"شريان الاقتصاد"... عن السياسة الأمريكية في تغيير آلية نافذة بيع العملة الأجنبية في العراق
نشر بواسطة: mod1
10-02-2025
 
   
جُمّار-محمد حلو

نافذة بيع العملة الأجنبية ليست مجرد إجراء مالي، بل شريان حياة يحدد الأسعار ويشكل معيشة الأفراد... كيف تتحكم السياسة في الاقتصاد؟ وكيف تلعب السياسة الخارجية الأمريكية دوراً في استقرار الدينار العراقي؟

يمكن اعتبار آلية نافذة بيع العملة الأجنبية في العراق شريان الحياة للاقتصاد العراقي، حيث تؤثر بشكل مباشر على استقرار سعر صرف العملة، وتوافر السلع والخدمات، ومستوى المعيشة للمواطنين.  

ولطالما كانت هذه الآلية عرضة للتغييرات والتطورات، والتي كانت ترتبط غالباً بالتطورات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية. وفي هذا السياق، يبرز دور السياسة الخارجية الأمريكية؛ العامل المؤثر الرئيسي في تشكيل هذه الآلية، خاصة في ظل الظروف السياسية والأمنية التي مر بها العراق خلال العقود الماضية.

نافذة بيع العملة الأجنبية… سياق تاريخي  

يعدُّ احتياطي العملة الأجنبية للبنك المركزي، والمحتفظ به في المصارف المركزية والسطات النقدية في العالم الأول، بمثابة موجود يستخدم لدعم مطلوبات البنك المركزي، والمتمثلة بالعملة المصدّرة واحتياطي المصارف بالعملة المحلية المودعة لديه، بما في ذلك ودائع الحكومة، وودائع المؤسسات المالية الأخرى تحت عهدة السلطة النقدية.  

وعلى هذا الأساس، كان انفتاح البنك المركزي العراقي على النظام المالي الدولي والاندماج فيه واحداً من بين أهم التحديات التي واجهتها السياسة النقدية منذ عام 2003، بعد رفع الحصار الاقتصادي المباشر وتحرير الأرصدة العراقية المجمدة في المصارف العالمية، للبدء في إعادة بناء احتياطي البنك المركزي من العملة الأجنبية التي تمثل غطاء للعملة المحلية ومصدر استقرار للدينار العراقي عبر استقرار سعر الصرف.  

وفي المرحلة التي بدأت منذ عام 2004 والمتمثّلة بصدور قانون البنك المركزي العراقي رقم (56)، انفصلت موارد الحكومة المركزية بالعملة الأجنبية عن الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي العراقي، وجعلت ممارسة وظيفة بنك الدولة في ظل الاستقلالية، من إيرادات الحكومة بالعملة الأجنبية في حساب (DFI) الذي تمثل عائداته إيرادات مباشرة للموازنة العامة، إذ تقوم الحكومة باستبدال دولاراتها بالدينار المنتج في البنك المركزي كونه سلطة الإصدار النقدي. إن هذه المبادلة تتم لأغراض سد النفقات المحلية بالدينار العراقي، وإن الدولار المتحصّل لقاء هذه العملية يمثل تراكم الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي العراقي.  

مهمة النافذة، وسط هذا كلّه، بسيطة ولا تتجاوز إيصال العملة الأجنبية من مصدرها الحكومي الوحيد، إلى السوق بسعر يعينه البنك المركزي. ومن الممكن أداء هذه الوظيفة بسهولة وسلاسة، لكنّ طلب المصارف وزبائنهم أوسع بكثير من المتعارف عليه في التعليمات وثقافة العمل، من هنا فُتح الباب الأول لتزوير الفواتير، وللمعلومات المغشوشة، وتهرُّب التُجار والمستثمرين من الضرائب أو التستُّر على ثرواتهم. ساهمت في ذلك، المقاطعة الأمريكية لإيران وحلفائها في إطار نزاع مستمر بينهم منذ أكثر من أربعة عقود. وإزاء هذا الاختلاط في نشاط تمويل التجارة الخارجية للقطاع الخاص، بظاهرة هروب رأس المال والتمويل غير التجاري، والتي تلتصق بتحركات الحساب المالي لميزان المدفوعات وهي غير قانونية، ذهب البنك المركزي العراقي وبالاتفاق مع مجتمع الامتثال الدولي، إلى اعتماد منصة الامتثال أو ما يعرف باسم (المنصة الإلكترونية).

وكان هدف هذا الاعتماد هو تدقيق التحركات المالية المتعلقة بتمويل التجارة الخارجية للقطاع الخاص، من خلال فحص تحركات الحوالات الخارجية وتدقيقها، إذ تشّكل تلك الحوالات 90 بالمئة من الطلب على النقد الأجنبي والتي تنصبُّ عبر الاعتمادات المستندية المباشرة بالنقد الأجنبي.  

ومع تفعيل نظام المنصة الإلكترونية، بلغت مبيعات العملة الأجنبية لدى البنك المركزي العراقي 56,103 مليار دولار عام 2023، ومن ثمّ ارتفعت إلى 80,969 مليار دولار عام 2024 بارتفاع بلغت نسبته 44 بالمئة مقارنة مع مبيعات عام 2023 وهي أعلى قيمة مبيعات في تاريخ البنك المركزي العراقي. وتعدُّ هذه المبيعات منطقية إذا نظرنا إليها من زاوية طبيعة النظام الاقتصادي في العراق، لأن 90 بالمئة من الإيرادات تأتي من بيع النفط العراقي بالدولار الأمريكي. وفي المقابل، تحسب معظم النفقات بالدينار العراقي، وكلما ارتفعت قيمة النفقات التشغيلية والاستثمارية للحكومة العراقية، تولّد ضغطً على نافذة بيع العملة الأجنبية لتوفير الدينار للحكومة المركزية. ولا بدّ من الإشارة إلى أن إجمالي النفقات العامة في الموازنة الاتحادية لعام 2024 بلغت 212 ترليون دينار وهي الموازنة الأكبر في تاريخ العراق.  

آلية جديدة … تعزيز الأرصدة الأجنبية في الخارج  

بحلول عام 2025 أعلن البنك المركزي العراقي في بيان رسمي نشره على موقع البنك، نجاحه بالالتزام في برنامجه المتعلّق بالانتقال من التحويلات الخارجية بالدولار الأمريكي عبر المنصة الإلكترونية إلى عمل المصارف العراقية من خلال بنوكها المراسلة. وتابع بيان البنك القول إن “منهجية التحويلات الجديدة تأتي اتساقاً مع الممارسات الدولية المتّبعة في هذا المجال، والتي تفصل بين واجبات البنك المركزي والتزامات ومسؤوليات ودور المصارف التجارية”.  

وأشار البنك في بيانه، إلى استمراره بتعزيز أرصدة المصارف لدى بنوكها المراسلة بالدولار الأمريكي إلى جانب مجموعة من العملات الأخرى، مثل (الروبية الهندية، واليوان الصيني، واليورو، والدرهم الإماراتي، والريال السعودي، والدينار الأردني).  

جاء الإعلان عن الآلية الجديدة بعد زيارة وفد البنك المركزي العراقي إلى العاصمة الأمريكية واشنطن في شهر أيلول من عام 2024، للتباحث بشأن آلية نقل الأموال بين المصارف العراقية والخارج، لتلافي عقوبات أمريكية إضافية يكون انعكاسها أكبر على الاقتصاد العراقي.  

وأعلن البنك المركزي العراقي في أيلول من عام 2024، أن اللقاءات تمخّضت عن اتفاق مع شركائه الدوليين- سيرى النور نهاية عام 2024- بشأن إنهاء عمل المنصة الإلكترونية للتحويلات الخارجية، واستبدالها بالعلاقات المصرفية المباشرة بمشاركة 13 مصرفاً عراقياً وذلك “في خطوة مهمة تهدف إلى تعزيز تنوع العملات وتسهيل عمليات التحويل الخارجي”.  

جاء التحوّل في عمل نافذة بيع العملة الأجنبية بعد مجموعة من العقوبات الأمريكية التي طالت النظام المصرفي العراقي، نتيجة عدم الالتزام من جانب المصارف العراقية باللوائح التنظيمية وإجراءات الامتثال. وهو ما دفع الفيدرالي الأمريكي إلى فرض العقوبات وتشديد الإجراءات على عملية تحويل الدولار في العراق، والتي نتج عنها في نهاية المطاف آلية جديدة لعمل نافذة بيع العملة الأجنبية من خلال تعزيز أرصدة المصارف بالعملة الأجنبية (FX replenish) بما يساعد على تمويل التجارة الخارجية للقطاع الخاص، وذلك من خلال فتح المصارف العراقية حسابات لدى مراسليهم الأجانب.  

ولا بدّ من الإشارة إلى أن آلية تعزيز الأرصدة بالعملة الأجنبية هي أيضاً نافذة بيع عملة، وسياسة تدخل في سوق النقد لكن بصورة غير مباشرة، إلا أنها تمثّل نقطة إيجابية في تمويل التجارة الخارجية للقطاع الخاص عن طريق فتح الاعتمادات المستندية بشكل أو بآخر. وهو ما يعني التخلّص من غموض ظاهرة التحويلات عبر نافذة بيع العملة الأجنبية التي كانت تخضع لمنصة الامتثال، إذ كان جزء من هذه التحويلات غير تجاري أو غير مصرح به قانوناً.  

كما أن آلية التعزيز بالعملة الأجنبية لسدّ احتياجات المصارف الوطنية من النقد الأجنبي من خلال مراسليهم في المصارف الخارجية، ستوفر انضباطاً وحوكمة عالية بالتصرّف بالعملات الأجنبية. وهو ما ينعكس إيجابياً على الاقتصادي العراقي، بالصورة التي لا تتقاطع مع المعايير الدولية في موضوع مكافحة غسيل الأموال والتصدي للنشاطات غير القانونية عبر المصارف.  

رجل العقوبات الأول… من جديد في البيت الأبيض  

حُسمت الانتخابات الأمريكية لصالح الجمهوري دونالد ترامب، والذي أصبح رئيساً فعلياً للولايات المتحدة في العشرين من كانون الثاني، عائداً إلى البيت الأبيض ومكتبه البيضاوي.

ومع وصول ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، شهد نفوذ طهران في المنطقة تراجعاً ملحوظاً بعد أحداث السابع من أكتوبر عام 2023، والتي شهدت تصعيداً كبيراً في الصراع بين إسرائيل وإيران، ولهذا التراجع تداعيات واسعة النطاق على الديناميكيات الإقليمية، وعلى دور إيران بوصفها قوة إقليمية مؤثرة. وفي المقابل شهدت المنطقة صعود قوى إقليمية أخرى، مثل تركيا والسعودية والإمارات، ما جعل من النفوذ الإيراني أقلّ حصريّة.

من المرجح -إذا لم ينجح بالتوصل لاتفاق معها- أن يعاود ترامب إحياء استراتيجيته تجاه إيران، عبر فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تجبر طهران على الخضوع، والتي تسبّبت خلال فترة ولايته الأولى في أضرار اقتصادية شديدة لإيران، وأدّت إلى انخفاض صادراتها النفطية إلى جزء بسيط من مستوياتها التي كانت عليها ما قبل العقوبات. وارتفعت معدّلات التضخّم، وزادت نسبة البطالة، كما تراجع الاستثمار الأجنبي، وهو ما ترك إيران معزولة عن الساحة العالمية.

ومن المتوقّع أن يعيد فريق ترامب تبني هذه الاستراتيجية، مع التركيز مرة أخرى على صادرات النفط الإيرانية، لكن التحدي هذه المرة يتفاقم بسبب الدور الحاسم للصين، التي تواصل استيراد النفط الإيراني  رغم العقوبات الأمريكية.

ليس العراق بمعزل عن التأثّر بالعقوبات الأمريكية المحتملة على طهران، فقد تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة إلى منع إيران من استعمال العراق لتهريب النفط، واستغلال النظام المصرفي والمالي العراقي لتهريب الدولار الأمريكي، بالإضافة إلى السلاح الذي يكتنزه أصدقاء إيران في العراق (الفصائل المسلّحة التي باتت تعتبر هدفاً محتملاً لإسرائيل والولايات المتحدة بعد نجاحهما في كسر حزب الله الذراع الإيرانية الأقوى، واستنفاد الجزء الأكبر من قوة حركة حماس في قطاع غزة، وبعد التغيير السريع الذي عاشته سوريا بسقوط حليف إيران بشار الأسد وخروج ميليشياتها من سوريا، وانقطاع التواصل البري مع لبنان)، وسيطرة مجموعات راديكالية مناهضة لإيران وقريبة من تركيا على الحكم في دمشق.

عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تضع الحكومة العراقية أمام تحدٍّ كبيرٍ يتمثل في انبثاق الحكومة العراقية عن أحزاب وتيارات تهتّم إما بمصالحها المباشرة، أو تأخذ في عين الاعتبار علاقاتها الخارجية أكثر من كونها تتبنى فكرة الدولة العراقية الجامعة.  

وفي هذا السياق، اّتخذت الحكومة العراقية إجراءات احترازية تحسباً لتداعيات أي عقوبات قد يفرضها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب على إيران، خاصة فيما يتعلق بالملفات المشتركة، إذ تتضمن حزمة العقوبات الأمريكية الجديدة على إيران منع تجديد استثناء العراق من استيراد الغاز الإيراني، حيث عملت الحكومة العراقية على فتح قنوات لاستيراد الغاز من تركمانستان، في خطوة تهدف إلى تقليل الاعتماد على الغاز الإيراني الذي يسدّ 40 بالمئة من احتياجاته لإنتاج الكهرباء.

أما الإجراء الاحترازي الآخر التي اتخذته بغداد، فيتمثل في تغيير آلية نافذة بيع العملة الأجنبية، فالآلية القديمة لم تكن تخضع لمتطلبات الامتثال الدولية، ولا لإجراءات مكافحة غسيل الأموال. وهو ما جعل الكثير من الدولارات تذهب باتجاهات لم يكن ينبغي لها  الذهاب إليها، ومنها إيران، وذلك من خلال قيام العديد من المصارف العراقية باستغلال الآلية القديمة لتهريب الدولار إلى الخارج.

تتم هذه العمليات عبر تقديم وثائق استيراد مزوّرة، أو مبالغٍ فيها، للحصول على كميات كبيرة من العملة الأجنبية، ما أسهم في تمويل أنشطة غير مشروعة، فتم استبدال الآلية القديمة والاستعانة بالمصارف المراسلة ذات السمعة القيِّمة، لمنع عمليات غسل الأموال.  

عندما وصل ترامب إلى السلطة عام 2017، ضغطت الإدارة الأمريكية على العراق للالتزام بالعقوبات المفروضة على إيران، بما في ذلك مراقبة تدفق الدولار عبر المصارف المحلية لمنع تهريبه إلى إيران. وهو ما أثّر على الاقتصاد العراقي، الذي كان يعتمد على التعاملات المالية مع إيران، خصوصاً في مجال الطاقة. ومن المتوقّع أن تعود الإدارة الأمريكية الجديدة/ القديمة لتفرضه على العراق بصورة أكبر، نتيجة التغيرات السياسة التي حدثت في المنطقة.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced