مارغريت آتوود: المبدعون لا يملكون سلطة فعلية
نشر بواسطة: mod1
الأربعاء 02-10-2024
 
   
ضفة ثالثة- خاص

ترجمة: سارة حبيب

"القلم أقوى من السيف"، هكذا تقول العبارة. ولكن الكاتبة مارغريت آتوود (*)، ذات الشهرة العالمية، لا تؤمن بذلك.

في هذه المقابلة التي أجراها آرون جيمس ويندلاند (*) في 9 أيلول/سبتمبر 2024 مع مؤلفة رواية "حكاية الخادمة"، ترى آتوود أن للكُتّاب تأثيرًا- لا سلطة. فالسلطة الحقيقية تحتاج إلى جيش؛ إلى سيوف، لا إلى أقلام. وعلينا أن نكون واقعيين حيال هذا، ونكون واقعيين حيال آفاق اليوتوبيات التخييلية، إذا أردنا أن نحقق ما تعد به رؤانا المستقبلية الأكثر تفاؤلًا.

آرون جيمس ويندلاند: شرفٌ عظيم لي أن أقدّم مارغريت آتوود. مارغريت هي مؤلفة ثماني عشرة رواية، منها "الحياة قبل البشر"، "حكاية الخادمة"، و"القلب يذهب أخيرًا". وقد كتبت أيضًا ثمانية عشر كتابًا شعريًا، أحد عشر عملًا غير تخييلي، تسع مجموعات من القصص القصيرة، ثمانية كتب للأطفال، وروايتين مصورتين. فازت آتوود بعدة جوائز أدبية، منها جائزة البوكر، جائزة فرانز كافكا، وجائزة الحاكم العام الكندية. كما أسّستْ جائزة غريفين للشعر ومنظمَّة ائتمان كتّاب كندا. مارغريت تشكركم لمشاركتكم في هذا المؤتمر الخيري للأكاديمية الأوكرانية. وإذا كنتِ لا تمانعين لديّ بعض الأسئلة لك.

مارغريت آتوود: من دواعي سروري أن أكون هنا، آرون، وأتطلّع إلى أسئلتك.

ويندلاند: بعكس الصحافيين، فإن الروائيين ليسوا مقيّدين بالحقيقة ولا ملزمين بتغطية الأحداث الجارية. لكنْ، بعض رواياتك تتصدّى بالفعل لثيمات معاصرة اجتماعية، سياسية، وأخلاقية. "حكاية الخادمة"، على سبيل المثال، تجري على خلفية أزمة مناخية ومن الواضح أنها تتناول مسائل السلطة والاضطهاد. بأخذ هذا في الاعتبار، ما الغاية من خوضكِ في التعليق الاجتماعي والسياسي؟ وتماشيًا مع ثيمة هذا المؤتمر الخيري للأكاديمية الأوكرانية، أسألكِ: أي خير أتت به كتابتك باعتقادك؟ وأي خير لا يزال بوسعها أن تأتي به؟

آتوود: حسنًا، يا لهُ من سؤال. حسنًا، الروايات عن البشر. حتى إن قالتْ إنها عن الأرانب، فإنها دائمًا عن البشر. والروايات دائمًا تتضمن زمنًا: يحدث شيء ما، يحدث شيء آخر، ومن ثم يحدث شيء آخر. وإذا لم يحدث أي شيء، نتوقف عن القراءة. إذًا، ماذا يمكن أن تكون هذه الأشياء التي تحدث؟

يمكن أن تكون أحداثًا تحدث داخل عائلات، لكن العائلات تعيش في مكان ما. إنها تملك مكانًا والمكان الذي تملكه له ظروف معينة. لذلك، عندما تكتب رواية، فأنتَ دائمًا تصف بشرًا يعيشون في زمان ومكان. وعندما يصادف أن يكون مكانًا يعيش أزمة من نوع أو آخر، لا تستطيع الشخصيات المفردة أن تعزل نفسها عن الأزمة التي تحدث في كل مكان حولها. إذا كان طوفانًا، سيكون عليهم أن يفعلوا شيئًا حيال الطوفان. سيتفاعلون معه بطريقة ما. إما سيجلسون في علّيتهم ويقولون: "أتمنى أن ينقذني أحد ما"، أو سيبنون طوق نجاة أو يرسلون نداء استغاثة. سيفعلون شيئًا ما.

