خفر وبالمستشفى: من يعالج ظاهرة التحرُّش بموظفات القطاع الصحي؟
نشر بواسطة: mod1
الإثنين 16-12-2024
 
   
كوثر إلياس - جُمّار

حركات ذات إيحاء جنسي يؤديها موظف أمام زميلته الممرّضة أثناء مناوبة ليلية في أحد المستشفيات الحكومية، وعندما تشتكي تحصل على رد غير متوقع.. عن قصص التحرش والتعامل معها في المؤسسات الصحية.

منذ الطفولة، كان الأمان هدفي الوحيد، لذا سعيتُ للوصول إلى بيئة عمل آمنة تعاملني باحترام وتقدير كأنثى.

حين التحقت بإحدى كليات المجموعة الطبّية، ظننت أنني وجدت ما أريد، كما ظن والدي.

لكن الأمان الذي عملت طويلاً من أجله، لم يرافقني طويلاً أثناء التدريب والعمل، والبيئة التي ظن والدي أنها مكان للمحترفين، لم تكن سوى مستنقع من الـ”مشيها.. هو هذا طبع الدكتور”.

منهجية “لمسة اليد”!

في المرحلة الأخيرة من دراستي الجامعية، كنت في قمة الحماس لاستكشاف العمل في القطاع الطبي الخاص، لذا لم أتردد في قبول فرصة العمل مع أحد الجراحين المعروفين في بغداد. يحمل هذا الجراح شهادة التخصّص “البورد” في الجراحة العامة والتجميلية، وعمره يقترب من 60 عاماً، وكان في السابق مديراً لأكثر من مستشفى حكومي.

عملت أقل من شهرين برفقته في غرف العمليات، كان ماهراً، لكنني سرعان ما لاحظت تصرفات غريبة منه. حاولت التغاضي وتبرير لمسه المتكرر ليديّ بحجة “أعلمچ الشغل” في البداية، وسؤاله عن ملابسي وأظافري وأحاديثه عن لجوء النساء إلى الأكريليك (الأظافر التركيب) ومواد التجميل الأخرى.

لمسة اليد وحجة “أعلمچ الشغل” تطوّرت إلى لمس الذراع مرات ومرات، بحجة تعليمي قياس الضغط، على الرغم من أن ذلك لم يكن شيئاً أحتاجه.

حاولت التعامل مع كل ما يفعله بحسن نية، وكلما “أنزعج” أفكر في أنه رجل يحظى باحترام كبير في الوسط الطبي، ولا يمكن أن يتصرف بسوء، لكن “السوء” سرعان ما حدث.

في 2023، طلب مني إغلاق باب العيادة، قائلاً “آني دايخ، ويمكن ضغطي نازل، واكو مراجعين مزعجين فسدي الباب وقيسي ضغطي”.

وقفت على مسافة منه لأقيس ضغطه، لكنه غيّر مكانه وطلب مني الجلوس، ليتقرّب فجأة ويجلس بجانبي، وسرعان ما وضع يديه خلف أكتافي لاحتضاني، وهمس “شنو عطرچ؟” في محاولة لشم ملابسي. توقف الزمن لديّ للحظات، ما الذي يحدث؟ لم أستوعب الموقف بسرعة، لذا لم أصرخ بأكثر من “لا!” وركضت هاربة مذعورة منه.

كنت أعمل بأجر يومي وليس براتب شهري. في ذلك اليوم تقاضيت أجري، ثم اتخذت قرار الاستقالة.. أسرع قرار اتخذه في حياتي. كنت مرتعبة من إخبار أحد بما جرى، تحجّجت بامتحاناتي النهائية وبأنني لا أستطيع الاستمرار في العمل، وكانت الحجة مقنعة.

استدعاني الطبيب إلى غرفته بحضور مسؤول المشفى الذي نعمل به، وقد بدت عليه علامات الغضب. حاول المسؤول إقناعي بالبقاء لعدم توفر موظفة أخرى، لكنني رفضت وأصررت على المغادرة.

وهكذا غادرت ولم أعد هناك إطلاقاً، وتجاهلت اتصاله.

اتصل بي الطبيب مساء اليوم نفسه الذي وقعت فيه حادثة التحرش، لكني لم أُجب، فأرسل لي رسالة SMS؛ يسأل فيها عن اسم إحدى المراجعات ومعلوماتها؛ لكني لم أُجب أيضاً، وعند منتصف الليل، وصلتني على حسابي الشخصي في انستغرام رسالة، فوجئت أنها من حسابه الخاص يقول فيها، “دزيتلج مسج على التلفون وما رديتي”، على الرغم من أنه لم يكن بيننا أي محادثات مسبقة على الإنستغرام، ولم نتحدث على مواقع التواصل الاجتماعي. تجاهلت رسائله هناك أيضاً ولم أجب أبداً.

جاء بعد كل ذلك قراري بألا أعمل في القطاع الطبي الخاص مجدداً، وأنا أعرف تمام المعرفة أن القطاع العام ليس أفضل حالاً، وأن يكون خاضعاً أكثر للضوابط والعقوبات.

فمنهجية التعليم عن طريق “لمس اليد” من الدكتور للممرضة بحجة “تعليمها وتمرينها” لا تقتصر على القطاع الخاص.

عانت هدى (25 عاماً)، وهي ممرضة في مستشفى حكومي، وفضلت ألّا تستخدم اسمها الصريح خوفاً من الأحزاب المسيطرة على المستشفى، من سوء بيئة العمل وفساد إدارتها، حيث يرفض أغلب الأطباء الجراحين إجراء عملياتهم إلا برفقة ممرضات شابات، لكي ينتهزوا الفرصة في التقرب منهن والتمعن في أجسادهن.

خلال عملية جراحية كان يجريها جراح معروف، حاول لمسها بذريعة تعليمها، وكلما ناولته أداة جراحية لمس يدها. ظنت أن ما يحدث ليس عن قصد، ولكن مع مرور الوقت بدأت تسمع منه كلاماً إيحائياً.

قبل بدء كل عملية ترتجف يد هدى وتتعرّق، وتعلل ذلك بسبب الإهانات والصراخ من قبل الطبيب، “چنت كلش أتوتر وياه” قالت لنا. لاحظ زملاؤها ذلك، فحاولوا حمل الطبيب على التعاطف معها والرفق بها لأنها جديدة في المهنة، فكان جوابه بارداً “المفروض تعلچين لو تشربين كابتشينو قبل ما تفوتين وياية للصالة”.

قررت هدى تقديم شكوى لأحد المسؤولين في المستشفى، إلا أنه أخبرها بأن هذا الطبيب معروف بهذه التصرفات كوسيلة “لإثبات ذاته” أمام الموظفين الجدد. لم يُتخذ أي إجراء رسمي بحقه “لأنه محسوب على حزب سياسي معروف ويتمتع بسلطة داخل المستشفى ويصف نفسه بأنه فوق القانون” كما تقول هدى، ما اضطرها لتجنّبه والابتعاد عنه أن تطلب نقلها إلى قسم آخر، وقُبل الطلب لحسن حظها.

تتحدّث هدى عن مضايقات ومحاولات تحرّش واستغلال تتعرّض لها زميلاتها أيضاً، فطبيب يطلب من ممرضة “الزواج سراً” مراعاة لوضعه الاجتماعي، وآخر ينظر إلى نهدي إحدى الممرضات قائلاً “أوف أوف”.

الشاي والهاتف والسمعة

تعاني العاملات في المستشفيات من التقييد حتى على مستوى الملابس، إذ أن التنورة القصيرة كفيلة بجعل الموظفة حديث المستشفى برمته.

تقول ميس (28 عاماً)، والتي عملت أكثر من خمس سنوات في مختبرات المستشفيات الحكومية، إنها عانت من التقييد المستمر في ما ترتدي.

ويتجاوز التقييد الملابس ليصل إلى طريقة تعامل الموظفات مع زملائهن.

ميس نفسها تعرضت للطعن بالشرف لأن زميلاً لها ساعدها في إنجاز إحدى المهام، فانتشرت الأسئلة والشائعات بشأن العلاقة بينهما، غير أن زميلها ردّ على كل المشككين بأنها ليست سوى زميلة.

وفي مواقع التواصل الاجتماعي، تكثر الأقاويل إذا أرسلت موظفة طلب صداقة أو قبلت طلباً من أحد زملائها.

وإن شوهدت تشرب الشاي يقال “هل هي مدخنة لتشرب الشاي؟”.

وإن ردت على مكالمة هاتفية من أحد أفراد أسرتها يقال إنها “ضاربة ركن” لتتحدث إلى حبيبها.

تعاودني كوابيس التدريب الصيفي في المرحلة الثانية من الجامعة عام 2021، في مستشفى حكومي في بابل. أحد الموظفين لم يتوقف عن الأسئلة “وين بيتكم؟ شتدرسين؟ كلية لو معهد؟”، بينما الآخر قال لي “هاچ هذا حسابي راسليني عليه، أريد بنية أحاچيها”.

التحرش لم يكن مشكلتي الوحيدة، بل فاقمه انعدام الحدود في العمل، والخلط بين العام والخاص.

انتشرت مرة شائعات حول زواج والدي من امرأة ثانية. وجدت هذه طريقها إلى مصرف الدم داخل المستشفى، حينما ذكر المسؤول -وهو تقني طبي يتجاوز عمره الـ50 عاماً- الأمر أمام الحاضرين.

لم تكن بيننا علاقة شخصية أو قرابة، لكنه يعرف أهالي المنطقة، وحين سأل عن اسمي عرف والدي “أبوچ تزوج؟ أبو النسوان!”. كنت محرجة وغاضبة في الآن ذاته، قلت له هذه شؤون عائلية لا يحق له ولغيره التدخل فيها، لينظر إليّ بصمت.

لاحقاً أخبرتني إحدى الموظفات بأنه بعد مغادرتي أبدى استغرابه من غضبي إزاء حديثه الذي برره على أنه مجرد فكاهة.

قلة احترام بدل احترام الموظفات الخافرات

لم تعلن وزارة الصحة العراقية أي بيان إحصائي أو دراسات تخص المرأة العاملة في مؤسساتها، وهناك نقص ملحوظ في البيانات والإحصائيات المتعلقة بحالات التحرش في المؤسسات الصحية، ولاسيما في الأقضية والنواحي.

وقد يعود ذلك إلى قلة تسجيل وتوثيق حوادث وحالات التحرش رسمياً خوفاً من العواقب الاجتماعية والقانونية. تعيق ثقافة العار النساء عن الإبلاغ، إذ توصم الضحية بالعار، وتشوه سمعتها، لذا تمتنع النساء عن الإبلاغ عن تجاربهن وفضح المتحرش، بالإضافة إلى افتقار القطاع الصحي للوعي وغياب الدراسات المتخصصة التي تركز على التعامل مع قضايا التحرش.

يقول حسين دوحان الوطيفي، مسؤول شعبة المختبرات في مستشفى الإمام الصادق ببابل، إن حالات قليلة من التحرّش تم تسجيلها، حيث يتم التعامل معها من قبل مسؤول القسم عن طريق رفع شكوى أو مطالعة إلى الشعبة القانونية.

ومع ذلك، يُعترف بالشكاوى فقط في حال وجود شهود أو تسجيلات بالكاميرات، حيث تعد الشكاوى باطلة من دون أدلة.

تنصح مسك (اسم مستعار)، مسؤولة سابقة في قسم فحص البصر في أحد مستشفيات بابل، النساء الموظفات بالتحلي بالحذر في تعاملاتهن، مثل “أن يقتصر التواصل مع الزملاء على السلام الرسمي فقط وتجنب التعامل الودي والصداقات”، وذلك لتفادي سوء الفهم أو التفسيرات الخاطئة التي قد تؤدي إلى النقد أو التحرش والمضايقات.

لكنها لا تستبعد تعرّض النساء للتحرّش والطعن حتى مع التزامهن بالحدود والرسميات، حيث تعرضت إحدى زميلاتها المتزوجات لشائعة باطلة نشرها زميل آخر عنها بأنها قبّلت أحد الموظفين.

وهناك مقالات كثيرة تناقش وضع النساء في المؤسسات الصحية في لبنان والسعودية واليمن، لكنها تكاد تكون معدومة في العراق، علماً أن مؤسسات المجتمع المدني، مثل المرصد العراقي لحقوق الإنسان، رصدت تزايداً في حالات التحرّش الجنسي واللفظي في كثير من المنشآت الحكومية ومؤسساتها.

يقول الوطيفي إن حالات التحرش وسوء المعاملة التي تتعرض لها النساء غالباً ما تصدر عن المرضى أو مرافقيهم. توافقه الرأي آية (22 عاماً)، وهي موظفة في مستشفى حكومي، وتعزو سوء معاملة موظفات الصحة إلى فكرة خاطئة سائدة بأنهن “سهلات” لمجرد أنهن “خفر وبالصحة.. يقبلون ميانة”، ما يشجع تقليل بعض المراجعين احترام موظفات المستشفى، ولا سيما إذا كن ضمن الخفر الليلي، بدل احترام سهرهن ليلاً لأداء وظائفهن!

عقوبات المتحرشين.. لا شيء يُذكر

تتطرّق زهرة (اسم مستعار) إلى غياب الإجراءات الرسمية والمهنية للتعامل مع حالات التحرّش والمضايقات، بشكل يراعي سياق المرأة العراقية العاملة.

وتشرح زهرة وهي مسؤولة عن قسم العناية المُركّزة في أحد المستشفيات الحكومية ببغداد، وحاصلة على شهادة البكالوريوس في التمريض، إن الشكاوى تُعالج عادة داخل كل قسم على حدة، ولا تصل إلى الإدارة العامة.

تتذكر أن إحدى الممرضات تعرضت لتحرّش زميل لها أثناء مناوبة ليلية، حيث أدى حركات ذات إيحاء جنسي أمامها. امتنعت الممرضة عن تقديم شكوى مكتوبة خوفاً على انتشار القصة وتأثيرها على سمعتها، واكتفت بتقديم شكوى شفوية لرئيس القسم، الذي ما كان منه إلا أن وبخها قائلاً “هذه الأمور تحدث ولا داعي لتضخيمها وإثارة القلاقل”. ومع أن بعض زميلاتها حاولنّ التدخل لمساندتها، غير أن رئيس القسم رفض تدخلهن، وتم إغلاق الموضوع والتستر عليه.

ما يعني أن طرق معالجة التحرّش تقع على عاتق الموظفات اللواتي يضطررن لحماية أنفسهن من المتحرشين إلى تغيير أوقات دوامهن أو الانتقال من قسم لآخر من أجل تجنبهم، وفي بعض الأحيان تتدخل عائلة الضحية فيتم التوصل إلى حل عشائري بعيداً عن الإجراءات القانونية.

“أقصى عقوبة تطول المتحرّشين إذا أدينوا هي نقلهم إلى مستشفيات أخرى” تقول زهرة.

يلفت حيدر عباس حسان، مسؤول شعبة المختبرات في مستشفى القاسم العام في بابل، إلى أن احتمال تقدم الموظفات بشكاوى رسمية تخص التحرّش ضئيل جداً، نظراً للعرف العشائري السائد والخوف من تأثر سمعتهن داخل المؤسسة. في المقابل، يُضيف حسان أن الموظف المدان بالتحرش عادة ما يُعاقب بالنقل أو التوبيخ، بينما يتحدث الوطيفي عن عقوبات أخرى مثل لفت النظر أو الإنذار الأولي بالنسبة للموظفين، وإحالة الشكوى إلى القضاء إذا كان المتحرش من المراجعين.

تعنى موظفات الصحة بالمرضى ويعملن ساعات طوال، ليل نهار، حرصاً على صحة وسلامة المراجعين والمراجعات، فمن يحرص على أن يحظين بالاحترام والعناية والظروف المهنية والإنسانية التي تضمن لهن كرامتهن وصحتهن واستمرار عملهن دون قلق وكوابيس و”منهجيات” غير أخلاقية!  

هذه المادة من ضمن ملّف أعدّه جُمّار عن صحة المرأة في العراق.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced