تعد محافظة كركوك من أكثر المناطق التي تواجه تحديات كبيرة في قطاع التعليم، حيث يعاني العديد من الأطفال من صعوبات تعيق استكمال تعليمهم. وتتعدد الأسباب التي تقف وراء ارتفاع نسب التسرب المدرسي في المحافظة، بدءًا من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تضطر الأسر لإرسال أطفالها إلى سوق العمل، وصولًا إلى نقص حاد في البنية التحتية للمدارس، بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي مرت بها المنطقة على مدى السنوات الأخيرة.
ويشير مراقبون إلى أن مدارس المحافظة لا توازي نسبة السكان، إذ تُبنى بعض المدارس لكنها تبقى غير كافية لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الطلاب، خاصة في المناطق الريفية.
متطلبات الدراسة صعبة
ويقول احمد المعلمين في محافظة كركوك، محمود عباس إن "الحكومة المحلية تخصص نحو 20 في المائة من ميزانيتها لبناء المدارس، بالإضافة إلى مساهمات منظمات دولية، لكن هذه الجهود ما زالت قاصرة عن تلبية الحاجة".
ويضيف انه "في بعض النواحي مثل ناحية الرياض التي تضم 165 قرية، ارتفعت نسبة العائدين من مناطق النزوح بعد استعادة السيطرة الحكومية عام 2017، غير أن سكانها يعانون من ضائقة مالية، تحول دون قدرة العديد منهم على مواصلة تعليم أبنائهم. وعن لسان احد الإباء، يقول "الأولويات الآن هي توفير لقمة العيش. لا أستطيع شراء زي مدرسي لابنتي".
ويبين محمود وهو ناشط تربوي لـ "طريق الشعب"، أن "نقص وسائل النقل المدرسي يؤثر سلبا على الطلبة، خصوصًا الفتيات اللواتي يجدن صعوبة في التنقل لمسافات طويلة أو الاعتماد على وسائل نقل غير مضمونة".
ويضيف أنه "من المشاكل الملحة التي تواجه أطفال الأسر النازحة أو المتأثرة بالصراعات هي عدم امتلاكهم مستمسكات رسمية، ما يعيق التحاقهم بالمدارس، خاصة عند اجتياز المرحلة الابتدائية حيث يشترط إبراز الهوية. وفي كثير من الحالات، يتطلب إصدار المستمسكات الرسمية اللجوء إلى المحامين وتكاليف إضافية، وهو ما يعجز عنه كثير من العائلات".
ويشير الى وجود "منظمات إنسانية ومحلية تعمل على مساعدة هؤلاء الأطفال، ففي إحدى المبادرات، تمكّنت منظمة محلية من استخراج بطاقات تعريفية لنحو 62 طفلاً، لكن لا تزال هناك أعداد كبيرة من الاطفال بحاجة للدعم". ويتابع أنه "إلى جانب نقص المدارس، تعاني المؤسسات التعليمية في كركوك من ضعف خدمات النظافة والصيانة، حيث يتم تعيين بعض الموظفين دون تدريب كافٍ في مهامهم الخدمية، ما يؤثر سلبًا على بيئة الطلبة في المدارس. وتزيد هذه الظروف من تحديات المدارس الحكومية التي تتعرض لمنافسة شديدة من المدارس الخاصة، رغم تباين مستوى الجودة بين النوعين". ويردف كلامه بأن "بعض الأهالي يدركون أهمية التعليم كوسيلة لتحسين مستقبل أبنائهم، خاصة مع توفر فرص تعيين للمتخرجين. ومع ذلك، لا تزال الأسر محدودة الدخل تجد صعوبة في مواصلة تعليم أطفالها، ما لم تتحسن الظروف المعيشية والخدمية".
ويأمل ان يكون هناك "دعم حكومي لتحسين وضع التعليم، بدءاً من زيادة عدد المدارس وتعزيز الدعم الاجتماعي، إلى تطوير برامج لمكافحة التسرب وتأمين النقل المدرسي".
صرح محافظ كركوك السابق، راكان سعيد الجبوري، في عام 2022 بافتتاح 8 مدارس في مركز المحافظة تم بناؤها على حساب إدارة كركوك، مع تحقيق المحافظة المركز الأول في بناء المدارس في مؤتمر وزارة التعليم والتربية.
أسباب التسرب
من جهة أخرى، أفادت مديرية تربية كركوك في عام 2023 بأن المحافظة تضم 421 مدرسة بدوام ثنائي و46 مدرسة بدوام ثلاثي، مما يتطلب بناء حوالي 300 مدرسة إضافية للتخلص من الازدواجية في الدوام. كما تم حل مسألة المدارس الكرفانية والطينية، مع الحاجة إلى نحو 9 آلاف معلم لتغطية الاحتياجات التدريسية، وفقا للمديرية.
ويقول الصحفي محمد شهيد زاده: إن هناك عدة أسباب رئيسية وراء ارتفاع معدلات التسرب المدرسي في المحافظة. من أبرز هذه الأسباب الأوضاع الأمنية التي شهدتها كركوك على مدار السنوات الماضية. "توترات أمنية كبيرة نتيجة للأحداث السياسية والنزاعات المسلحة جعلت بعض الأسر تفضل بقاء أبنائها بعيدًا عن المدارس، خوفا من وقوعهم في دائرة الخطر".
ويضيف محمد لـ "طريق الشعب"، أن "الوضع الاقتصادي السيئ لبعض الأسر يعد من العوامل المؤثرة بشكل مباشر في تسرب الأطفال من التعليم، حيث تواجه الأسر صعوبات مالية، يلجأ البعض منهم إلى إرسال أطفالهم للعمل بدلاً من إرسالهم إلى المدرسة، وذلك للمساهمة في تحسين دخل الأسرة".
أما في ما يتعلق بالخدمات التعليمية في كركوك، فيوضح زاده أن "نقص البنية التحتية وضعف الإمكانيات التعليمية في بعض المدارس يعمق من المشكلة: قليل من المدارس في كركوك تتوافر على صفوف دراسية مكتملة. كما أن هناك نقصًا كبيرًا في الكتب والمستلزمات التعليمية الأساسية. هذا الوضع لا يجعل التعليم جاذبًا لبعض الطلبة، ما يؤدي إلى تزايد نسب التسرب".
ويشير شهيد زاده إلى أن "قلة الوعي في بعض المناطق بأهمية التعليم، خصوصًا في الأرياف، تلعب دورًا في تغليب الأولوية للعمل على التعليم، حيث هناك عائلات لا تدرك قيمة التعليم في بناء مستقبل أبنائهم، ما يجعلها تفضل أحيانًا العمل على الدراسة".
علاوة على ذلك، لا تزال بعض التقاليد والعادات المجتمعية تشكل تحديًا كبيرًا أمام حق الأطفال في التعليم، خاصة بالنسبة للفتيات، اذ تُجبر الفتيات على ترك التعليم للزواج المبكر أو للعمل في المنزل، وهو ما يزيد من فجوة التعليم بين الجنسين في المنطقة"، يقول زاده.
وفيما يتعلق بتقييم المدارس في كركوك، يعتمد التقييم بشكل عام على توفر البنية التحتية الأساسية، جودة المناهج التعليمية، والقدرة الاستيعابية للكادر التدريسي. ومع ذلك، حسب شهيد زاده "هذه المعايير لا تعد كافية لتحسين الوضع التعليمي بشكل ملحوظ. "المشاكل المتعلقة بالأمن والاقتصاد، بالإضافة إلى نقص الوعي المجتمعي، تؤدي إلى تراجع التصنيف العام للمدارس في كركوك مقارنةً ببقية المحافظات".
بيئة هشّة
وفي حديثها لـ"طريق الشعب"، تشرح أروين عزيز، الناشطة في مجال التعليم والباحثة التي أعدت سابقًا ورقة سياسة تناقش مشكلة تسرب الأطفال من التعليم في كركوك، الأسباب الرئيسة التي تساهم في هذه الظاهرة، قائلة: إن "الفقر هو العامل الأساس الذي يدفع العديد من الأسر إلى إجبار أطفالها على دخول سوق العمل منذ سن مبكرة. في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الكثير من الأسر في كركوك، يصبح تعليم الأطفال أمرا غير ممكن. وتُعتبر مشاركتهم في العمل خيارًا صعبًا لكنه ضروري من أجل توفير احتياجات الأسرة".
وتشير إلى التحديات الكبيرة التي تواجه البيئة التعليمية في كركوك، مضيفة أن "الكثير من المدارس في المحافظة تفتقر إلى المرافق الأساسية مثل المياه الصالحة للشرب، والمراحيض، وأماكن اللعب، والأهم من ذلك الصفوف الدراسية المناسبة".
وتؤكد، ان "البيئة التعليمية تفتقر إلى الأساسيات التي تجعل من المدرسة مكانًا محفزًا وآمنًا للتعلم".
وتضيف، أن هذه الظروف تجعل الأطفال غير راغبين في الاستمرار في التعليم: "عندما تكون المدرسة بيئة غير ملائمة، يشعر الأطفال بالملل والتهميش، ما يجعلهم يفضلون العمل أو البقاء في المنزل على الذهاب إلى المدرسة. هذا يؤدي إلى زيادة نسبة التسرب، وهو ما ينعكس على مستقبلهم الأكاديمي والاجتماعي".
وترى عزيز، أن أزمة التسرب ليست مجرد مشكلة مدرسية أو تعليمية، بل هي قضية مجتمعية يجب على الجميع مواجهتها.
وتوضح أن "أزمة تسرب الأطفال من التعليم في كركوك تتطلب تكاتف الجميع، من الحكومة إلى منظمات المجتمع المدني. لا يمكن للأسر وحدها تحمل عبء هذه المسؤولية. نحن بحاجة إلى تدخلات جادة لتحسين واقع التعليم، من بناء مدارس جديدة إلى توفير مستلزمات تعليمية أساسية".
وتختتم حديثها بالقول: "أأمل تحسين الوضع التعليمي في كركوك، وان لا يبقى معقودًا على التعاون المشترك بين جميع الأطراف".