استقطاعات رواتب موظفي العراق.. عن مليارات الدولارات مجهولة المصير
نشر بواسطة: mod1
الثلاثاء 14-01-2025
 
   
جُمّار-علي الأعرجي

خلال السنوات العشر الماضية، استقطعت الحكومات العراقية مليارات الدولارات من رواتب الموظفين والمتقاعدين تحت مختلف المسميات.. فأين ذهبت هذه الأموال؟

في 23 تشرين الثاني من العام الماضي، أرسلت الحكومة العراقية شحنة مساعدات إلى لبنان وغزة، بعد انقطاع إرسال هكذا شحنات أكثر من شهرين.

وكانت لإرسال هذه الشحنة غاية باطنة تختلف عن الغاية الظاهرة المتمثلة بمساعدة اللبنانيين والفلسطينيين.

للغاية الباطنة صلة برواتب موظفي الدولة في العراق.

تظهر حسابات وزارة المالية، أن إجمالي رواتب الموظفين والمتقاعدين خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2024، بلغت أكثر من 50 تريليون دينار (نحو 38 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي)، وهو ما يعادل أكثر من 5.5 تريليونات دينار شهرياً (4.1 مليارات دولار).

في 19 تشرين الثاني 2024، اتخذ مجلس الوزراء قراراً باستقطاع 1 بالمئة شهرياً من راتب كل موظف ومتقاعد لتمويل حسابات اسمها “حسابات دعم غزة ولبنان”، وبالطبع، لم يُسمع رأي أصحاب الرواتب قبل اتخاذ القرار.

دار حديث بين العراقيين بأن حكومتهم برئاسة محمد شياع السوداني، قدمت مفهوماً جديداً للتطوّع المتمثل باستقطاع التبرعات مسبقاً وفتح باب الاعتراض على الاستقطاع، عبر تقديم ورقة إلى الوزير تشرح سبب عدم الرغبة في التبرع، وهذه عملية تستغرق أشهراً ومتاعب جمة.

وعلى ما يبدو، لا يتعلق تذمُّر أصحاب الرواتب من هذا القرار بعدم رغبتهم في مساعدة اللبنانيين والفلسطينيين، وإنما في مخاوفهم من أن تكون هذه حيلة جديدة من حيل الفساد.

فبالعودة إلى أرقام الرواتب، يعني استقطاع 1 بالمئة توفير أكثر من 55 مليار دينار شهرياً (41.6 مليون دولار)، وهو مبلغ كبير لا يمكن أن يمر سالماً بين عمالقة السرقات والفساد في العراق.

والأمر الآخر الذي أثار الاستغراب في قرار الاستقطاع، هو أن الحكومة توقفت قبل شهرين من اتخاذه عن إرسال الإغاثات إلى لبنان.

وبعد أربعة أيام من صدور القرار، اُرسلت شحنة 23 تشرين الثاني، لكي يقال إن الحكومة ما زالت ترسل المساعدات، وبالتالي فإنها محتاجة للتبرعات المستقطعة.

وربما يكمن وراء الاستقطاع هدف آخر، فالقرار جاء بعد خمسة أيام فقط من إعلان تمديد عقد الوقود بين العراق ولبنان، عقب عامين من تلكؤ لبنان في تسديد أمواله، وما تبع ذلك من توقف عراقي عن إرسال الشحنات بسبب تأخر التسديد، ولكن تحت ضغط وإحراج الأوضاع والحرب، مدد العراق العقد من دون اشتراط الدفع.

يلتزم العراق بموجب العقد بتزويد لبنان بـ125 ألف طن شهرياً من زيت الوقود من النوع الثقيل عالي الكبريت الذي يتراوح سعره بين 300 و350 دولاراً للطن، ما يعني أن كلفة الوقود الذي ترسله بغداد إلى لبنان شهرياً ستبلغ 40 مليون دولار (أكثر من 52 مليار دينار شهرياً)، وهو رقم مقارب جداً لما ستوفره الاستقطاعات الشهرية من الرواتب.

ولعل ما يدفع الحكومة إلى اللجوء في كل مناسبة لرواتب الموظفين وتحويلها إلى مشاريع للتبرع، هو أن الموظف العراقي متهم ومذموم دائماً، ويتحمل مسؤولية سوء حالة الاقتصاد والخدمات والبنى التحتية في العراق، وذلك بفعل الفاتورة الكبيرة للرواتب ضمن الموازنة، والتي تعد إنفاقات إلزامية لا يمكن تأجيلها أو إيقافها على شاكلة المشاريع في حال مرور البلد بأزمة مالية.

ففي عام 2023 شكلت رواتب الموظفين لوحدها 40 بالمئة من إجمالي النفقات التشغيلية، كما شكلت 33 بالمئة من إجمالي النفقات (تشغيلية+استثمارية)، أما في 2024، شكلت الرواتب أكثر من 50 بالمئة من النفقات التشغيلية حتى أيلول، كما شكلت 46 بالمئة من إجمالي النفقات (تشغيلية+استثمارية)، وهذا ما تعده الحكومة عبئاً، مع أن الموظف ليس هو المسؤول عن هذا التخبط وانعدام التخطيط.

القصة ليست جديدة

على الرغم من أن استقطاعات الرواتب موجودة في جميع البلدان، إلا أنها غالباً ما تتعلق بمسائل تخص صاحب الراتب نفسه، كالضمان الاجتماعي أو التقاعد أو الضمان الصحي، غير أن استقطاعات الرواتب في العراق، تصب على الأغلب في مصلحة أطراف أخرى ليس للموظف صلة بها، ليس ابتداءً من صندوق شهداء الشرطة، ولا انتهاء بصندوق دعم الحشد الشعبي، الذي ما يزال موجوداً في بعض الدوائر، على الرغم من أن هيئة الحشد لديها موازنة سنوية تبلغ أكثر من 4.5 تريليونات دينار.

قصة استقطاعات الرواتب ملازمة لحكومات النظام السياسي بعد 2003، سواء كانت على شكل مقترحات أو قرارات فعلية تم تنفيذها، ويكاد لا يمر عام إلّا وشعر متقاضو الرواتب من الموظفين أو المتقاعدين بأن رواتبهم مهددة.

ففي منتصف 2023، اقترحت اللجنة المالية وصادقت على استقطاع 1 بالألف من رواتب الموظفين لغرض دعم صندوق مؤسسة الشهداء والسجناء السياسيين، ولم يُعرف حتى الآن مصير الاستقطاع وما إذا تم تطبيقه بالفعل، فغالباً ما تذهب هذه الأرقام الصغيرة من دون أن ينتبه إليها الموظف أو الموظفة، خصوصاً مع تحول الرواتب إلى بطاقات إلكترونية، إذ يجهل متقاضي الراتب، في أحيان كثيرة، سبب الاستقطاعات ويظن أنها تتعلق بخدمات البطاقة فقط.

وفي 2022، ومع توجه الحكومة نحو إنشاء قاعدة بيانات ومنصة شاملة لموظفيها، بعد 20 عاماً من عدم معرفتها عددهم الحقيقي وعدد الرواتب والوظائف المزدوجة، أنشئ مشروع تخصيص أرقام وظيفية للموظفات والموظفين، لكن الموظف لن يحصل على رقمه مجاناً، على الرغم من أنه إجراء تنظيمي ملزمة به الدولة، فالحكومة قررت استقطاع 1 بالمئة من راتب كل موظفة وموظف مقابل منح الرقم الوظيفي.

فُهم من القرار أن الاستقطاع سيكون لمرة واحدة، أي فور حصول الموظف على رقم وظيفي، لكن في الحقيقة يفرض القرار على الموظف دفع 1 بالمئة من راتبه كلما حصل على درجة ترقية.

في 2021، وأثناء استعداد حكومة مصطفى الكاظمي لصياغة الموازنة في ظروف كانت صعبة نتيجة تراجع أسعار النفط وقلة الإيرادات المالية، تم اقتراح فرض استقطاعات على رواتب الموظفين، لكن بنسب متغيرة ووفقاً لقانون ضريبة الدخل.

وعلى الرغم من أن القانون مطبق فعلياً والاستقطاعات جارية بموجبه، إلا أنها كانت مقتصرة على الراتب الاسمي، بينما تضمن قانون الموازنة في تلك السنة فرض الاستقطاعات على الرواتب الكلية الاسمية والمخصصات التي تكون غالباً أعلى بكثير من الراتب الاسمي.

ولا يعود المقترح إلى حكومة الكاظمي لوحدها، بل كان متداولاً أيضاً في أروقة حكومة سلفه عادل عبد المهدي، بسبب الأزمة المالية المتعلقة بانهيار أسعار النفط نتيجة وباء كورونا وتوقف الاقتصاد العالمي حينها.

نسبة الاستقطاعات المقترحة تراوحت بين 1 و24 بالمئة، أي تقريباً ربع الراتب بالنسبة للرواتب المرتفعة، وتسببت هذه الخطوة بجدال ورد فعل كبير، لكن، ومن منطلق “مصائب قوم عند قوم فوائد”، تعد مسألة الاستقطاعات أحياناً، ولاسيما المقترحة من الحكومة، فرصة ذهبية للقوى السياسية التي تبدأ بلعب دور المدافع عن الموظفين ورفض الاستقطاعات وإسقاطها بالتصويت داخل البرلمان، ثم الاستثمار طويلاً بهذا الموقف.

انتهى مقترح حكومة عبد المهدي بتصويت البرلمان في أيار 2020 على رفضه، فيما قال محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان آنذاك، إن الرفض لا يشمل الرئاسات الثلاث والنواب والوزراء والدرجات الخاصة، لكن من غير المعروف ما إذا كان الاستقطاع جرى بالفعل على هذه الفئات.

استقطاع بعد استقطاع

في الأعوام 2015 و2016 و2017 و2018، تضمنت نصوص الموازنة استقطاعاً بنسبة 3.8 بالمئة من إجمالي رواتب الموظفات والموظفين، وكان يُزعم أن الاستقطاع يهدف لدعم الحشد الشعبي والنازحين، وفقاً لنص قانون الموازنة.

وعلى الرغم من انتهاء المعارك وإعلان النصر على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في 2017، إلا أن موازنة 2018 تضمنت استمرار الاستقطاع الذي استمر ضمن السياق ذاته في الحكومات العراقية، المتمثل بتحميل الموظفين واجبات الحكومة.

ومع أن البرلمان من المفترض أنه صوت على إلغاء هذه الفقرة في موازنة 2018، إلا أن وزارة المالية استمرت بالاستقطاع، ما يعني أنه استقطاع مخالف للقانون، حيث خاطبت اللجنة المالية البرلمانية حينها وزارة المالية بإيقاف الاستقطاعات بناء على تعديل نص القانون في الموازنة الذي فرض إلغاءها.

في عام 2016، أقر مجلس الوزراء إخضاع إجمالي رواتب الموظفين للاستقطاع المباشر كضرائب باستثناء “مخصصات الزوجية والأطفال”، مع استثناء الموظفين العسكريين، وقد خالف هذا القرار قانون ضريبة الدخل الذي ينص على الاستقطاع الضريبي من الراتب الاسمي فقط وعدم شمول المخصصات والمكافآت.

وفي 2015، وهو عام التقشف والحرب ضد “داعش” وانهيار أسعار النفط في عهد حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، كان هناك تخفيض كبير طال رواتب المتقاعدين إلى جانب الاستقطاعات المفروضة، حيث وصلت بعض الاستقطاعات إلى أكثر من 10 بالمئة، وهي خطوة صدعت العلاقة بين المتقاعدين والعبادي، وما زالوا يتذكرون هذا التخفيض بحسرة.

في الأعوام السابقة لـ2014، وخلال ولايتي نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، كانت الإيرادات النفطية جيدة وأسعار النفط في أعلى مستوياتها التاريخية، لذلك كان اللجوء إلى الاستقطاع من رواتب الموظفين في تلك الحقبة أمراً نادراً نسبياً، وخصوصاً أن المالكي كان عرّاب الاستثمار بالموظفين من خلال إكثار التعيينات كوسيلة لشراء الولاء.

أما سلطة الائتلاف الموحدة في 2004، فقد دشنت حقبة الموظفين مع الاستقطاعات، وأعلنت لائحة ببدء الاستقطاعات وفقاً لنسب محددة، وأبلغت العراقيين حينها بأن هذه الاستقطاعات تهدف لتغطية نفقات الخدمات العامة لمصلحة الشعب العراقي، كالصحة والتعليم وتنقية المياه والنقل.

لكن عموماً كانت الاستقطاعات تحت عنوان ضريبة الدخل، أي وفق القانون، وبدأت اللائحة بفرض ضريبة تبلغ 1 بالمئة على الرواتب الشهرية التي تزيد على 69 ألف دينار وتقل عن 204 آلاف دينار، ثم ترتفع إلى 4 بالمئة على الرواتب الشهرية التي تزيد على 204 آلاف وتقل عن 574 ألف دينار، وترتفع إلى 7 بالمئة على الرواتب التي تصل إلى 1.5 مليون دينار، و10 بالمئة على الرواتب التي تزيد على 1.5 مليون دينار شهرياً.

أين المليارات؟

لأن الاستقطاعات قبل 2014 كانت بالمجمل تقتصر على قانون ضريبة الدخل بسبب ارتفاع أسعار النفط وعدم الحاجة لها، حيث تبوب الأموال في الإيرادات غير النفطية ضمن إيرادات الضرائب، فإن توخي الدقة يكمن في احتساب الاستقطاعات ابتداء من 2015.

بين 2015 و2018، أي خلال أربع سنوات، بلغت نسبة الاستقطاعات 3.8 بالمئة من إجمالي الرواتب التي كانت تبلغ في هذه الأعوام 35 تريليون دينار سنوياً بالمتوسط، بحسبما تظهر قوانين الموازنة، وهذا يعني أن الحكومة حصلت على 1.3 تريليون دينار عن كل عام، وبالتالي يتجاوز المبلغ الإجمالي في أربع سنوات 5.2 تريليون دينار (نحو 4.3 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي حينها).

أما قرار استقطاع 1 بالمئة لغرض الرقم الوظيفي في عام 2022، فقد طبق عندما كانت قيمة الرواتب تبلغ 42 تريليون دينار سنوياً، ما يعني أن حصيلة هذا الاستقطاع تبلغ 420 مليار دينار (قرابة 290 مليون دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي)، والرقم مرشح للارتفاع، فالاستقطاع سيتكرر مع كل مرة يحصل فيها الموظف على ترفيع.

وبالنسبة لقرار استقطاع صندوق غزة ولبنان، فالحصيلة ستكون 55 مليار دينار شهرياً ولمدة ستة أشهر، أي ما مجموعه 330 مليار دينار (250 مليون دولار).

وبذلك، فإن حصيلة الاستقطاعات خلال الأعوام العشرة الماضية، ستبلغ نحو ستة تريليونات دينار، وإذا ما احتسبت بشكل تراكمي بعملة الدولار بسبب تغيُّر سعر الصرف الرسمي، سيكون إجمالي المبلغ نحو خمسة مليارات دولار، جميعها استقطعت بشكل غير قانوني، أي لم تأت من قانون مشرّع بل بقرارات.

ولا توجد معلومات أو بيانات منتظمة عن هذه الاستقطاعات تتيح ملاحقتها، وربما أنها تبوّب ضمن الإيرادات غير النفطية في أبواب الرسوم والضرائب، أو ربما تتسرّب بطريقة أخرى على طريقة “الأمانات الضريبية”، كما حصل في حادثة “سرقة القرن”، خصوصاً مع غياب الحسابات الختامية منذ 2014، وعدم انتظامها منذ 2005.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced