"قبرها مفتوح أربعين يوماً": تجارب نساء بـ"النفاس" بين الطب والخرافة
نشر بواسطة: mod1
الأحد 19-01-2025
 
   
جُمّار-سارة القاهر

لا أحد يستمع للطبيبات اللاتي يقلن إن الأم أثناء النفاس تحتاج إلى ملابس خفيفة بدلاً من ثلاث بطانيات... عن نجلاء وبسمة وغيرهن، نساءٌ حائرات بين الطب وتقاليد النفاس وبطانيات الأم ووصفات طعام الجدة..

استفاقت سمر خالد (اسم مستعار) من آثار تخدير عملية قيصرية عند الساعة الواحدة ظهراً في أحد أيام تموز، وبعد ولادتها مباشرة، ألبستها والدتها دشداشة مصنوعة من قماش “قديفة” وزوجاً من الجوارب السميكة، وعصبت رأسها بعصابة بيضاء وألبستها سروالاً تحت ثيابها ثم غطتها بغطاءين.

بعد ساعتين زارتها الطبيبة التي أجرت لها عملية الولادة ووبختها، “نزلي وزنج.. كرشج شكبره.. المشيمة شكبرها طلعت”.

عانت سمر (30 عاماً) من الوِحام والقيء طيلة فترة الحمل، واحتاجت لمُغذٍّ لأنها لم تأكل كثيراً. إذن من أين جاءت زيادة الوزن؟

انتابت سمر الحيرة، لِذا لم تُجِب الطبيبة، فكرت إذا كان عليها أن ترتاح بعد مشقة الحمل، أو الالتزام بنظام غذائي ورياضة لإنقاص وزنها.  

دوامة التساؤلات والقلق صاحبت سمر أياماً وحالت دون أن تزور الطبيبة بعد انقضاء الأيام العشرة الأولى بعد الولادة لفحص الجرح؛ خافت أن تعيد الطبيبة عليها جملة “نزلي وزنج”، خاصة وأنها سمعتها من نساء كثر زرنها بعد الولادة.

لا وقت للراحة والنقاهة

تمارس الجدات والأمهات العراقيات، خاصة في مناطق وسط وجنوب البلاد، مع بناتهن وحفيداتهن اللائي ينجبن لأول مرة تقاليد قاسية تجبرهن بعد الولادة وطيلة فترة النفاس على ارتداء ثياب سميكة والبقاء تحت الأغطية وإن كان الجو قائظاً، مع حزامٍ حول الخصر، ويرغمنهن على إمساك سكين أو خنجر طوال فترة النفاس.

ألزمت أم سمر ابنتها تبعاً لهذه التقاليد بارتداء ثياب سميكة واطفأت المروحة في الغرفة بعد خروجها من المستشفى وعودتها إلى البيت. تقول سمر إن كل هذه العادات “خلتني أختنك وأعاني، نسيت فرحتي بولادتي الأولى. أكثر شي يغثني هي السكين الي ما أكدر أتركها”، وتضيف “أمي تلح أبقى لازمتها لحدما أجاني اكتئاب منها”.

ومع شدة وقع هذه التقاليد على المرأة، فثمة كثر ما زلن يتمسكن بها.

تقول ليلى الموسوي (50 عاماً) من البصرة، بأنها ورثت هذه التقاليد من جدتها، وعلمت بناتها العادات ذاتها. وتشرح ليلى أسباب كل عادة، إذ أن الملابس الثقيلة والجوارب تمنع دخول الهواء، أما حزام الخصر فيمنع “الكرش”، والنقاب يمنع سقوط الأسنان. وتضيف بأن الحنة على شعر المرأة النفساء تحميها من الصداع وأوجاع الرأس حين تتقدم في العمر، وأخيراً، فأن السكاكين والخناجر تحمي النساء من شر الشياطين.  

“الخوية” وصفة الجدات السحرية

تلزم بعض الجدات والأمهات والقابلات النفساء بارتداء الحجاب حتى اثناء النوم، خوفاً من دخول الهواء عن طريق الأذن. ويفرضن أكلات محددة عليها طيلة فترة النفاس.