إذا كانت تلك الأزمة غزوًا، أو حربًا، سيكون الجميع في ذلك المكان منشغلين بذلك، بطريقة أو بأخرى. ومن ثم تحدث أحداث. تتكشّف أشياء. وتتغيّر الظروف لأن الزمن متضمَّن. إنه دائمًا متضمَّن في الرواية. قد لا يكون الزمن متضمنًا في قصيدة غنائية أو صلاة، لكنه دائمًا متضمن في الرواية. كاتب سيرة هنري جيمس الذاتية، ليون إدِل، قال: "إذا كانت رواية، فثمة ساعة فيها". لذلك، الزمن، البشر، الأحداث، المكان كلّها تتفاعل.

عندما أكتب رواية عن مكان في حالة أزمة، لا بدّ من أن تدخل فيها مسائل السلطة والسيطرة. وكذلك الأمر مع القصص القصيرة. وإذا كانت أزمة قد حدثت في ذلك المكان وفي ذلك الزمان، وأنت تكتب عن زمن تالٍ لها، فإن الأزمة ستكون قد تركت أثرها على كل الناس الذين مرّوا بها. هذا حتمي. لنقل إن الروايات تتحدّث عمّا كان يُدعى عادة وعلى نحو ملتبس بعض الشيء "الشرط البشري". لكن بصورة أكثر تحديدًا، إنها تتحدث عن بشر في زمان ومكان يتفاعلون مع أحداث أو واحدهم مع الآخر. ليس بيدك حيلة. ستكون في الرواية مسائل سلطة وسيطرة، مهما فعلت.

الآن، بالنسبة إلى النصف الثاني من سؤالك الذي كان عن الخير. نعم، أنا كنت طالبة في قسم الفلسفة. نعم، قرأتُ أفلاطون الحبيب. نعم، المسألة إشكالية، لأنه مَن الذي يحدّد ما هو الخيّر؟ ستكون ثمة دائمًا نقاشات حول ما يعتبر خيّرًا. تلك هي النقاشات التي تستحق أن تُطرح لأنه إذا أردنا أن يكون لدينا أي نوع من السياسة الاجتماعية على الإطلاق، يجب أن تكون لدينا فكرة ما عمّا نعتقد أنه خيّر. عندما كنتُ طالبة فلسفة، كان الأساتذة جميعًا معجبين بالوضعية المنطقية التي لم تكن تثير اهتمامي. ما أثار اهتمامي كان علم الأخلاق وعلم الجمال، لكنهما لم يكونا موضع تقدير عالٍ في أقسام الفلسفة في الستينيات. لذلك، حوّلتُ إلى اللغة الإنكليزية التي كانت مسائل الأخلاق والجمال فيها أكثر أهمية بكثير.

بالنسبة إلى كتابتي، من الصعب تحديد أي نوع من "الخير" ستحقق، وسيعتمد ذلك كثيرًا عمنّ يقوم بتعريف "الخير". لكن لنقل إنه في رأيي "الخير" هو ديمقراطية مفتوحة. ودعني أضيف أن فكرتي عن "الشر" هي الشمولية من أي نوع كانت، وقد بلغتُ من العمر ما يكفي لأكون قد شهدت عددًا من الأنظمة الشمولية تأتي وتذهب. كوني ولدت عام 1939، أمضيتُ بدايات طفولتي في الحرب العالمية الثانية وشهدت آثارها منذ ذلك الوقت. إن بوسعك تعقّب الآثار غير المباشرة لتلك الحرب لأجل غير مسمّى؛ نحن نشهد بعضًا منها الآن. الكوارث تحدث، ومن ثم تترك آثارًا دائمة. إنها تعيد ترتيب الزمان، المكان، والبشر. والروائيون يتعاملون مع كل تلك الأشياء.

لكنْ، أعترض على قولك إن الروائيين ليس عليهم قول الحقيقة. إن عليهم أن يقولوا الحقيقة بطريقة ما. قد لا تكون الأسماء حقيقية. لكن إذا قلتَ إن نابليون ربح معركة واترلو، فذلك خطأ في الوقائع. فما لم تقل منذ البداية أنك تكتب عملًا تخييلًا تأمليًا يربح فيه نابليون بالفعل معركة واترلو، سيوبّخك الناس كثيرًا وعليهم أن يفعلوا ذلك.

ويندلاند: ربما بوسعنا متابعة هذه المسألة بالخوض أكثر في أعمالك. عندما تكتبين شيئًا مثل "حكاية الخادمة"، يكون من الواضح أنك تعرفين من هو، أو ما هو، المستهدف من نقدك؛ في هذه الحالة الأنظمة السلطوية. هل يعني ذلك أنك تكتبين لأجل جعل ذلك النقد علنيًا بطريقة جديدة، خلّاقة، أو متاحة؟ وهل تفعلين ذلك بهدف التشكيك بالأنظمة السلطوية أو زعزعتها؟

آتوود: عندما بدأتُ كتابة "حكاية الخادمة"، كانت في ذهني بعض الأسئلة النظرية، وأحد أسئلتي النظرية عام 1984 كان: إذا كانت الولايات المتحدة ستصبح نظامًا شموليًا، أي نوع من الشمولية سيكون؟ حسب نظرية الأهرامات الأزتكية، أو لنقل أهرامات أميركا الوسطى، هم لم يهدموا أبدًا أي هرم موجود مسبقًا؛ لقد بنوا طبقة فوقه. لذلك سألتُ نفسي: ما هي الطبقة التي شكّلت أساس الولايات المتحدة الأميركية؟ الطبقة التي شكّلت أساس الولايات المتحدة الأميركية هي بيوريتانيةُ (طهرانية) القرنِ السابع عشر، ومن ثم لدينا طبقة عصر التنوير التي تأتي فوق ذلك عند نهاية القرن الثامن عشر. لكن، تحتها، ثمة هذا الأساس البيوريتاني. وبالمناسبة، لم تكن ديمقراطية. بيوريتانية القرن السابع عشر تلك لم تكن ما يمكن أن ندعوه ديمقراطية. وثمة دائمًا نوع من سحبٍ يشبه الجزْر للرجوع لما كان موجودًا مسبقًا. هذا الرجوع المحتمل كان أحد الأفكار الكامنة وراء "حكاية الخادمة".

لكن لنعد إلى روسيا: الشمولية التي يديرها القياصرة. كانت بدايات الثورة جماعاتية بعض الشيء وفوضوية. وفوضوية، لا سيما في منطقة تهتم بمَن متزوج ممّن ومَن يعتني بالأطفال، تعني فوضى تامة. لذلك، كان عليهم فحسب أن يحاولوا جعل القطارات تعمل في الوقت المحدّد وكان عليهم أن يقضوا على بعض النزاعات على السلطة. في النتيجة، يربح ستالين، وتحصل على قيصر جديد. وتحصل على بوليس سري جديد يشبه إلى حدّ كبير البوليس السري القديم، إلا أنه أكثر فاعلية. كيف نفهم كل هذه التغييرات؟ وكيف يتغيّر الناس فعلًا؟ من الصعب الإجابة، لكن ليس من المستحيل، وغالبًا ما تكون الطبيعة ذاتها هي من تملي هذه التغييرات.

