم يقربه من لجان التحكيم التي فيها من اختير لألمعيته الإعلامية وهو الذي لا يصطبر على قراءة قصيدة او قصة او رواية واحدة او ذاك الذي صار محكما وليس في رصيده سوى بضع روايات قرأها على فترات مختلفة، وثالث يعرف من الرواية العربية على عدد أصابع اليد ومحكم آخر ينصب اهتمامه على الرواية الأجنبية فلا يتقن دارج اللغة العربية وعاميها ولهجتها ولكناتها التي قد توظف بطريقة فنية في المقاطع الحوارية أو المونولوجية.

إن هذه المؤشرات التي فيها ينخرط الاديب في حمى التسابق وتلك المعايير المتبعة في الفوز تعكس جوا مشوشا وغير صحي. وإلا كيف يفوز روائي لم يرشح للجائزة أصلا أو كيف يكون في لجان التحكيم أديب لم يكتب الرواية ولم يكن له في يوم من الأيام أي مقال نقدي أو بحثي في ظواهر الرواية وقضاياها. أما إذا كانت له شهادة أكاديمية فلن تشفع له ما دامت في غير جنس الرواية. ومن ثم يصبح هذا الارتكان إلى المزاج والعشوائية وعدم الجدة في النظر إلى التجارب الادبية سببا منطقيا ورئيسا في تراجع المستوى النوعي للأدب العربي.

إننا إذ نؤشر هذه الظاهرة فذلك خشية مما يمكن أن يتفرع عن حمى التسابق من ظواهر تبدو اليوم صغيرة لكنها مستقبلا قد تنمو وتكبر ولا يكون باستطاعتنا حينها كبح  ضررها أو الوقوف في وجهها لان خطرها سيكون قد تفرع في ظواهر جديدة تتناسل عنها.

وجل ما نخشاه أن يتحول القانون الطبيعي في كون الكمي يحوي بعضا مما هو نوعي إلى قانون آخر غير طبيعي فيه الكمي لا يحوي أي شيء نوعي. وعندذاك ستُنتفى فائدة الادب وسيركن جانبا متقهقرا متراجعا ويأفل نجمه بمحمومية التسابق على جوائزه.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced