معد فياض
في نهاية الستينيات من القرن الماضي، كانت مجموعة من الفنانين المسرحيين والكتاب والموسيقيين والشعراء الشيوعيين، تلتقي في نادي الفنون في البصرة، يتدربون بصورة شبه سرية، ليعلنوا عام 1969 عن ولادة أول واروع أوبريت مسرحي غنائي "بيادر الخير"، اخراج الفنان قصي البصري، وتأليف علي العضب وإلحان حميد البصري، وبطولة المطرب فؤاد سالم وشوقية العطار وسيتا هاكوبيان وطالب غالي وآخرين، ولم يزل هذا الأوبريت يمثل التجربة الأهم في تاريخ المسرح الغنائي في العراق.
بعد عام واحد من تقديم "بيادر الخير"، عرضت ذات الفرقة أوبريتها الثاني "المطرقة" الذي شارك فيه اكثر من سبعين فنانا. وتم عرض الاوبريتين على قاعة الخلد في بغداد، وشكل اضافة كبيرة للمسرح الغنائي وبادرة لتاسيس فرقة (جماعة البصرة للفن الحديث) ، اسوة بـ (جماعة بغداد للفن الحديث)، والتي ضمت ابرز فاني وكتاب وشعراء البصرة، وهم: عبد الإله عبد القادر، قصي البصري، عصام سالم، حافظ البصري، عبد الامير السلمي، فلاح هاشم، ياسين النصير ، ابراهيم ابو الهيل ، خالد ياسين وبتنسيق مع عضو الفرقة لطيف صالح.. وضمت بعد ذلك الشاعر علي العضب والمطربة سيتا هاكوبيان والشاعر ابو سرحان والملحن حميد البصري والمطرب فؤاد سالم، الفنانة شوقية العطار، الملحن طالب غالي ، الفنان ضياء البصري ،عباس مجيد ومحمد سعيد الصكار، عبد القادر احمد و أم لنا ، هؤلاء البصريون الذين لهم البصمة الكبيرة في تاريخ الحركة الفنية البصرية، حيث قدمت مسرحية(الشريعة) تاليف يوسف العاني.
كنت قد تعرفت وجها لوجه على الفنان قصي البصري عندما كان يشرف على تدريبنا مسرحيا يوم كنت طالبا في ثانوية ام قصر في البصرة حيث كان مشرفا فنيا في النشاط المدرسي لتربية البصرة عام 1967، مع الزملاء عماد حسن ومحمد عبد الرحمن والفنان التشكيلي احمد السعد، رئيس جمعية التشكيليين في البصرة حاليا وحيدر علي وابن شقيقه الفنان التشكيلي فراس البصري نجل الفنان المسرحي الراحل توفيق البصري.
نقابة الفنانين العراقيين نعت يوم أمس، الفنان قصي البصري، في بيان تلقت نسخة منه شبكة رووداو الاعلامية، قالت فيه:" أنه "ببالغ الحزن والاسى تنعى نقابة الفنانين العراقيين الفنان المسرحي قصي البصري، والذي وافته المنية هذا اليوم (أول من امس) أثر مرض عضال، سائلين المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته وأن يلهم ذويه ومحبيه وزملائه الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون".
ليس من السهولة ان نلم بقصة صحفية حياة وانجازات فنان شامل مثل قصي البصري الذي جمع بين كونه فنانًا شاعرًا مخرجًا، ومؤلفًا، وقدم إسهامات فنية متعددة جعلت منه رمزًا بارزًا في تاريخ الفن العراقي، وشكلت أعماله مزيجًا فريدًا من الإبداع الذي أثرى المسرح والموسيقى على مر العقود.
حصل البصري على لقب "عميد الأوبريت المسرحي الغنائي" بفضل ريادته لهذا الفن في العراق، وكان أبرز أعماله أوبريتي "بيادر الخير"، و"المطرقة" الذي يُعد علامة فارقة في تاريخ المسرح الغنائي العراقي، ورغم تقديمه العديد من الأعمال المميزة، ظل هذا الأوبريت محفورًا في ذاكرة الفن العراقي كواحد من أبرز إنجازاته.
الممثل والمخرج والمطرب قصي البصري الذي ولد في البصرة عام 1943، ورحل يوم 2 كانون الاول 2025 في ولاية ميزوري بالولايات المتحدة، قدم خلال هذه العقود اعمالا متميزة ولعب طولة واخرج العشرات من الاعمال المسرحية والدرامية، وشارك في مهرجانات فنية عديدة داخل العراق وفي تونس وموسكو وبرلين ووارشو وعمان وعُمان حاصدا الكثير من الجوائز الفنية، سواء من خلال عمله كمشرف فني لتربية البصرة وجامعة البصرة ولفرقة العمال وكمؤسس لشركة شمس للانتاج الفني في بغداد.
نعته الفنانة العراقية المتميزة سيتا هاكوبيان، المنحدرة من محافظة البصرة، قائلة:" قصي البصري..لا أعلم ان كنت سأجد انساناً بطيبة قلبك أو بأبتسامتك التي لا تغيب حتى في أقصى درجات الغضب أو الألم، (قصقوص) كما كنت أحب ان أناديك،كنت لي الأخ الكبير منذ لقاءنا في أوبريت (بيادر خير)، وحينها ألتقيت برفيقة دربك الهام أو (لهوم) كما أحب ان أناديها، وفرقتنا الأيام ، ثم التقينا في بيتنا في كندا بعد اكثر من 30 عاما، كنا على اتصال دائم وكنت تضحك معنا حتى وأنت في أقصى درجات الألم من المرض اللعين الذي اصابك، وأليوم نقل لي عماد خبر رحيلك". واضافت" أعمالك الفنية التي قدمتها باقية في ذاكرة الفن العراقي، كنت اول من اخرج أوبريتات في بلدنا الحبيب، وقدمت الكثير أضافة لأعمالك الغنائية، ولذلك ستبقى خالدا في الذاكرة العراقية..الرحمة لروحك المحبة، والصبر والدعاء لألهام رفيقة دربك.. صلاتي".
وكتب الفنان التشكيلي، فراس البصري، ابن شقيقه الفنان المسرحي توفق البصري، في نعيه" الفنان الكبير قصي البصري..مشكلتنا ليست مع الموت فهو امر لابد منه بل بالفراغ الذي يتركه فقدان الاحبة وعلينا تجاوز هذه المحنة بالحكمة والصبر، انه الخذلان ان لم نستطع ان نقف على اقدمنا واكمال المسيرة, فمن غادرنا يريد منا ان نكمل فينا ما انجزه، ووفائنا لهم نستذكرهم في كل خطوة نخطوها فالحياة هي هكذا كلا يمنح ما يستطيع لتستمر".
واضاف" كنت دائما اجد في قصي البصري بوصلة تقود للابداع والتمكن على تقديم اعمال فنية عميقة محفزة للتغير، والقدرة على العمل مع مجاميع كبيرة لخلق اهداف مؤثرة جماليا لخدمة المجتمع والعمل على الحفاظ على اصالة العلاقات الاجتماعية وديمومتها".
قصي البصري لم يكن فنانا وحسب، بل معلما اخلاقيا ومدربا مبدعا، قبل اسابيع كنت قد كتبت عن دوره الريادي في ترسيخ فكرة المسرح وتدريسه وتدريبه للطلبة، وعن منجزاته الابداعية في اعمال مسرحية خالدة وتؤرخ للمسرح العراقي، وبعثت ما كتبته له بناءا على طلبه..اضافة الى هذا كان صديقا، بالرغم من فارق العمر، متواضعا، متفائلا حتى وهو يعاني من المرض الخبيث، وابا حنونا وصديقا لابنائه، حسب ما كان يخبرني صديقي نجله بيادر البصري، المخرج التلفزيوني المقيم في دولة الامارات العربية، والذي حمل اسم اول اوبريت عراقي..وكان مصدر من مصادر الطاقة الايجابية المبدعة".
قصي البصري الذي اشغل رحيله منصات التواصل الاجتماعي، والذي نعاه الكثير من الفنانين والكتاب والشعراء والموسيقيين والمتابعين والاكاديميين، كان آخر ظهور له في المسلسل التلفزيوني"سارة خاتون" الذي تم تصويره في دمشق بعد عام 2003، وغادر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رحل الى عالمه الابدي.