خذ مثلًا حضارات التولتيك، الأزتك، والمايا. بعض التغييرات التي حدثت في هذه الحضارات بدأت بسبب التغيير المناخي، أي قحط ممتد. إذا عانيت من قحط ممتد في جماعة زراعية، سوف تتغيّر الأشياء. قد يقول القادة للناس: "كان عليكم أن تضحوا للآلهة وكان يفترض بهذا أن يجعل كل شيء يحدث كما ينبغي". لكن، إذا فشل القادة في النهاية في تنفيذ وعدهم بتقديم الأساسيات، ستطيح الناس بالنظام، وهو ما حدث في عدد من الأماكن وسط أميركا. إذا أخفق النظام الشمولي حقًا، سيكون ثمة دافع قوي للتخلص منه والمحاولة من جديد.

ويندلاند: هذا مثير للاهتمام. إذًا، بطريقة ما أنتِ تقلّلين من قيمة سلطة الإبداع البشري في تغيير الأنظمة الشمولية أو تبديلها. قد نكتب ديستوبيات. قد ننتقد. لكن في النهاية، سقوط الأنظمة السياسية يتعلق أكثر بظواهر العالم الطبيعي وأقل بفاعليتنا. هل هذا صحيح؟

آتوود: الكتّاب لا يخلقون ظروف التغيير. إنهم نادرًا ما يخلقون ظروفًا أساسًا. هم يعكسون ظروفًا. يعيدون ترتيب ظروف تخييلية، لكنهم لا يمتلكون سلطة فعلية. "القلم أقوى من السيف" لا تصح إلا إذا مات كل الذين يحملون سيوفًا وبقيت الكتب قيد الطباعة. يؤسفني أن أخبرك أن السيف أقوى من القلم. على الرغم من أن للقلم بعض التأثير، وهو السبب في أن الأنظمة الشمولية تريد التخلص من الكتّاب الذين لا يذعنون للنظام، بالإضافة إلى الموسيقيين، بالإضافة إلى أي شخص آخر لا يؤدي أغنية الحزب ورقصته. فإن أولئك الفنانين والمتمردين لا يملكون سلطة حقيقية. إن لهم تأثيرًا، إنما ليس سلطة. أنا لا أستطيع أن ألوّح بعصاي وآمر جيشًا بالقتال. لا أمتلك السلطة. ولو كنت أمتلكها، لا أعتقد أني سأجيد تولي زمامها.

ويندلاند: ذكْركِ لستالين والأنظمة الشمولية يقودني إلى سؤالي التالي. في مقابلة أجريتِها مؤخرًا مع CBC (هيئة الإذاعة الكندية)، شرحتِ أنك تكتبين الديستوبيات لا اليوتوبيات، لأن الديستوبيات ملائمة أكثر بكثير للأوقات التي نعيشها. نظرًا للاضطراب السياسي الذي ميّز عهد ترامب، تفشي كوفيد-19، واجتياح روسيا لأوكرانيا، أفهم سبب تمسكك بالديستوبيات. مع هذا، أرى يوتوبيات كلاسيكية، لنقل مثلًا، "الجمهورية" لأفلاطون، "أطلانطس الجديدة" لبيكون، "نظرية العدالة" لرولز، قد كُتبت بروح التفاؤل والأمل- الأمل بأن عالمًا أفضلَ ممكنٌ. وكما تبيّنَ، رأيتُ روح تفاؤل وأمل مماثلة بين أفراد الشعب الأوكراني المدنييين منهم والعسكريين عندما كنت أنقل الأخبار من كييف في صيف 2022، وأتساءل ما هو رأيكِ بِـ"الأمل"؟ أي دور لعبه الأمل في كتابتك وعملك؟ وهل يمكن لتنمية الأمل، ربما من خلال نسخة ملائمة للقرن الواحد والعشرين من "يوتوبيا حديثة" لويلز، أن تكون بمثابة ملجأ من الأزمات المتصاعدة التي نواجهها؟

"يؤسفني أن أخبرك أن السيف أقوى من القلم. على الرغم من أن للقلم بعض التأثير، وهو السبب في أن الأنظمة الشمولية تريد التخلص من الكتّاب الذين لا يذعنون للنظام، بالإضافة إلى الموسيقيين..."

آتوود: قبل الحديث عن الأمل، دعني أبدأ بخلفية صغيرة عن اليوتوبيات. يومًا ما، كنتُ فيكتوريّة (مؤمنة بأفكار العصر الفيكتوري)، والفيكتوريون صنعوا عددًا كبيرًا من اليوتوبيات. في الحقيقة، أنتج الفيكتوريون الكثير جدًا من اليوتوبيات لدرجة أن جيلبرت وسوليفان كتبا محاكاة ساخرة عنها حملت اسم "يوتوبيا محدودة". على أية حال، كتب الفيكتوريون يوتوبيات تخييلية؛ بعضها سيئة للغاية؛ أخرى أصبحت من الكلاسيكيات. لكن، كانت لديهم يوتوبيات حقيقية أيضًا. والكثير من اليوتوبيات الحقيقية انتقلت إلى أميركا الشمالية لأنه كان بوسعهم الحصول على أراضٍ رخيصة هناك. لقد تتبعتُ تاريخهم باهتمام كبير، كما قد تتوقع. الكثير من هذه اليوتوبيات فشلت لأنها لم تكن عملية كثيرًا.

أعتقد أن مثالي المفضّل هو ما دُعي: "فروتلاندز"(أراضي الفواكه). وقد كانت عبارة عن مجموعة من المؤمنين بالفلسفة التجاوزية الذين كانوا ينوون أن يتغذوا على الفواكه وحدها، بالإضافة إلى الخضروات التي تنمو باتجاه الأعلى. بالتالي، لا بطاطا. والخضروات التي تنمو باتجاه الأعلى لأن ذلك كان اتجاهًا طموحًا. أما الخضروات التي كانت تنمو باتجاه الأسفل فقد كانت بسيطة للغاية. المشكلة كانت أن أيًا منهم لم يعرف شيئًا عن زراعة الفواكه، أو أي شيء آخر، كما تبيّن. كم استمرت؟ حوالي ستة أشهر. بالتالي، إذا كنتَ تريد الحصول على يوتوبيا، تحتاج حقًا لأن تبدأ بالعالم المادي.

لهذا السبب ساعدتُ بإطلاق برنامج يدعى: "يوتوبيات عملية". وجمعنا مؤخرًا 200 شخص من حول العالم، من كل الأعمار بين 18 و75 عامًا، من مهن واهتمامات مختلفة كثيرة. كما وظّفنا ميّسرين لضمان ألا يقتل أحد المشاركين الآخر أثناء الجدال. ووظفنا رسامين توضيحيين لرسم ما أنجزه المشاركون. أعطي المشاركون تعليمات لصنع يوتوبيا عملية تكون محايدة كربونيًا أو سلبية الكربون، قابلة للتوسع، أي رخيصة بما يكفي لأن يستطيع الجميع تنفيذها، ومغرية بما يكفي لأن يرغبوا بتنفيذها، بمعنى ألا يأكل الجميع التوفو أو يلبسوا أكياس طحين قديمة.

قدّم المشاركون مساهماتهم، وعملوا أولًا على العالم المادي: الإقامة، النقل، الملابس، الطعام، التخلص من الجثث، وهو شيء مهم. وقد توصلوا إلى أفكار وخطط مثيرة للاهتمام، كونهم أجروا عمليات بحث. كانت لديهم الكثير من أدوات البحث، كما أن الكثير من المعدات الجديدة تُخترع الآن، أنماط طاقة جديدة. كلّ هذا مفيد جدًا.

