خلفيات تصاعد العنف الأسري في العراق
في السنوات الأخيرة، شهد المجتمع العراقي زيادة ملحوظة في حالات العنف الأسري والاجتماعي نتيجة لعدة عوامل اقتصادية واجتماعية، مثل ضعف المستوى المعيشي وارتفاع تكاليف الحياة. إضافة إلى غياب الوعي القانوني والاجتماعي.
نتيجة لذلك تفشت ظواهر مثل الزواج المبكر وتعاطي المخدرات، مما زاد من حدة التوترات الأسرية. ورغم محاولات تشريع قانون لحماية الأسرة، تواجه هذه المحاولات مقاومة من بعض الأحزاب الإسلامية التي تروج لرفض القانون بدعوى مخالفته للشريعة الإسلامية. وفي عام 2023، اتهمت منظمة العفو الدولية البرلمان العراقي بالتقاعس عن تجريم العنف الأسري بشكل فعال.
تُعلق الناشطة في مجال حقوق الإنسان، مرح إياد، على الوضع الراهن قائلةً: "لطالما نادينا بتشريع قانون يحمي حقوق جميع أفراد الأسرة، لكن يتم تبرير التأجيل دائمًا بحجة تعارضه مع الشريعة الإسلامية". وتشير إلى أن هذه الحجة تُستخدم بشكل متكرر كذريعة لتشتيت انتباه المجتمع عن الحاجة الملحة لهذا القانون، مؤكدة أن "هذا المبرر لا يستند إلى أسس صحيحة".
وتنوه إياد في حديثها مع (المدى)، إلى أن بعض الأوساط الاجتماعية تعمل على نشر إشاعات في الشارع العراقي بهدف تحريض المواطنين ضد القانون، معتبرةً أن هذه المحاولات تسعى إلى تقسيم المجتمع وخلق مبررات لرفضه. وتؤكد أيضًا أن بعض أعضاء مجلس النواب قد تبنوا هذه المبررات.
وفي حديثها توضح إياد أن هناك تصورًا خاطئًا بأن هذا القانون موجه فقط لحماية النساء، بينما الحقيقة أنه يهدف إلى حماية جميع أفراد الأسرة، بما في ذلك الرجال، ويضمن حقوقهم وحمايتهم من كافة أشكال العنف والممارسات الضارة.
وتشدد إياد على أهمية اتخاذ موقف حاسم من أجل الحد من ظاهرة العنف في العراق، مشيرة إلى ضرورة تفعيل دور المؤسسات الحكومية المعنية في هذا المجال. كما تحذر من التداعيات السلبية لاستمرار ارتفاع معدلات العنف، قائلةً: "العنف ليس مجرد حادث عابر، بل هو سلسلة متواصلة من المشاكل الاجتماعية الخطيرة، خاصة بالنسبة للأطفال الذين يعانون من التأثيرات السلبية على صحتهم النفسية والاجتماعية".
تشير إحصائية صادرة في أيلول الماضي عن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق إلى ارتفاع كبير في حالات العنف الأسري في البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث تم تسجيل ما يصل إلى 53 ألف حالة.
وتظهر الإحصائية أن معدل حالات اعتداء الزوج على الزوجة خلال هذه الفترة قد بلغ 75% من إجمالي الحالات، في حين بلغت نسبة اعتداء الزوجة على الزوج 17%. كما أظهرت الإحصائية أن نسبة اعتداء الأبوين على الأطفال وصلت إلى 6%، بينما بلغ الاعتداء على كبار السن، مثل الجد والجدة، 2%.
وتتحدث إلهام قدوري، رئيسة منظمة مجتمع مدني، عن العنف الذي يتعرض له الأطفال في العراق، مؤكدة أنهم "يعانون بشكل كبير نتيجة للظروف الصعبة التي يمر بها البلد، والتي تفاقمت بعد عام 2003". وتشير إلى أن "المواطن العراقي تعرض لمجموعة من الأزمات مثل البطالة، وارتفاع مستويات الجهل، وتفشي الأمراض، وكلها عوامل تؤثر سلبًا على العائلة العراقية، وخاصة الأطفال".
