الصم والبكم في العراق: الإهمال والعزلة ومعضلة اللغة 
نشر بواسطة: mod1
13-02-2025
 
   
جُمّار-إسراء   طارق

يعيش مجتمع "الصم والبكم" في العراق عزلة تامة، وسط معاناة من الإهمال وعدم توفير التسهيلات لجوانب الحياة اليومية، وأهمها صعوبة التواصل مع الآخرين في المجتمع ومؤسسات الدولة من خلال اللغة، التي بالكاد يجدون أحداً يجيد التواصل فيها معهم، ولو بالحدّ الأدنى... مقال عن التواصل وكيف يصبح تحدياً يومياً..

“فوك مماخذ بنت الأطرم”. استهلّت براء عماد (21 عاماً) حديثها مع جمّار بهذه العبارة، عندما بدأت الكلام عن معاناة أبناء مجتمع الصمّ والبكم في العراق. وكانت هذه الجملة صادرة عن خطيبها السابق، فتسببت في فسخ خطوبتها عنه.

براء هي البنت الكبرى لعماد محمد، الذي وُلد في سبعينيات القرن الماضي من فئة الصمّ والبكم في بغداد،  يعمل حداداً، وهو أب لثلاث بنات، وولد أصمّ.

تقول براء إنّها ممتنّة لكون إعاقة والدها إعاقة سمعيّة، وإلا لكانت العائلة ستسمع مختلف أنواع التنمّر والكلمات البذيئة بحق أفرادها.

تتذكر براء قبل أربع سنوات، عندما كانت في المحكمة برفقة والدها وخطيبها لإكمال إجراءات عقد الزواج، الذي تطلّب حضور والدها، حينها طلب القاضي حضور “وصيّ” على والدها، الذي هو بالأساس وصيٌّ عليها، كما طلب تقارير طبية تثبت سلامة صحته العقلية، ليتمكّن من تزويج ابنته.

بسبب الإجراءات والمراجعات المستمرة تقول، شعرت بتذمر خطيبي، وسمعته يحادث والدته، “فوك مماخذ بنت الأطرم؛ أفسخ خطبتي أحسن”، لترد والدته، “أزوجك أغاتها لبنت الأطرش”، “كان هذا الحوار كفيلاً باسترجاع شريط طفولتي، وتذكر التنمّر الذي تعرضت له من قبل طلاب المدرسة، وكانت هذه الحادثة الحافز الأساسي لدخولي كلية القانون”.

المؤسسات الصحية تهمّش المجتمع الصامت

أم آدم (25 عاماً)، من فئة الصمّ والبكم، زوجة وأمّ حالياً، تتحدّث بلغتها الصامتة عن موقف مرّت به في مستشفى اليرموك التعليمي مطلع العام الجاري عندما كانت حاملاً في طفلها الأوّل، واضطرّت إلى الذهاب للمستشفى بمفردها، بعد إحساسها بأوجاع لم تستطيع احتمالها.

دخلت المستشفى، ولم تجد مترجم لغة إشارة، ولا حتى مَن يمكنها التفاهم معه، وبعد محاولات فاشلة لشرح وضعها للطبيبة بأنها تعاني مشكلة في القلب تمنعها من تناول بعض الأدوية التي تتعارض مع حالتها الصحية، صرفت الطبيبة علاجاً وريدياً لها دون الوقوف على المشكلة الحقيقية، ولم تستطع التواصل معها كتابياً لأنها لم تتلقَّ أي تعليم.

وبعد عودتها إلى المنزل ذهبت مساء اليوم نفسه برفقة زوجها، الذي اعتادت الخروج معه إلى طبيبتها للاطمئنان على وضعها ووضع جنينها، فتمكّنت من تلافي الخطأ العلاجي الذي كاد أن يودي بها إلى فقدان جنينها.

أم آدم ليست حالة فردية، وإنما هي حالة تعكس واقع المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية جميعها، وكذلك الخاصة. لا يقتصر التهميش على غياب مترجمي لغة الإشارة، بل يصل أقصى درجاته من خلال افتراض الجهات الصحية أن مدة صلاحية السماعات التي تزوّد بها الأشخاص الصمّ خمس سنوات، ولا يمكن استبدال السمّاعة أو القوقعة المزروعة قبل انقضاء هذه المدة، حتى وإن تعرّضت للتلف أو كانت بحاجة إلى صيانة؛ ما يهدم حلم أفراد مجتمع الصم بالقدرة على السمع، بحسب قول عماد محمد.

المستشفيات ليست الأماكن الوحيدة التي تفتقر لمترجمي لغة الإشارة، بل حتى المحاكم وكتاب العدول أيضاً. وهذا ما أكده مصطفى ميران، مترجم ومذيع لغة الإشارة لدى شبكة الإعلام العراقي.

ذكر ميران لجمّار، أنّه اقترح في اجتماع له مع القاضي فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، تخصيص مترجم لغة إشارة في كل محكمة لمساعدة الأشخاص الصمّ، أو تدريب الموظفين على كيفية التعامل معهم باستخدام لغة الإشارة، إلّا أن زيدان بيّن له أن ذلك غير ممكن. ونوّه، بحسب ميران، أن المجلس بصدد إصدار كتاب تسهيل مهمة لمترجمي لغة الإشارة، ليسهّل عليهم المراجعات داخل المحاكم ومكاتب الكتاب العدول.

ذكرى عبد الكريم، رئيسة هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، وهي إحدى تشكيلات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ذكرت لجمّار أن المحاكم العراقية قد تستعين بمترجم لغة إشارة معتمد من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، في القضايا التي يكون أحد أطرافها من فئة الصمّ والبكم.  

التعليم لمجتمع الصم والبكم

منذ الصغر نقرأ على واجهات المدارس، “العلم نور والجهل ظلام”، إلا أن المؤسسات التعليمية نورها ضئيل لا يشمل فئة الصمّ والبكم، التي عانت ضعف التعليم المخصص لها، حيث لا يتم قبول الأفراد الصمّ في المدارس العادية لصعوبة تخصيص صف منعزل لهم داخل كل مدرسة. بالإضافة إلى ضعف إمكانية توفير معلم لغة إشارة، لا سيما أن معلمي معاهد الصمّ والبكم يجب أن يكونوا خريجي إحدى كليات التربية، ويجيدون لغة الإشارة، ولديهم شهادات من دورات تدريبية خاصة بتعلم لغة الإشارة، ومعرفة بقاموس هذه اللغة، كما يجب إخضاعهم لاختبار من قبل هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، تؤهلهم لشغل وظيفة معلم لغة إشارة.

في العراق لا يوجد قسم جامعي مختص بتعليم لغة الإشارة، وبحسب القائمين على معهد الأمل للصمّ والبكم في الصويرة، بمحافظة واسط، فإنّ عدد المعاهد الحكومية الخاصة بتعليم الصم والبكم في العراق 25 معهداً فقط.

حلم الشهادة الجامعية ما يزال صعب المنال بالنسبة لفئة الصمّ والبكم داخل العراق، فعلى الرغم من عدم وجود قانون يمنع الصمّ والبكم من إكمال تعليمهم الجامعي؛ إلّا أن العائق أمامهم هو إكمالهم للدراسة الثانوية واجتيازهم الامتحانات الوزارية، لاقتصار التعليم على المرحلة الابتدائية غالباً. وما يتاح من بيانات لدى جهاز الإحصاء المركزي يعود لعام 2020، عن عدد الأشخاص المستفيدين في دور ذوي الاحتياجات الخاصة، ممن لديهم اضطراب وصعوبة في التكلّم والسمع: 487 شخصاً، 133 من الإناث، و354 من الذكور.

بحسب سامر العاني، مسؤول لجنة الإرشاد في جمعيّة “أنوار الفلوجة” لرعاية الصم والبكم، فإن قلّة المخصصات المالية أسهمت في نقص معلمي لغة الإشارة في العراق، فأعدادهم لا تسدّ سوى حاجة 20 بالمئة من مجمل احتياج مجتمع الصمّ والبكم، ويرتكز وجود أغلبهم في المحافظات الوسطى والجنوبية.

نقل صلاحيات معاهد الصم والبكم من وزارة العمل إلى مجالس المحافظات، ومن ثمَّ إعادتها إلى وزارة العمل مرة أخرى أثّر بشكل سلبي على الخدمات المقدمة لهذه الفئة، بحسب ذكرى عبد الكريم، رئيس هيئة حقوق ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة، التي أكدت لجمّار أن “المعاهد لم يتم تسليمها إلى الوزارة لغاية الآن”، ومن المقرّر أن تُستَردّ مطلع العام المقبل لتتمكن الهيئة من تنفيذ خطط عملها ضمن تلك المعاهد.

أمّا وسائل الترفيه الخاصة بمجتمع الصم والبكم، فتقتصر على ترجمة نشرة الأخبار الرئيسية التي تبث عبر شبكة الإعلام العراقي إلى لغة الإشارة، ولكنها تغيب عن سائر البرامج المتلفزة.

وفي هذا السياق ذكر مصطفى ميران أن أغلب المترجمين يستثمرون منصات التواصل الاجتماعي لترجمة البرامج، ونشر ما يحدث في العالم الخارجي لهذه الشريحة، وأن عملهم هذا بصورة طوعية.

الإعاقة لا تعني اليأس

النظرة المجتمعية للأشخاص ذوي الإعاقة أنهم أشخاص غير منتجين وغير فاعلين في المجتمع، إلا أنّ العكس هو الصحيح. فغالبيتهم يتمتعون بإمكانيات ممتازة، ولا سيما ذوي الإعاقة السمعية أو صعوبة التواصل؛ أي مجتمع الصمّ والبكم، هذا ما ذكره مصطفى ميران، وكانت مروة أحمد (43 عاماً) نموذجاً على ذلك.

مروة، زوجة وأم لطفلين بلا إعاقة سمعية، تسكن في بغداد. اتخذت من إعاقتها بداية لانطلاقتها في الحياة، حيث تمكّنت من تحدي الظروف المحيطة بها، وكانت والدتها داعمتها الدائمة.

التحقت مروة بمعهد الازدهار للصمّ والبكم في منطقة الأعظمية ببغداد، وتعلمت لغة الإشارة، ثم تعلمت الكتابة والقراءة رغم بساطة وسائل الإيضاح المستخدمة آنذاك، والمطالبة المستمرة بجمع التبرعات من ذوي الطلبة والمعلمات.

انخرطت مروة في مجال منظمات المجتمع المدني عام 2015، وكانت هذه نقطة التحوّل في حياتها، حيث اكتسبت ثقة إضافية بنفسها، وأصبحت تسافر بمفردها لحضور اجتماعات وفعاليات دولية.  

تروي مروة لجمّار، قصة حدثت معها في مطار بغداد الدولي، عندما كانت في طريقها للسفر لحضور اجتماع في جنيف، عندما تغيّر موعد الرحلة، ولم يوجد في المطار إشارات تنبّه الأشخاص الصمّ ولا حتى مترجمي لغة إشارة يمكن الاستعانة بهم، ما أدى إلى تفويتها موعد الرحلة.

حاولت التواصل مع موظفي المطار لتسأل عن موعد الرحلة القادمة وإمكانية حجز تذكرة أخرى، إلّا أنّها لم تجد أحداً يجيد لغتها، ما أجبرها على الاتصال بمترجم لغة إشارة عبر خاصية (الفيديو كول) ليكون حلقة الوصل بينها وبين موظفي المطار.  

تقول مروة، إنّها لم تختبر هذه المعاناةفي أيٍّ من مطارات دول العالم، حيث يوجد طريق مخصص للأشخاص ذوي الإعاقة، “هناك تسخير للتكنلوجيا لتسهيل حياتنا وتذليل العوائق أمامنا على عكس ما نمر به في بلدنا”.

الصمّ والبكم خارج حسابات الإحصاء والقانون

بحسب هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد مجتمع الصم والبكم في العراق، لكنّ جهاز الإحصاء المركزي، يذكر أن عددهم أكثر من 272 ألف نسمة.

كذلك الحال بالنسبة لإحصائيات معلمي ومترجمي لغة الإشارة، لا توجد إحصائيات رسمية لدى هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، عن عدد مترجمي لغة الإشارة، بل هناك تقديرات وضعها مترجمي لغة الإشارة بأنفسهم، والتقدير أن عددهم لا يتجاوز المئة مترجم ومترجمة ضمن القوائم الرسمية في عموم البلاد.

بالرغم من أن العراق يُعدّ من الدول التي أقرّت تشريعات لحماية حقوق ذوي الإعاقة ومن بينهم الصم والبكم، إلا أن تنفيذها يواجه تحدياتٍ كبيرة.

القانون رقم 11 لسنة 2024، وهو التعديل الأول لقانون حقوق الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنة 2013، ينصّ على منحهم حقوقاً متساوية في التعليم، والعمل، والرعاية الصحية، وتأمين مترجمين مختصين بلغة الإشارة في مختلف المؤسسات.  

ومع ذلك، ما تزال الفجوة بين النصوص القانونية وتطبيقها على أرض الواقع واضحة، وهذا ما أكدته بشرى العبيدي، الخبيرة القانونية، “هناك فرق بين ما مكتوب على الورق وما موجود على أرض الواقع”، وذكرت لجمّار، أن العراق عضو في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وفق القانون رقم (16) لسنة 2012.

تقول العبيدي إنّ الحكومات المتعاقبة لا تولي اهتماماً لحقوق الإنسان بصورة عامة، ولا تبالي لحقوق ذوي الإعاقة، على عكس الدول الأخرى التي تحترم حقوقهم في توفير طرق مخصصة لهم، وحتى ممرات عبور الإشارات الضوئية، وتسخير التقدم التكنلوجي لتيسير حياة الأشخاص من ذوي الاعاقة.

وأضافت أن موانع المسؤولية في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، يحدد خمسة موانع من المسؤولية ومن بينها المؤثرات العقلية وذوي الاضطراب العقلي، ومن ضمن ذوي “الاضطراب العقلي” هم مجتمع الصم والبكم، الذين لم يتلقوا تعليماً لرفع درجة أهليتهم، لذا يجب أن يجلبوا ما يثبت أن الإعاقة لم تؤثّر على الإدراك، ويجب أن يخضعوا لفحص يثبت صحة سلامتهم العقلية في الإجراءات والمعاملات الرسمية.

وعن حلمهم بتخصيص “كوتا” لهم في البرلمان ومجالس المحافظات، واتخاذ القرار السياسي، أوضحت العبيدي أنّ بإمكان ذوي الإعاقة، الضغط للحصول على تمثيل لهم داخل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced