تمكنت صديقتي من كبت كل القهر الذي سببه له زوجها بإهماله لها وللأولاد، لم يقدر يوماً تعبها، ففي رأيه أن كل ما تقوم به من مسؤوليات هو أحد أقل واجباتها. لم يحمل لها يوماً وردة حمراء ليعبر من خلالها عن حبه لها، فـ”رجولته” لا تسمح له بأن يفرط في التعبير عن تقديره لزوجته التي لا تنام من يومها إلا ساعات قليلة جداً.
“من أول يوم بعد العرس اكتشفت إنو مش مبسوطة بزواجي”… هذا ما قالته لي صديقتي التي تزوجت منذ نحو 29 عاماً، هي التي لطالما اعتقدت أنها تعيش حياة سعيدة ومستقرة، تمكّنها من تحمّل عبء المسؤوليات الكثيرة التي كانت تقع على عاتقها، وكنت كثيراً ما أحسدها على الطاقة الإيجابية الكبيرة التي دائماً ما كانت تظهرها للجميع.
اعتقدت صديقتي أنها وقعت في حب زوجها من النظرة الأولى، الأمر الذي جعلها تتغاضى عن أخطائه الكثيرة واضطراباته النفسية التي كانت واضحة على تصرفاته واهتماماته الحياتية، وقد تزوجته من دون رضا الأهل ظناً منها أن الأيام سترمم علاقته بهم، وسيكتشفون أنه الشخص المناسب لها وأنها ستعيش معه حياة زوجية يسودها الحب والاهتمام والثقة والاحترام، وهي صفات كفيلة بنجاح مشروع زواجها، وتكوين عائلة.
تزوجت صديقي في غياب جميع أفراد عائلتها، الأمر الذي شكل جرحاً كبيراً لم يلتئم مع مرور السنوات، حتى مع عودة العلاقة مع الأهل الى سابق عهدها. إلا أن الحياة تستمر رغم الانكسارات والألم.
أثمر زواج صديقتي ثلاثة أبناء، عملت على تربيتهم بكل تفانٍ، وجهدت لتأمين كل ما يسعدهم ويجعلهم ينمون في جو عائلي صحي يمكنهم من الانطلاق بحرية في هذه الحياة. فنسيت نفسها تماماً، وحُرمت من أمور كثيرة في سبيل تعليم أولادها في أفضل المدارس والجامعات.
أهملت نفسها سنين طويلة، فنادراً ما كانت أظافرها مقلمة وشعرها مسرحاً، لم تمارس الرياضة، لم ترتاد المطاعم، لم تبذّر ولو مبلغاً مهما كان قليلاً في سبيل الاهتمام بنفسها وبمظهرها، ظلمت نفسها لتنصف أولادها وصمّمت على المضي قدماً. نسيت صديقتي أن تفرح، أن تعبر عما في داخلها من تعاسة، تعاسة نابعة من معاملة زوج لا يملك أياً من صفات الرجولة.
نسيت صديقتي أن تتأفف من مساعدة زوجها في تحضير الأكل يومياً، هو الذي كان يملك “سناك صغير” بقي صغيراً جداً كطموحه في هذه الحياة، تهتم في النهار بالأولاد وفي الليل تطهو أشهى المأكولات لتحافظ على زبائن المحل.
الرجولة السامّة وضرورة قول “لا”
تمكنت صديقتي من كبت كل القهر الذي سببه له زوجها بإهماله لها وللأولاد، لم يقدر يوماً تعبها، ففي رأيه أن كل ما تقوم به من مسؤوليات هو أحد أقل واجباتها. لم يحمل لها يوماً وردة حمراء ليعبر من خلالها عن حبه لها، فـ”رجولته” لا تسمح له بأن يفرط في التعبير عن تقديره لزوجته التي لا تنام من يومها إلا ساعات قليلة جداً، لتعود بعدها الى توصيل الأولاد الى المدرسة، من ثم تنظيف المنزل وتحضير الوجبات الغذائية وإتمام كامل الواجبات المنزلية.
لم تكن صديقتي تملك الجرأة لقول “لا”، أو للبوح بصفات زوجها ولا مبالاته ورتابة الحياة التي كانت تعيشها الى جانبه. كانت دائماً تخفي أخطاءه، سجنت تعاستها وراء سور عال لم ترغب يوماً في أن يدخله أحد. اعتقد الجميع أنها تعيش مع رجل مثالي، شهم، كريم، “لا يؤذي نملة”، فيما كانت “رجولته” تفيض بكل ما يؤذي مشاعرها ويقتل داخلها أنوثتها بشكل يومي. دفنت مشاعرها وجعلت أيامها جنازات دائمة، في ظل مجتمع لا يرحم المرأة ويحمّلها المسؤولية في فشل أي زواج.
ارتكبت صديقتي خطأ بحق نفسها وبحق أولادها في آن، عاشوا سوياً التعاسة، لم يشاركوها مع أحد. أخفت صديقتي عيوب زوجها تحت رداء حريري لامع لا يدخل إليه الضوء، أخفت ما كان يجب أن تظهره للمجتمع، فلا تأتي لحظة “الانفجار” الكبير ويلومها الأهل والأصدقاء على قرارها بالتمرّد، بقول الـ”لا”، التي لطالما تمنت قولها.
تمردت، قررت قلب الطاولة، أرادت أن تكون كطائر يرفرف بحرية رغم جناحيها المكسورين، رغم خيباتها، رغم وجعها ورغم ندمها على كل لحظة أهملت فيها تقديرها لذاتها.
وجدت صديقتي فجأة أنها أصبحت في أواخر الأربعينات، وأن العمر “ما رح ينطرها”، مرّ شريط حياتها بسرعة أمامها، فتشت فيه عن لحظة سعادة فلم تجدها، وجدت فقط الخيبات، ونكران الجميل. قررت أن تواجه الانتقادات التي انهمرت عليها، تغاضت عن كلمات كثيرة قيلت بحقها، فهي في نظر الجميع “خربت عيلتها” وشتت أفرادها.
اتخاذ القرار بـ”السعادة”
خاب ظنها في أقرباء وأصدقاء كانت تعتقد أنهم سيقفون الى جانبها في هذه المحنة، وأنهم سيتفهمون أن الكيل قد طفح وأن الإناء لم يعد يتّسع لأحزانها وخيباتها. فلم تجد الحضن الذي يستوعب أحلامها التي قررت تحقيقها لو متأخرة، لم تفز بغمرة من أحد تخفف عنها ثقل الجبال الذي كانت تحمله.
أدركت صديقتي أنها أفنت أجمل أيام حياتها في سبيل إرضاء المجتمع، والعائلة والمحيطين. لم تحصّن نفسها أو تحميها، بل عملت على محو ذاتها ليسعد الآخرون. أسئلة كثيرة تتبادر الى ذهنها، من دون أن تجد لها إجابات، وأولها: “لماذا تظاهرت بالسعادة فيما كنت أتدمّر في داخلي؟!”، ذلك كله كرمى لمجتمع لا يرحم.
تقول صديقتي إن السعادة إنجاز ذاتي، والتعاسة أيضاً قرار ذاتي، فلا يفيدك إطلاقاً أن يراك المجتمع سعيدة فتصحين بعد حين وتدركين أنك الأكثر تعاسة.