تشهد البلاد تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة، تعصف ببنية المجتمع، وتعيد رسم الطبقات فيه على نحو مشوه؛ ففي ظل تصاعد التضخم وارتفاع معدلات البطالة، تتآكل الطبقة الوسطى التي كانت لسنوات تشكل عمودًا فقريًا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. بينما تتسع الهوة بين فئات مرفهة تتمتع بثروات فاحشة، وأخرى فقيرة تكافح من أجل البقاء.
هذا المشهد المأزوم يتفاقم بفعل السياسات الحكومية غير المتوازنة واعتماد سياسة السوق المفتوح وغياب التخطيط والمنهج العملي وانتشار الفساد الذي وكل هذا وغيره يسهم في تعمّيق الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وعلى الرغم من الثروات الهائلة التي يمتلكها البلد، يكافح المواطن العادي من اجل الصمود في وجه الفقر والتهميش، فيما تتصاعد الدعوات لإصلاحات اقتصادية جذرية، تعيد التوازن إلى المجتمع، وتحمي الفئات الأكثر ضعفًا.
تحولات اجتماعية!
يقول الباحث الاجتماعي سلمان الشمري، أن "التحولات الاجتماعية والاقتصادية الأخيرة أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى في المجتمع، ما أدى إلى تفاقم الفجوة بين طبقتين رئيسيتين: الطبقة المترفة والطبقة الفقيرة"، مضيفا أن "العوامل الاقتصادية مثل التضخم والبطالة، بالإضافة إلى السياسات الحكومية غير المتوازنة، لعبت دورًا محوريًا في هذه التغيرات".
ويضيف الشمري في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "الطبقة الوسطى كانت تمثل العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، حيث كانت تتمتع بقدرة شرائية معقولة، وتسهم بشكل فعال في الإنتاج والاستهلاك. ومع غياب الدعم المناسب لهذه الطبقة، شهدنا ارتفاعًا في معدلات الفقر وتزايد عدد الأثرياء بشكل ملحوظ، ما يعمق الفوارق المجتمعية ويؤدي إلى مشكلات جديدة تتعلق بالتهميش وانعدام العدالة".
ويشير الى أن "العراق يعاني من الفساد وسوء إدارة الدولة ومؤسساتها، وهذا سبب بارز في خلق تلك الفجوة"، مبينا انه "على الرغم من عدم وجود ارقام دقيقة عن نسب الطبقات الاجتماعية المختلفة، إلا أن الكتابات التاريخية تؤشر أن أكبر حراك اجتماعي وانتقال بين الطبقات في العراق، قد حدث بعد الخمسينيات، حيث تقلص حجم الطبقة الغنية والفقيرة وزاد حجم الطبقة المتوسطة".
ويواصل حديثه قائلاً: "أما اليوم فنرى شبانا يتجولون بسيارات فارهة في شوارع بغداد، ويرتادون أفخم المطاعم، التي تثار حولها شبهات تتعلق بغسل الأموال".
وختم الشمري بالتأكيد على ضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية وتوجيه الدعم للطبقات المتضررة من أجل إعادة بناء التوازن الاجتماعي والاقتصادي، لافتاً إلى ان الأطفال هم الأكثر ضررا من تلك الفجوة الطبقية.
دعم غير كاف
يقول الباحث في الشأن الاقتصادي، عبد السلام حسن، في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "الدعم الحكومي للمواطنين غير كافٍ، وأن من الممكن توفير مستوى معيشي أفضل للعراقيين بسهولة من خلال استثمار الرسوم والضرائب بشكل صحيح".
ويعتقد حسن أن "من الممكن رفع دخل المواطن إلى أكثر من 750 ألف دينار عراقي شهرياً إذا ما تم استثمار الرسوم بشكل صحيح، دون الحاجة إلى الاعتماد على برامج النفط أو البترودولار"، مردفا أن "هذه الاقتراحات لا تلقى الاهتمام الكافي، لأن النظام الحالي ورث أفكارا متأصلة من النظام السابق، تعتمد على سياسات التجويع لضمان السيطرة على الشعب" طبقا لقوله.
وتطرق عبد السلام إلى مشكلة توظيف الخريجين، مؤكدًا أن الحل لا يكمن في تعيينهم في الدوائر الحكومية فقط، بل يجب التفكير في فتح معامل ومشاريع إنتاجية تسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي للعراق، مشيرا الى ان "فتح مشاريع إنتاجية يمكن أن يفرز دعمًا حقيقيًا للاقتصاد الداخلي، ويقلل من الاعتماد على الاستيراد، ويعزز فرص العمل ويسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين".
واختتم عبد السلام حديثه بأن "الوضع في العراق يتجه نحو الأسوأ إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات عاجلة لتحسين الأوضاع المعيشية، مشيرا الى ان "التظاهرات والانفجارات الشعبية تشير إلى أن الأمور تسير في اتجاه سيئ للغاية، بدلاً من التركيز على تحسين البنية التحتية مثل الجسور، يجب أن تكون الأولوية لتحسين مستوى معيشة المواطن، ورفع قدرته الاقتصادية".
أكثر فسادا وأشد فقرا
وكشفت دراسة لمركز الأبحاث الفرنسي (CFRI) حول اتساع حجم الفوارق بين الطبقات المجتمعية في العراق، الذي يطفو على بحر من الثروات وانقسام المجتمع إلى طبقات عليا تعيش الترف، تمثلها أقلية من الشعب، وطبقة دنيا تحت خط الفقر تصارع من أجل البقاء، بسبب الفساد المستشري، وسوء إدارة موارد الدولة.
ومنذ تولي الحكومات المتعاقبة بعد 2003 إدارة البلاد ارتفعت معدلات الفقر والبطالة والفساد. وصنف العراق ضمن الدول الأكثر فسادًا والأشد فقرا.
وذكر مركز الأبحاث الفرنسي، أن هناك 36 مليارديرا وأكثر من 16 ألف مليونير في العراق. وبحسب الدراسة “منذ عام 2003، كانت قضية العدالة الاجتماعية في قلب الاحتجاجات المختلفة، لأسباب كثيرة ومعقدة، لكن لا بد من القول إن المجتمع العراقي منقسم الآن بين طبقة عليا حيث تعيش الأقلية بشكل مريح وطبقة دنيا حيث الأغلبية تناضل بشدة من أجل البقاء. وبين الاثنين، اختفت ببساطة الطبقة المتوسطة التي كانت حاضرة إلى حد كبير بين السبعينيات والتسعينيات".
يقول الباحث السياسي علي القيسي إن "المواطن هو المتضرر الأكبر من الخلافات والمناوشات السياسية، إلى جانب سوء إدارة الدولة والمال العام، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر"، مضيفا أنه "لم يعد صعبًا توثيق مشاهد لأطفال ونساء يبحثون في حاويات القمامة عن أي شيء يمكن بيعه لمساعدة عائلاتهم الفقيرة في مناطق عدة من العراق، على الرغم من أن العراق يُصنف من بين الدول الغنية بالموارد الطبيعية الهائلة، وفي مقدمتها النفط".
ويضيف القيسي في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "هذه العوامل أسهمت في خلق فجوة كبيرة بين طبقات المجتمع. هناك من يستطيع دفع ما يقرب من 13 مليون دينار سنويًا فقط للدراسة في كلية أهلية، بينما يكافح آخرون لتأمين أجرة النقل للالتحاق بالجامعة الحكومية. هذه الفجوة المتزايدة أسهمت في تلاشي الطبقة المتوسطة في العراق".