وتوضح قدوري لـ(المدى)، أن "هذه الظروف الصعبة تجعل من الصعب توفير بيئة مناسبة للأطفال للنمو بشكل سليم. ففي ظل هذه الأزمات، تزايدت ظاهرة الأطفال المتسولين الذين غالبًا ما يكونون ضحايا لعصابات إرهابية منظمة، وهو ما يمثل إحدى الظواهر البارزة في المجتمع العراقي. كما لفتت إلى أن تزايد نسبة الأطفال المتسربين من المدارس يعد مؤشرًا آخر على تفشي هذه المشكلات، مشيرة إلى أن العنف الأسري الذي يتعرض له الأطفال يعمق تلك الصعوبات".
وتؤكد قدوري أن تعاطي المخدرات أصبح ظاهرة منتشرة في العراق، نتيجة لغياب السيادة الحقيقية وافتقار البلاد إلى قادة مخلصين. هذا الوضع يعكس تداعيات خطيرة على الأطفال، حيث يساهم في تفشي الجريمة والانحرافات. هذه الظروف مجتمعة تؤدي إلى نشوء جيل من الأطفال غير قادرين على العيش بشكل سليم، مما يزيد من احتمالات انحرافهم أو تطرفهم في المستقبل.
وتحذر قدوري من أن استمرار العنف الأسري بنفس الوتيرة سيؤدي إلى مستقبل مظلم للأطفال في العراق، مشددة على ضرورة أن يتابع الأهل أطفالهم عن كثب. كما تؤكد على أهمية وجود قوانين تحمي الأطفال من العنف بكل أشكاله، إذ أن العنف هو ما يولد الإرهاب. وفي هذا السياق، تشدد على ضرورة أن توفر الدولة التعليم المجاني والإلزامي للأطفال ليتمكنوا من بناء جيل واعٍ ومثقف قادر على مواجهة التحديات وبناء مستقبل أفضل.
يرجع العميد نبراس محمد علي، مدير قسم محاربة الشائعات في وزارة الداخلية، أسباب زيادة العنف الأسري إلى عدة عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية. في حديثه مع "المدى"، أشار إلى أن من أبرز هذه الأسباب هو التدهور في المستوى المعيشي وارتفاع المصروفات التي تفوق دخل الأسر، مما يخلق ضغوطًا اقتصادية تؤثر سلبًا على العلاقات الأسرية والاجتماعية.
وأكد نبراس أن هناك نقصًا كبيرًا في الوعي القانوني والاجتماعي لدى الأفراد، حيث يجهل الكثيرون عواقب الجرائم المرتبطة بالعنف الأسري، سواء من الناحية القانونية أو الاجتماعية. كما لفت إلى أن غياب المعرفة بأساليب التربية الحديثة المناسبة لأبناء الجيل الحالي يزيد من حدة الخلافات الأسرية، مشيرًا إلى أن الاكتظاظ السكاني نتيجة ارتفاع أسعار العقارات يضطر العائلات للعيش في ظروف ضاغطة، مما يعزز احتمالية حدوث مشكلات داخل الأسرة.
كما أشار نبراس إلى دور الزواج المبكر في تصاعد حالات العنف، خصوصًا في حال تم الزواج بين طرفين يفتقران إلى التفاهم أو المعرفة الجيدة بمتطلبات الحياة الزوجية. كما أن انتشار تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية يسهم بشكل واضح في تفاقم العنف الأسري، إذ يؤدي ذلك إلى فقدان القدرة على التحكم في المشاعر وتزايد التوتر داخل الأسرة.
وأضاف العميد نبراس أن ضعف الوازع الديني والقيمي لدى بعض الأفراد يسهم في انتشار العنف، معتبرًا أن هذين العاملين هما الأساس في منع الأفراد من اللجوء إلى العنف بجميع أشكاله. وفي السياق ذاته، أشار إلى تأثير وسائل الإعلام التي تعرض مشاهد العنف والانحرافات السلوكية، مما يساهم في تقبل هذه الظواهر من قبل المجتمع.
وأخيرًا، تحدث نبراس عن التأثير السلبي المترتب على الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث أدى ذلك إلى تراجع القدرة على التواصل الفعلي بين أفراد الأسرة، وازدياد الخلافات نتيجة تراجع الحوار المباشر. كما أشار إلى أن بعض المجتمعات تروج لمعتقدات مغلوطة تبرر استخدام العنف كوسيلة للسيطرة داخل الأسرة، مما يعزز من تفشي هذه الظاهرة.