كان لأدباء العقد السابع وبعض نقاده إسهام مهم في إشاعة الفهم العقدي للجيل من خلال ما نشروه من مقالات وبيانات، وما كتبوه فيما بعد من شهادات وحوارات وما ألفوه من كتب، وأعانتهم على ذلك الظروف الاستثنائية التي شهدها العالم آنذاك فضلا عما شهدته أجواء العراق من اضطراب وعنف حاميي الوطيس. كل ذلك هيأ الساحة لشعراء الستينيات لأن يعلنوا عن أنفسهم ومن جايلهم أو زامنهم في الوسط الأدبي أنهم (جيل ستيني). وبمرور الزمن شاع الفهم العقدي في نقدنا وصارت الأجيال الأدبية موزعة بحسب عقود القرن العشرين. أما الأولوية أو المركزية فظلت لـ (لجيل الستيني) بوصفه جيلا ألمعيا بجماعية تشتمل على القاص والشاعر والتشكيلي والصحفي والفنان فلا تتفرد تجربة معينة دون غيرها أو يبرز اسم لوحده بل قد يهمل اسم ذاك الذي يتميز بالفردية وقد تأخذ تجربة أدبية بجريرة تجربة أو تجارب أخرى أدنى منها وأقل، ناهيك عن غمط حق أولئك الأدباء الذين تقع تجاربهم وسطا ما بين نهاية العقد السادس/ الخمسيني وبداية العقد السابع/ الستيني. وقد أطلق د. عبد الإله احمد عليهم اسم الجيل الضائع وهي التسمية التي أطلقتها الكاتبة الأمريكية غيروترود شتاين( 1874-1946) على أدباء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أما ما يحمله الجيل العقدي من دلالة فنية فإنها لا تؤهله لان يكون رديفا للظاهرة أو الموجة أو الحركة بيد أن هذا الترادف حصل بشكل جزافي، فلبست مفردة الجيل حلة فنية وتبلور عن ( الجيل العقدي) بعد حين من الزمن تعابير مختلفة عوملت كمفاهيم نقدية مثل ( جيل ما بعد الستينيات وجيل ما بعد الريادة وجيل ما بعد الرواد وجيل ما بعد التسعينيات وأجيال ما بعد الرواد وأجيال ما بعد السبعينيات وأجيال ما بعد التسعينيات) جنبا إلى جنب استعمال اشتقاق (التجييل)
وبهذا التراكم في التعابير، غدا الفهم العقدي لمعنى الجيل الأدبي في نقدنا العراقي ملتبسا ومتناقضا.
وعلى الرغم من أن هناك من رفض هذا الفهم أو ظل مشككا أو متذبذبا بين الرفض والقبول، فان الفهم اتسع وشاع خصوصا على مستوى الأبحاث الأكاديمية والرسائل الجامعية حتى بدا فيها طبيعيا الاعتقاد أن التجييل العقدي ظاهرة أدبية حقيقية تستند إلى وجود عطاء إبداعي بمقاييس معتادة بينما هو في الحقيقة ليس كذلك لكونه مبتور السنين، مشوها ودعائيا بالصورة الخداعة التي يعكسها أمر هذا التمايز الجيلي المزعوم.
وبعيدا عما سمي بالجيل الستيني وعقدية الفهم للإبداع الأدبي فإن موضوعة الأجيال تظل مهمة لان فيها تعرف التجارب الشاخصة والمميزة وتحدد المراحل الأدبية وما فيها من تحولات فنية وتطورات فكرية. ومن ثم يكون حريا بالنقاد إتباع منظور معين في تصنيف الأدباء إلى أجيال، ومما نقترحه في هذا المجال هو اعتماد المنظور النخبوي في التصنيف الجيلي من خلال النظر إلى الأدباء على وفق ما لديهم من مشتركات فنية وعطاءات أدبية تبلورت وتمت خلال ثلاثين عاما فيها الخمسة عشر عاما الأولى خاصة بالصياغات والتبلورات في التجارب والخمسة عشر عاما الأخرى خاصة باكتمال الإبداع وتبلوره مميزا وواضحا.
ووفقا للمنظور النخبوي يكون أدبنا العراقي في الشعر والقصة والرواية موزعا بين جيلين أدبيين؛ فأما الجيل الأدبي الأول فبزغ مع قيام ثورة العشرين عام 1920 وتبلور واضحا في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى مشارف العقد الخمسيني. فلقد شهدت الحياة الأدبية في العراق خلال النصف الأول من هذه السنين الثلاثين تغييرات، تمخضت عنها على مستوى الشعر والقص تجارب مميزة، ثم تأكد في النصف الثاني منها أن تلك التجارب هي الجيل الأدبي الأول في العراق؛ جيل تأسيس وريادة ثم بلورة وتطوير. لتبدأ بعدهم مرحلة التجييل الثانية التي بزغت بعد الحرب العالمية الثانية وأخذت تتبلور من أواخر العقد الخامس/الأربعيني إلى نهاية العقد الثامن/ السبعيني. وخلال النصف الأول من هذه السنين الثلاثين بزغت تجارب عُدّ أصحابها روادا في حركة التحديث الشعري كما شهد التجريب القصصي تحولا نوعيا من التيار الواقعي إلى تيار الوعي واستمر الحال في التجريب شعرا وقصا في النصف الثاني من السنين الثلاثين مؤكدا انه هو الجيل الأدبي الثاني في العراق والذي وسم بأنه جيل الحداثة الأدبية.
أما الثلاثون السنة التالية والمتمثلة بعقدين من القرن العشرين (التاسع/الثمانيني) (والعاشر/ التسعيني) وعقد واحد من القرن الحادي والعشرين فإنها لم تتمكن من إثبات وجود جيلية أدبية ثالثة فالخمسة عشر عاما الأولى تضمنت تجارب وتحولات لكن لم يتمخض عنها تبلور معين يؤكد تميزها الجيلي، بسبب افتقارها إلى جماعية التمايز النخبوي. اما ما عرفته من تمايزات فردية فيها فأنها لا تصلح لان تعمم، وهو أمر منطقي لاءم ما في سنوات الحرب الثمانية من ركود نوعي رافقه زخم كمي وما تلا هذه السنوات من ضيق في التجريب الأدبي وفقر إبداعي هو نتيجة متولدة من فقر سنوات الحصار الاقتصادي وسياسات التقشف الثقافي فضلا عن تصاعد رهيب لمستويات التضييق على الحريات. ولا يفرق الأمر أعلاه مع النتاج الأدبي المنشور خارج العراق، ولو كانت لهذا النتاج نخبوية خاصة ومتفردة عما هو الحال في داخل العراق لأسس لنفسه جيلية كتلك التي أسسها أدباء لبنانيون عاشوا في الأمريكيتين الشمالية واللاتينية وتمكنوا من تشكيل جيل خاص بهم، فعُرف أدبهم بأدب المهجر.
وصحيح أن ثمة تجارب شعرية وسردية فردية برزت خلال الثلاثين سنة المنصرمة ولكنها لم تشكل لنفسها نخبوية تميزها عن الجيل الأدبي الثاني ومن ثم لم تشكل في تاريخ الأدب العراقي جيلا. اما ما قيل من توصيفات (جيل ما بعد التغيير / جيل ما بعد 2003 / جيل ما بعد الحداثة/ جيل ما بعد التسعينيات) فتظل غير علمية لأنها صيغت كيفما اتفق وبذلك تستمر حالة التجييل العقدي قائمة في نقدنا العراقي بالدعائية نفسها مما لا علاقة له بالنظر المفاهيمي لمعنى الجيل الأدبي في صورته الجماعية ومعياره الزمني الثلاثيني.
إن هذه الفرشة النقدية للكيفية الاتفاقية التي بها استعمل النقاد والأدباء مفردة (الجيل) مصنفين عقود القرن العشرين إلى أجيال أدبية شعرية وقصصية، تدفعنا إلى أن نتساءل - مع تركيز النظر على أدباء الستينيات ونقادهم - عن الوسائل والغايات التي بها صار العقد السابع عقدا متمايزا إبداعيا وغدا الستينيون دون سواهم جيلا أثار ويثير ضجة بين الفينة والأخرى وبشكل ظل يلاحق الأدباء وبفاعلية واحدة، انتعش الأدب أو خفت؟ وإذا كان لعقد واحد / ستيني أن يشكّل ظاهرة بوجود تجارب مميزة ومشتركة، فلماذا عدت هذه الظاهرة جيلا؟
ولا خلاف في أن بعض الذين آمنوا بوجود ( جيل ستيني) واقتنعوا بأن الزمنية التي أمدها عقد واحد كافية لأن تبتدع جيلا ولا أهمية بعد ذلك لنظريات تصنيف الأجيال الأدبية، عادوا ونفوا أن تكون للعقدية قدرة على ابتداع الأجيال وإنما هي الدعائية والفورة الإبداعية. ومنهم الشاعر والناقد خالد علي مصطفى الذي رأى - بعد ما يقارب الثلاثين سنة - أن التاريخ قمين بلم شعث الشائعات والادعاءات التي قيلت في الستينيات وأريد بها تزكية النفس والعقل وقد شاعت تلك الادعاءات حتى غدت كأنها حقيقية.. وأضاف ( أنا لا أصدق ما يقوله الشاعر عن نفسه فيما يصرح به أو تنقله عنه وسائل الإعلام المسموعة والمقروء لان هذه التصريحات أو ما يقوم مقامها عمل من أعمال العلاقات العامة يحاول الأديب من خلالها، تسويق نتاجه وتلميع صورته. وأن كثيرا من المنزلات التي يحوزها الأدباء قد تكون نتيجة لشائعة ظلت تفعل فعلها إلى أن تحولت إلى حقيقة لدى المنتفعين بها).
طريق الشعب