تنتشر في شوارع بغداد والمحافظات العراقية، مشاهد الأطفال الذين يعملون في ظروف قاسية، تكشف عن عمق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها البلد.
هؤلاء الأطفال، المرهقون بأعباء العمل في سن صغيرة، يجسدون واقعاً أليماً يعكس تأثير الأوضاع الاقتصادية الصعبة على العائلات الفقيرة، التي تضطر إلى دفع أبنائها إلى سوق العمل رغم أعمارهم الصغيرة.
ظاهرة تثير القلق
تقول مرح إياد، ناشطة ومدافعة عن حقوق الإنسان، إن “عمالة الأطفال في العراق باتت ظاهرة مقلقة”، معتقدة أنها تأخذ طابعاً متزايداً في ظل ارتفاع معدلات الفقر”.
ووفقاً لإحصاءات وزارة التخطيط، تتراوح نسبة عمالة الأطفال ما بين 1 إلى 2 في المائة من سوق العمل، لكن مرح تصف هذه النسبة بأنها بداية لجيل جديد من المشاكل الاجتماعية.
وترى أن “معظم هؤلاء الأطفال يأتون من عائلات تعيش تحت خط الفقر، حيث تكشف التقارير الدولية أن نحو أربعة ملايين عراقي يعانون من أوضاع معيشية صعبة، وغالبيتهم من الأطفال”.
وتشرح مرح في حديث لـ “طريق الشعب”، أن “القوانين العراقية المتعلقة بعمالة الأطفال تبدو مشلولة وغير كافية، فرغم أن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تهدد بعقوبات ضد المتسببين بتشغيل الأطفال، فإن تطبيق هذه القوانين ضعيف وغير مؤثر”، مسترسلة بالقول ان قانون الاتجار بالبشر يشير إلى تجريم استغلال الأطفال، لكن هناك حاجة لتطبيق صارم لهذه القوانين، كي لا تظل حبراً على ورق”.
أما على المستوى الدولي، فتذكر مرح وجود “اتفاقية حقوق الطفل التي تعترف بحقوق الأطفال في الحماية من الاستغلال الاقتصادي والعمل الضار”، إلا ان حكومتنا لم تبذل مجهودا كافيا لضمان التزامها بهذه المعايير. وتسعى مرح إلى توعية المجتمع بشأن الآثار السلبية لعمالة الأطفال، معتبرة أن هذه الآثار لا تتوقف عند الحدود الفردية فقط، بل تمتد لتشمل المجتمع بأسره. إذ إن هؤلاء الأطفال الذين يُحرمون من طفولتهم وتحصيلهم العلمي، يصبحون عرضة للابتزاز والتحرش، ويعانون من مشكلات نفسية واجتماعية تزيد من تهميشهم، وتؤدي إلى تزايد معدلات الفقر في المستقبل واستعدادهم للعبث والجريمة. وتقترح مرح حلولاً عملية للحد من هذه الظاهرة، منها تحسين الظروف المعيشية للأسر المحتاجة عبر منحهم قروضا ميسرة، على أن تتضمن تلك المساعدات تعهدات بعدم إجبار الأطفال على العمل. كذلك تنادي مرح بدور أكبر لوزارة الشباب والرياضة من خلال تفعيل الأنشطة الرياضية، وعلى وزارة التربية تنظيم دورات صيفية وبرامج تعليمية تُعيد الأطفال إلى مقاعد الدراسة، وتفتح لهم باباً لتحقيق مستقبل أفضل.
ختاماً، تؤكد مرح أن عمالة الأطفال ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي تحدٍّ اجتماعي كبير يتطلب تدابير فورية وحلولاً شاملة، لتحرير جيل من الأطفال من دوامة الفقر، ومنحهم الحق في التعليم والحياة الكريمة.
التفكك الأسري من أبرز الأسباب
وتشهد ظاهرة عمالة الأطفال تزايدًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، وفقًا لمدير الشرطة المجتمعية في وزارة الداحلية، العميد نبراس علي الذي أكد أن “هذه الظاهرة تُعتبر جريمة بحق الطفولة وتهديدًا للبنية المجتمعية وأجيال المستقبل”، ويُعزى انتشار هذه الظاهرة إلى عدة أسباب، من أبرزها “التفكك الأسري وتخلي الأب عن مسؤولياته تجاه أسرته. هذا التخلي، بحسب العميد نبراس، يدفع الأطفال إلى الشوارع بحثًا عن عمل، ما يعرضهم لمخاطر كبيرة ويؤثر على تكوين شخصياتهم ومستقبلهم الدراسي.
وقال علي في حديث لـ “طريق الشعب”، أن “هناك أسبابًا إضافية تدفع الأطفال للعمل، مثل الحاجة الاقتصادية والتهرب من المدرسة، بالإضافة إلى سوء التعامل من قِبل الأقارب، وغياب القدوة الصالحة. هذه العوامل مجتمعة تسهم في تفاقم الظاهرة وتؤدي إلى تطبيع عمالة الأطفال في المجتمع”.
ولمكافحة هذه الظاهرة، ذكر علي أن هناك جهودا حكومية متواصلة تحت إشراف وزارة الداخلية، حيث تُنظّم حملات من قبل الأجهزة الأمنية ومراكز الشرطة لضبط حالات عمالة الأطفال، ويتم التنسيق مع القضاء لمحاسبة الأهالي، خاصة الآباء عند ثبوت تقصيرهم في رعاية أطفالهم.
كما أشار إلى دور التوعية الذي تتولاه دائرة العلاقات والإعلام بوزارة الداخلية، حيث تُنظّم حملات توعية تستهدف الأطفال والأهالي على حد سواء. وتشمل هذه الحملات زيارات ميدانية للمدارس واستغلال المناسبات الدينية للتواصل مع الأهالي. وأوضح علي، أن دائرة العلاقات تعمل مع رجال الدين ليكونوا داعمين للقوات الأمنية في نشر الوعي حول أهمية رعاية الأسرة، خصوصًا الأطفال، وحث الأسر على توفير بيئة سليمة لأطفالهم.
ملف “شائك”
وتُعد ظاهرة عمالة الأطفال في العراق من القضايا الاجتماعية والإنسانية الشائكة، التي تترك آثاراً كبيرة على المجتمع ومستقبل الأطفال الذين يُحرمون من حقوقهم الأساسية، وأبرزها التعليم والحياة الكريمة. يقول مدير منظمة مدافعون لحقوق الانسان، علي البياتي إن “الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها العراق هي السبب الرئيسي الذي يدفع آلاف العوائل لإجبار أطفالها على دخول سوق العمل، بدلاً من أن يكونوا في مقاعد الدراسة”.
وفي حديثه لـ “طريق الشعب”، يشير البياتي إلى أن أحد الجوانب المقلقة في ظاهرة عمالة الأطفال هو تغلغلهم في المؤسسات الحكومية، حيث يُستَخدم هؤلاء الأطفال تحت عقود مؤقتة تفتقر للتنظيم، ويتم دفع أجورهم على نحو يومي من الأموال التي تُخصص للدوائر الحكومية، معتبرا ان ذلك يؤشر ضعف الرقابة على هذه المؤسسات وعدم التزامها بحظر عمالة الأطفال، رغم أنها جريمة بموجب القوانين الدولية. ويطالب البياتي بتعزيز الرقابة على المؤسسات الحكومية والخاصة لمنع استغلال الأطفال، مشيراً إلى أن “عمالة الأطفال يمكن أن تُصنف كنوع من الاتجار بالبشر، وهو ما يتطلب تدخلا قانونيا صارما للحد منها”. وتظهر الإحصاءات أن عدد الأطفال العاملين في العراق قد تجاوز 700 ألف طفل، بحسب البياتي. وتؤكد يونيسيف أن نحو 90 في المائة من الأطفال العراقيين يُحرمون من فرصة الحصول على تعليم مبكر، ما يفاقم المشكلة في مراحل لاحقة. ورغم تحسن معدل التحاق الأطفال بالتعليم الابتدائي ليصل إلى 92 في المائة، إلا أن معدلات إتمام المرحلة الابتدائية بين أطفال الأسر الفقيرة لا تتعدى 54 في المائة، مما يُبرز تأثير الفقر على فرص الأطفال في إكمال تعليمهم. ويؤكد البياتي، انه “مع تفاقم معدلات الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة، لم تعد كثير من العوائل تجد بديلاً سوى الزج بأطفالها في العمل، في محاولة لتأمين احتياجاتها الأساسية. ويُلاحظ أيضاً أن كثيراً من هؤلاء الأطفال يعملون في بيئات غير آمنة، ما يزيد من خطر استغلالهم ويعرضهم لانتهاكات قد تهدد صحتهم الجسدية والنفسية”. ويشدد البياتي على أن “التعليم الإلزامي يجب أن يكون جزءاً من الحل للحد من عمالة الأطفال، وليس فقط من خلال إلزام العوائل بإرسال أبنائها للمدارس، بل من خلال توفير بنية تعليمية شاملة تتضمن جميع متطلبات التعليم من بنية تحتية وموارد ومرافق تعليمية مريحة وآمنة. كما أن تحسين النظام التعليمي وتقديم دعم حقيقي للأسر الفقيرة يُمكن أن يسهم في الحد من اضطرار الأطفال للعمل، وضمان حصولهم على التعليم الذي يستحقونه، والذي يُعتبر أساساً لمستقبل أفضل”.
العراق.. الرابع عربياً
ووفقاً للمركز الاستراتيجي لحقوق الانسان فأن “العراق يحتل المرتبة الرابعة في عمالة الأطفال بعد اليمن والسودان ومصر، بنسبة 4.9 في المائة في الفئات العمرية الصغيرة يتركز عملهم في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات بنسب عالية”.
وذكر المركز ان “من أهم صور عمالة الأطفال المقنعة والتي تعد صورا لجريمة الاتجار بالبشر هي التسول”، لافتا الى، ان “تسول الأطفال ازداد في السنوات الأخيرة بشكل كبير في عموم محافظات البلاد”. ونوه بان 57 في المائة من الأطفال المتسولين هم من الذكور و33 في المائة من الإناث، حيث تتم مرافقة اغلبهم من قبل الأقارب او عصابات اجرامية عند قيامهم بالتسول. وتابع، أن “فئات المتسولين من الأطفال يتم اختطافهم أو استغلالهم أو الاتجار بهم، إضافة إلى الأطفال الـمتسولين من جنسيات عربية وأجنبية التي تقودهم عصابات الجرائم المنظمة”.