ثم عُهِد إليهم بمهمة التوصل إلى ترتيبات اجتماعية. من سيتخذ القرارات؟ كيف سترتب ذلك؟ هل تريد ديمقراطية؟ أي نوع منها؟ هل ستسمح بوجود الدين؟ كيف؟ ماذا ستفعل في شأن قوات الشرطة؟ فلن يطيع الجميع القوانين. وإذا فعلوا، ستكون المرة الأولى في التاريخ البشري الذي يحدث فيها ذلك.

كان على المشاركين اتخاذ قرارات صعبة فيما يخص هذه الأشياء، وكانوا جيدين جدًا تقريبًا في كل شيء، ما عدا أنهم ترددوا قليلًا في مسألة الشرطة. لأنهم لم يرغبوا أن يفكروا أن أي شخص سيتصرف على نحو سيء. وهذه هي مشكلة الرومانسية الطوباوية. إنهم عمومًا يعتقدون أن الجميع سيكونون خيّرين. ذلك متفائل للغاية.

أحب أن أعتقد أني أكثر واقعية فيما يخص الطبيعة البشرية. الأمل، من ناحية أخرى، جزء من العدّة البشرية المتأصلة. إذا لم يكن لديك أمل، ما يعني القدرة على توقع مستقبل أفضل من الذي نعيشه الآن، عندها لن يحدث شيء. إذا شعرتَ باليأس، لن يحدث شيء. بالتالي، الأمل شرط مسبق ضروري للتغيير الإيجابي، لكنه لا يثمر دائمًا، كما تعلم. في الواقع، خفّضتُ معايير اليوتوبيات العملية إلى حدّ ما: طالما لا يقتل الناس واحدهم الآخر فعليًا في نهاية المشروع، فالأمور ليست سيئة جدًا.

"الأمل شرط مسبق ضروري للتغيير الإيجابي، لكنه لا يثمر دائمًا، وفي الواقع، خفّضتُ معايير اليوتوبيات العملية إلى حدّ ما"

ويندلاند: إذًا، هل انخراطك في هذه اليوتوبيات العملية هو في النتيجة تعبير عن أملك؟

آتوود: أوه، أنا شخص مليء بالأمل. لقد كنتُ أيضًا أول من شارك في "مكتبة المستقبل النرويجية" التي بدأت عام 2014. إنها قصةُ "جميلة نائمة". ستنمو غابة لمائة عام خارج أوسلو. وفي كل واحدة من تلك السنوات، سيقدم كاتب مختلف من حول العالم، باللغة التي يستخدمها، مخطوطة سرية مؤلفة من كلمات. يمكن أن تكون أي شيء. لا يُسمح لك بأن تفصح عمّا هي. يمكن أن تكون رواية، قصة قصيرة، رسالة، قائمة طويلة، كلمة واحدة، قصيدة، مقالة، أو سيناريو فيلم. كل هذا بشكل سري جدًا، نسختان فقط. تأخذ ما تكتبه إلى النرويج، ويُدخَل في مكتبة المستقبل النرويجية. وفي عام 2114، ستُفتح كل الصناديق. وسيُقطع عدد كاف من الأشجار من الغابة التي ستكون قد نمت في حينها، وسيتم تصنيع الورق منها لطباعة مكتبة المستقبل النرويجية، على افتراض أنه سيكون لا يزال هنالك بشر، نرويج، أوسلو، مكتبة، وعلى افتراض أن الناس سيكونون لا يزالون مهتمين بالقراءة. فكرْ بمدى التفاؤل الذي ينطوي عليه هذا!

ويندلاند: أعتقد أن الوقت يداهمنا، لذلك ها هو سؤالي الأخير. في "الجمهورية"، يكتب أفلاطون عن شجار قديم بين الشعر والفلسفة. يدور الشجار حول النوع الذي ستكون له الأولوية أثناء تنشئة مواطني الدولة- المدينة. من الواضح أن أفلاطون ينتقد صنع الأسطورة وسرد القصص عند هوميروس، ويعتقد أفلاطون أن الأسلوب الديالكتيكي والحجاجيّ للفلسفة يجب أن يكون أساس التعليم في المدينة المثالية. إذا كان لرأيي أهمية، اعتقدتُ دائمًا أن التمييز الذي وضعه أفلاطون بين الشعر والفلسفة كان حادًا للغاية، لا سيما أن فلسفة أفلاطون هي ذاتها مليئة بصنع الأسطورة وسرد القصص. لكن بما أنكِ أنت ذاتك شاعرة، أتساءل ما هو رأيك بالتمييز بين الشعر والفلسفة؟ وبما أنكِ، مثل أفلاطون، مهتمة بمسائل رغد عيش البشر، أتساءل إن كانت كتابتك قد تأثرت بتاريخ الفلسفة، وإن كان هنالك فيلسوف معين ساعد في تشكيل فهمك للعالم؟

آتوود: حسنًا، بطريقة سلبية، نعم، مثلًا ليس هذا، ليس هذا، ليس هذا. لكن لجعل الأمور أكثر تحديدًا، ثمة فارق واضح بين الشعر والمنطق. في المنطق، A لا يمكن أن تكون ذاتها وغير A في الوقت ذاته، لكن في الشعر، A هي بشكل روتيني غير A وهي ذاتها في الوقت نفسه باستخدام التشبيه والاستعارة. لكن، لنعد إلى الأساسيات. ما الذي يفعله البشر كأمر روتيني؟ يمكن إلى حدّ كبير أن تلاحظ ما يفعله البشر كأمر روتيني بالنظر إلى ما يفعله الأطفال الصغار كأمر روتيني. إنهم يتعلمون لغات، إنهم مولعون بالموسيقى، إنهم إيقاعيون، إنهم يقفزون للأعلى والأسفل، ومن عمر السنة تقريبًا يفهمون القصص. حتى قبل أن يتمكنوا من نطق الكلمات، يعرفون أنه على هذه الصفحة، البقرة تسبح في النهر وعلى الصفحة التالية خرجتْ من النهر. يعرفون أن ثمة هذا متبوعًا بذاك، متبوعًا بذاك، وهو ما يشكّل ماهية القصة.

البشر رواة قصص بالفطرة. سواء أكانت تلك القصص قصصًا جيدة أو قصصًا سيئة أو قصصًا حقيقية أو أكاذيب، نحن نفهم العالم من خلال القصص بسهولة أكبر ممّا نفهمه من خلال المناقشة الفلسفية. نحن جميعًا ميالون للنقاش. إذا قابلتَ طفلًا في السابعة من عمره، ستجد محاميًا صغيرًا يعرض أمامك كل الأسباب التي تتيح حصوله على مخروط مثلجات إضافي. لذلك نعم، المنطق والاستدلال والنقاش هي أشياء يقوم بها البشر. وبما أننا نروي القصص ونفلسف، لا أرى سببًا يجعلنا نستبعد واحدًا من هذين ونعطي الأولوية الحصرية للآخر. هذه نشاطات بشرية. وأعتقد أنه بدلًا من قولنا إنه يجب أن نسرد القصص فحسب أو يجب أن نمارس الحِجاج المنطقي فحسب، فالسؤال التالي يجب أن يكون: لماذا لا نعلّم البشر كيف يقومون بالشيئين معًا بأفضل طريقة ممكنة؟

(*) مارغريت آتوود: 1939. روائية، شاعرة، وناقدة أدبية كندية. حازت على جائزة البوكر مرتين، جائزة آرثر سي كلارك، جائزة فرانز كافكا، وغيرها، وهي أحد المؤلفين المرموقين في عصرنا.

(*) آرون جيمس ويندلاند: حائز على دكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد، أستاذ في قسم الفلسفة في كلية كينجز لندن. ساهم في تحرير عدة كتب عن هايدغر وفيتغنشتاين، ويعمل حاليًا على تحرير دليل نقدي لكتاب هايدغر "الكينونة والزمن".

رابط النص الأصلي:

https://shorturl.at/EGOzn

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced