عاشت إيمان قصة حب استمرت تسع سنوات، كانت تظن أنها ستنتهي بالزواج بعد أن وضعت ثقتها في رجل أوهمها بالارتباط، إلا أنه في كل مرة كان يؤجل خطوة الزواج بحجج مختلفة، لكنها لم تتوقع أن ينتهي الأمر بإنكار ابنتها التي ولدت قبل ثلاث سنوات.
ظنت إيمان (30 سنة) أن الحمل سيجعل الأب يفي بوعده، لكنه طلب منها الإجهاض، وحين رفضت تخلى عنها، وتحولت سنوات العلاقة إلى قطيعة تامة.
وأصبحت إيمان وحيدة تواجه نظرات المجتمع.
لم تكن المعركة فقط في تأمين حياة لطفلتها، بل في إثبات حقها في هوية قانونية، وهو أمر بدا شبه مستحيل. بحسب حديثها لموقع "الحرة".
"تحرمت من دارنا نهائيا"، هكذا تحكي إيمان بصوت مكسور وهي تستعيد كيف تبرأت عائلتها منها ورأت فيها "مصدر عار" بعد أن نشر والد الطفلة صورها بين إخوتها، فأصبحت بلا سند وبلا منزل تأوي إليه.
وتقول: "لم يبق لي سوى طفلتي التي أصبحت عالمي الوحيد وأكبر تحد في حياتي إذ لم أسجلها باسم والدها وأضمن حقها الطبيعي في الهوية".
"كيقولو ليا سيري هنا وسيري هنا، وفي الآخر والو"، تروي إيمان عن متاهة الإدارات والمحاكم التي علّقت أملها في تحقيق العدالة وهي تحاول إثبات نسب ابنتها.
وتشير إلى أن والد الطفلة رفض الاعتراف بها لكنه أراد انتزاعها لتربيها والدته. وبينما تشتغل اليوم كعاملة نظافة لتعيل ابنتها، تواصل إيمان معركتها لأجل ابنتها بين مجتمع يحكم عليها وقانون يعجز عن إنصافها.
"ضحية خداع"
إيمان ليست الوحيدة التي تعاني من إنكار نسب مولودها، فكوثر (36 سنة) تواجه المصير نفسه، وهي أم لابنة في الرابعة من عمرها، تكشف قصتها عن ثغرات قانونية تترك الأمهات العازبات في مواجهة مصير مجهول بينما يظل الآباء بلا مساءلة.
ورغم اختلاف التفاصيل يبقى الألم واحدا: إنكار الأب، ورفض القانون، ونظرة المجتمع القاسية.
وتروي كوثر قصتها لموقع "الحرة"، قائلة "تعرفت على رجل تقدم لخطبتي بوساطة الجيران، وبعد فترة قصيرة من اللقاءات أقنعني بزيارة عائلته. لكنني وجدت نفسي وحيدة معه بالمنزل، حيث استغل ثقتي وفرض علي علاقة، ورغم محاولتي نهيه إلا أنني وجدت نفسي ضحية خداعه ليختفي لاحقا بعد معرفته بحملي، وتركني لمواجهة مصيري بمفردي".
عانت كوثر وهي يتيمة الأب من رفض أسرتها، خاصة شقيقها الذي قاطعها، حتى أنها طردت من المنزل لفترة ولم يسمح لها بالعودة إلا بعد تدخل الجيران وتحملت والدتها مسؤولية دعمها خلال الحمل، لكنها بقيت تعاني وحدها بينما ظل الأب يرفض الاعتراف بابنته أو تحمل أي مسؤولية.
رفعت كوثر دعوى إثبات النسب، لكنها لا تزال تنتظر العدالة رغم أنها تعيش في ظروف صعبة، تعمل في شركة للتغليف لكسب لقمة العيش، وتعاني نفسيا حتى أصبحت تتناول أدوية الأعصاب. حلمها الوحيد هو أن تحصل ابنتها على حقها في الاسم والهوية، وألا تبقى الأمهات العازبات وحدهن في مواجهة مجتمع وقوانين لا تنصفهن.
"اعتراف شفوي"
مريم (44 سنة)، عاشت علاقة امتدت لأكثر من عقد مع رجل دون زواج رسمي، وكانت تأمل أن يتخذ خطوة جدية لإضفاء الشرعية على علاقتهما.
في عام 2017، أنجبت ابنهما الذي يبلغ اليوم ثماني سنوات، لكن القدر لم يمهلهما لتصحيح الوضع، حيث توفي الأب العام الماضي دون أن يقوم بإجراءات تسجيل ابنه رسميا، ليجد الطفل نفسه بلا هوية قانونية.
وعلى خلاف قصة إيمان وكوثر، وجدت مريم دعما من والديها حيث احتضناها وطفلها ولم يتخلوا عنها، إلا أن مشكلتها الأساسية اليوم ليست اجتماعية بقدر ما هي قانونية، إذ لم تستطع تسجيل ابنها باسم والده في الحالة المدنية، رغم أن عائلة الأب تعترف به. لكن الاعتراف الشفوي لا يكفي أمام القانون، ما جعل الطفل محروما من أبسط حقوقه.
وتضيف مريم، في حديثها لموقع "الحرة"، أن الأب كان يعترف بابنه ويتردد على منزلها بشكل علني، لكن غياب الوثائق الرسمية جعله غير موجود قانونيا..".
وبعد وفاة الوالد، وجدت مريم نفسها عاجزة عن تسجيل طفلها، خاصة أن المدرسة والمسؤولين باتوا يطالبونها بشهادة الولادة، مما يهدد مستقبل الطفل الدراسي والاجتماعي.
اليوم، تسعى مريم بمساعدة عائلة الأب الراحل، إلى الحصول على شهادة لإثبات نسب طفلها، وتأمل أن يتمكن القانون من إنصافه.
لكنها لا تزال تخشى أن تصطدم بإجراءات معقدة تحرم طفلها من حقه في الاسم والهوية. وأملها أن يعيش ابنها حياة طبيعية دون أن يحاسب على ظروف لم يكن له يد فيها.
"ظلم للأطفال"
وفي سياق هذه الشهادات، تثير الخبرة الجينية (فحص الحمض النووي لإثبات النسب) نقاشا واسعا في المغرب خاصة بعد أن رفض المجلس العلمي الأعلى اعتمادها لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج.
وتنتقد رئيسة مركز النجدة لمساعدة النساء ضحايا العنف بالرباط، فاطمة مغناوي، رأي المجلس الشرعي في المضامين الأساسية لمراجعة مدونة الأسرة (قانون الأسرة)، مؤكدة أن ذلك يحرمهم من هويتهم القانونية رغم الاعتراف بحقهم في النفقة.
وتتابع مغناوي حديثها لموقع "الحرة"، مؤكدة أن المصلحة الفضلى للطفل تقتضي ضمان حقوقه في الحماية والرعاية.
وتعتبر أن إعفاء الآباء من مسؤولياتهم ظلم للأطفال. وتستند إلى الدستور المغربي الذي يلزم الدولة بحماية جميع الأطفال، واتفاقية حقوق الطفل التي تنص على حق الطفل في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.
وتشير مغناوي إلى أن الأمهات العازبات يواجهن تحديات قانونية واجتماعية، أبرزها صعوبة تسجيل أطفالهن في المدارس والولوج إلى الخدمات الصحية والحصول على الوثائق الرسمية.
وتضيف أن الأطفال يعانون من التمييز والتهميش، بينما تتحمل الأمهات وحدهن العبء النفسي والمادي. وترى أن عدم الاعتراف بالنسب يزيد من معاناتهن ويؤدي إلى إقصاء اجتماعي لأطفالهن.
وتدعو الناشطة الحقوقية إلى مراجعة القوانين لحماية الأمهات العازبات والاعتراف بالأسر أحادية الوالد، مع تعزيز برامج التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
وأكدت ضرورة اعتماد الخبرة الجينية كوسيلة علمية لإثبات النسب، باعتبارها حقا أساسيا للأطفال، يضمن لهم هوية قانونية ويحميهم من التمييز ويمنحهم فرصا متساوية في المجتمع.
"وصم مجتمعي"
ومن جانبها، توضح الأخصائية النفسية والباحثة في علم النفس الاجتماعي، فدوى المرابطي، في تصريح لموقع "الحرة"، أن النساء يواجهن فراغا قانونيا في إثبات نسب الأطفال المولودين خارج الزواج، سواء بسبب الاغتصاب، أو تخلي الرجل عن العلاقة عند حدوث الحمل، أو الفقر الذي يدفع بعض النساء للبحث عن الاستقرار، ليجدن أنفسهن في مواجهة المسؤولية وحدهن.
وتؤكد المرابطي أن الأطفال المولودين خارج الزواج يعانون من التنمر والوصم الاجتماعي، مما يؤثر على تقديرهم لذاتهم ويدفع بعضهم لسلوكيات خطرة كالإدمان والانحراف.
وقالت: "كما أن غياب الأب يترك فراغا نفسيا يؤدي إلى مشكلات تعليمية وسلوكية، وهو تحد حتى في المجتمعات الغربية، مما يبرز أهمية الاستقرار الأسري لنمو الطفل السليم".
وتبرز المرابطي أن الأمهات العازبات يواجهن معاناة نفسية وتحديات صعبة، مثل النبذ الأسري وصعوبة السكن والوصم المجتمعي، مما يدفع بعضهن للتنقل المستمر.
وتضيف أنهن يعانين من مشكلات قانونية في تسجيل أطفالهن، مما يحرمهم من التعليم والصحة. ورغم ذلك، تبذل العديد منهن جهودا كبيرة لتربية أطفالهن في ظروف قاسية رغم تخلي الآباء عن مسؤولياتهم.
ودعت المرابطي إلى إثبات نسب الأطفال عبر الخبرة الجينية، وإلزام الآباء بالنفقة حتى استقرار الأبناء، مع دعمهم نفسيا في المدارس، وإنشاء مراكز رعاية لتعويض غياب الأب.
وتلفت إلى أن الاجتهاد الفقهي يتيح الاعتراف بنسب هؤلاء الأطفال، ما يستدعي مراجعة القوانين لضمان حقوقهم وحمايتهم من التهميش والحرمان.
فؤاد الفلوس