عملت جدة حلا خلدون (40 عاماً) التي تسكن في المثنى، كقابلة مأذونة. أشرفت على العديد من الولادات ومنهن ولادات حلا، التي أنجبت أربعة أطفال.  

تقول حلا، إن جدتها توجه النفساء بالـ “الخوية“ في اليوم السابع من الولادة.  

والخوية هي دجاجة محشية بالفلفل والبهارات الحارة مثل الدارسين والكشمش والرز. تُخاط الدجاجة بإتقان وتوضع في القدر، وتدخل النفساء ملفوفة ببطانية ومعها القدر الذي يجب أن يغطي وجهها بالكامل، وإن لم تستطع ذلك، تدفع النسوة رأسها على القدر لتستقبل بخار الدجاجة بوجهها لكي تتعرق، دون ان تتناول شيئاً من الدجاجة، وتعد هذه العملية من الأساسيات التي تطبقها جدتها، من دون أن تعرف حلا سر هذه التقاليد أو فائدتها.

تعتبر الجدات تعرُّق النفساء من خلال الخوية ضرورة وحاجة. إذ يعتقدن أنه يفتح المسام ويُسهل تدفق الدم. تنصح جدة حلا بتناول الأكل الحار طيلة فترة النفاس، وتمنع النفساء من أي طعام أو شراب بارد. أحد الوصفات الشائعة للطعام الحار هي “البحت”، وتعني الرز والحليب المطبوخ.  

العادات والتقاليد لا تتوقف عند الطعام والملبس فقط، فالمرأة في فترة نفاسها ممنوعة من زيارة عروسة جديدة، كي لا تحرمها من الحمل. كما يُحظر على النفساء أن تزور نظيرتها، ولا يجب على العائدة من مجلس عزاء أن تزور نفساء، إذ يؤدي ذلك لـ”جبس” الطفل؛ لا حلا ولا أخريات في مُحيطها يعرفن ما معنى “الجبس” لكنها لطالما تصورته أمراً خطيراً ومُخيفاً.  

التأرجح بين الطب والموروث الشعبي

توضح مروة الحبيب، أخصائية نسائية وتوليد في محافظة ذي قار، أن لا صحة للتقاليد المتوارثة من الناحية العلمية. إذ لا تحتاج المرأة بعد الولادة سِوى للراحة والالتزام بنظام غذائي صحي، والتشجيع على الرضاعة الطبيعية ومُعالجة مضاعفات ما بعد الولادة. إذ قد تُصاب الأم بالنزف، والتهاب المجاري البولية، والخثرة الرئوية، والتهاب الثدي، إلى جانب التأثر نفسياً. وتنصح الحبيب بتناول الفيتامينات والمقويات لمساعدة الأم على التعافي.  

تُعرَّف منظمة الصحة العالمية فترة ما بعد الولادة بأنها الفترة التي تبدأ بعد ولادة الطفل مباشرةً وتستمر حتى ستة أسابيع (42 يوماً)، وتعدها “فترة حرجة لضمان بقاء المولود والأم على قيد الحياة ودعم النماء الصحي للطفل، فضلا عن سلامة الأم وتعافيها إجمالاً من الناحيتين البدنية والنفسية”. فيما ذهب الأهل والتقاليد لوصف هذه الفترة بـ”قبر” النفساء المفتوح لأربعين يوماً، للدلالة على الأعراض والأمراض التي قد تصيب الأم الجديدة بعد الولادة، وكونها مُعرضة للخطر (وللموت أحياناً) لمدة أربعين يوماً.  

تعتقد الطبيبة اسان النيازي، استشارية النسائية والتوليد ومديرة مستشفى العلوية، أن عبارة “قبر النساء مفتوح” صحيحة، فمثلاً تذكر أن الخثرة (الجلطة) الدموية في قدم الحامل تُقدّر بحوالي 20 بالمئة، أما بعد الولادة فترتفع النسبة، إلا أن النيازي تختلف مع فرض الملابس الثقيلة على النفساء وعدم الحركة، إذ أن هذه الظروف تُعيق تدفق الدم بسلاسة. وتوضح، أن على النفساء ارتداء ملابس خفيفة تسمح لها بالحركة، وتُسهل عليها رضاعة المولود، كما تؤكد على أهمية العناية بنظافة الثدي وتبديل الفوط الصحية أكثر من مرة خلال اليوم الواحد.  

توجه النيازي بأهمية استحمام النفساء فور انتهاء الولادة، لتنظيف نفسها ومنعاً لتكوين بيئة مناسبة للأمراض، على عكس ما توجه به العادات بمنع الاستحمام حتى اليوم السابع، إذ يمكن أن تُعرض المرأة لالتهابات الحوض. كما تمنع النيازي النفساء من المعاشرة الزوجية طول فترة النفاس، وهو أمر تتفق معه التقاليد أيضاً، وأي سلوك مُخالف قد يُسبب الاكتئاب والخثرة الدموية، وفقاً لها.  

صراع الأجيال

لم تستطع نجلاء أحمد (29 عاماً)، الحاصلة على شهادة الماجستير، الوقوف في وجه العادات والتقاليد التي فرضت عليها عزلة صارمة بعد ولادتها. ففي آب وتحت درجات حرارة لا تقِل عن 45 درجة، ولدت طفلها الأول. رغم ظروف الصيف وحرارته القاسية، أجبرتها والدتها على ارتداء ملابس شتوية ثقيلة، مُتمثلة بدشداشة وسروال.

لم ينتهِ الأمر عند الملابس فقط، إذ عانت نجلاء من الإقامة الجبرية، وحُرِمت من الخروج وترك المنزل بعد رحلة طويلة من عذابات الحمل والولادة. بسبب هذه العادات والإجبار، عانت نجلاء من اكتئاب ما بعد الولادة، ورافقتها مشاعر الوحدة والإرهاق، بسبب غياب الدعم النفسي. نفرت نجلاء من طفلها، ورفضت إرضاعه طبيعياً، إذ شعرت بأن مجيئه لحياتها هو سبب بمعاناتها.

أما بسمة أمين (23 عاماً) فرفضت أن تتبع التقاليد. أنجبت بسمة طفلها حديثاً، ورفضت إلحاح أسرتها بارتداء ملابس ثقيلة وجوارب سميكة، وأكدت “أنا مسؤولة عن أي شي يصيرلي أنا وطفلي، ما احتاج غير الراحة، وساعدوني اهتم بالطفل”.

لم تنتظر بسمة كثيراً قبل أن تخرج من المنزل لتُكمل معاملات الولادة وإجازة الأمومة. توضح بسمة أنها قرأت ودرست حاجات الأم بعد الولادة كثيراً خلال فترة حملها، وتعرّفت على سبل الرعاية الجسدية والنفسية اللازمة، مما ساعدها على اتخاذ موقف صارم تجاه الضغوط العائلية للالتزام بالتقاليد.

مريم الفرطوسي، رئيسة منظمة “اليس” لحقوق المرأة والطفل، ترى أن بقاء الأم في المنزل ومنع الاختلاط بالآخرين يُصيبها بالاكتئاب والوحدة، خصوصاً للأمهات الجدد اللاتي بحاجة لدعم نفسي ومُجتمعي. إذ يتسبب البقاء بالمنزل بقلة النشاط البدني وزيادة الوزن، وتصلب المفاصل وآلام في الظهر، ونقص التعرض لأشعة الشمس، مما يُضعِف الجهاز المناعي.  

حتى الآن، تختلف العادات والتقاليد مع الطب والعلم، يتنازع الطرفان على إثبات صحة وسائلهم. تختلف إرشادات التعامل مع الأم الجديدة من مكان لآخر ومن عائلة لأخرى، إذ قد يكون العلم مُتبعاً في أحد المنازل، والعادات مُتبعة في المنزل المجاور. المؤكد أن هناك حاجة مُلحة لفهم الطرق والوسائل الصحيحة للعناية بالأم، لكيلا يسيطر القلق على الأمهات الجدد بعد الولادة، خوفاً من القبر المفتوح لأربعين يوماً، أو من الشياطين التي تخاف سكاكين الأمهات والجدات.  

أنتجت هذه المقالة ضمن سلسلة ملف ”صحة المرأة” الذي أطلقه جمّار

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced