يوثّق هذا التحقيق أوضاع العمال في معامل الطابوق بأربع محافظات عراقية، هي (بغداد والديوانية وذي قار وبابل)، وما يواجهونه من مخاطر مميتة مقابل أجور يومية لا تغطي احتياجاتهم الأساسية، في ظل غياب متطلبات السلامة المهنية ومستلزماتها من خوذ وقفزات وأحذية، الى جانب افتقاد أبسط حقوق العمل والحماية الصحية والاجتماعية.
فجر الأول من كانون الثاني/ يناير 2024، كان الشاب حسين نعمة (28 سنة)، يزاول عمله اليومي وقاداً أو كما يعرف شعبياً بـ(شاعول) لفرن معمل (الجنابي) للطابوق”Brick” في منطقة زيد بن علي، في محافظة بابل جنوب العراق.
كان يقف كالمعتاد في أعلى الفرن المبني من الطوب، ليزوده بالنفط الأسود لحظة انهيار سقفه وسقوطه في جوفه المضطرم، ليتحول إلى رماد في لحظات.
يقول شقيقه الأصغر سلام إنه تلقى صباح ذلك اليوم اتصالاً من أحد عمال المعمل، أخبره بالحادث ليسارع الى المكان ويجد هناك فريق الدفاع المدني منشغلاً بمحاولة إطفاء الفرن. يضيف بحزن: “استغرق ذلك ساعات عدة، ولم يجدوا من شقيقي سوى رماده الذي جمعناه في وعاء صغير ودفناه”.
عائلة حسين، كانت تعتمد عليه بنحو رئيسي في إعالتها، فوالده يعاني من مشاكل في السمع والبصر ووالدته مقعدة، وهو من كان يوفر لهما العلاجات ويلبي احتياجاتهما فضلاً عن زوجته وأطفالهما الأربعة.
كان حسين يتقاضى 25 ألف دينار (نحو 17 دولاراً) فقط في اليوم، مقابل ثماني ساعات عمل في ظروف قاسية ومن دون أي امتيازات أو ضمانات. وهو حال عشرات آلاف العاملين في قطاع معامل الطابوق والإنشائيات، الذي يعده متخصصون بيئة عمل خطرة تفتقد كل متطلبات السلامة المهنية، فضلاً عن غياب الضمان الصحي والقانوني.
يُحمّل سلام إدارة المعمل مسؤولية ما حدث لشقيقه: “حسين ظل يعمل من دون أن يتم تسجيله في الضمان الاجتماعي، هذا التجاهل من صاحب المعمل حرم عائلته من أي دعم مالي ثابت أو تعويض حكومي”.
ويستدرك مغالباً دموعه: “هذا المعمل وغيره من معامل الطابوق ابتلعت شباباً لأنها بدائية ومتهالكة، وحسين لم يكن الأول الذي ذهب ضحية الإهمال ولن يكون الأخير”.
يوثّق هذا التحقيق أوضاع العمال في معامل الطابوق بأربع محافظات عراقية، هي (بغداد والديوانية وذي قار وبابل)، وما يواجهونه من مخاطر مميتة مقابل أجور يومية لا تغطي احتياجاتهم الأساسية، في ظل غياب متطلبات السلامة المهنية ومستلزماتها من خوذ وقفزات وأحذية، الى جانب افتقاد أبسط حقوق العمل والحماية الصحية والاجتماعية.
عمال بمواجهة الموت
توجد في مجمع النهروان جنوب شرقي بغداد، 252 معملاً لإنتاج الطابوق المستخدم للبناء، والكثير منها عبارة عن منشآت بدائية لا تتوافر فيها ظروف العمل الصحية، وتعاني من الإهمال في متطلبات الحماية والسلامة المهنية، وفوضى العمل خارج الضوابط القانونية، وهو ما أكدته مصادر عدة هناك تحدثنا إليها.
الصورة ذاتها نقلها 35 عاملاً في معامل الطابوق في محافظات بابل والديوانية وذي قار، تم التواصل معهم عبر مكالمات هاتفية وفيديوية، لنكتشف أن القاسم المشترك بين جميعهم تمثل في عدم تسجيلهم في دائرة الضمان الاجتماعي، وافتقادهم الرعاية الصحية كما متطلبات التأمين على الحياة.
صباح يوم الأربعاء، 27 تشرين الثاني/ نوفمبر2024، كانت مجموعة تضم شباناً ونساء ومسنين وأطفالاً منهمكين بالعمل في معمل صغير للطابوق بمجمع وسط منطقة النهروان، وعلى الرغم من كثافة الغبار وانخفاض درجة الحرارة، كان معظمهم مكشوفي الوجوه باستثناء ثلاثة فقط لفوا وجوههم بأغطية رأس خفيفة، من دون أن تكون بحوزة الجميع أية مستلزمات سلامة.
هناك في محيط المكان، تبرز بيوت طينية متهالكة وأخرى من الصفيح، تسكنها العشرات من العائلات الفقيرة النازحة من محافظات وسط العراق وجنوبه. بيوت غير مخدومة بالمياه أو الكهرباء أو شبكات المجاري في منطقة تصنف كصناعية وترتفع فيها معدلات تلوث الهواء الى ما فوق المعدلات المسموح بها بيئياً.
على مقربة من تلك البيوت كانت أم مصطفى (29 سنة) وزوجها وثلاثة من أطفالهما الذين تتراوح أعمارهم بين (5-9) سنوات، في طريق عودتهم إلى منزلهم الطيني الذي يبعد 600 متر فقط عن المكان، بعد انتهاء عملهم اليومي في معمل الطابوق، والذي يمتد من الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل حتى الثامنة صباحاً.
تقول أم مصطفى والتعب باد عليها: “أنا والأطفال ومعنا ست نساء ننقل لبن الطابوق الى الأفران بواسطة عربة يجرها حمار”. وتذكر مثالاً على ما تعانيه من خلال سرد حكاية إجهاضها لجنينها في تموز/ يوليو 2023: “لم أكن أعرف أصلاً بأنني حامل، تعرضت الى نزف حاد مفاجئ بعد ساعات من العمل، نقلوني الى مستشفى النهروان، وهناك علمت أنني كنت أحمل جنيناً”.
ترتسم على وجهها نصف ابتسامة، قبل أن تتلعثم الكلمات في فمها وتحمل نبرة صوتها أنيناً وهي تقول: “أريد أن يكون لي مثل النساء الأخريات منزل طبيعي وراتب مستقر، وأرى أطفالي وهم يتعلمون في المدارس”.
أم مصطفى ومئات غيرها يعملن في تلك الأنحاء بمهن لا تتناسب مع أجسادهن الهزيلة، إذ يعتمد عليهنّ أصحاب معامل الطابوق لتدني الأجور التي يتقاضونها مقارنة بالرجال، مع أنهن يتولّين مهاماً صعبة ويمضين ساعات طويلة مكسوات بالغبار ويحملن الأثقال سواء في أجواء جافة وبدرجات حرارة تقترب من الخمسين في الصيف، أو في أجواء رطبة بدرجات تقترب من الصفر في الشتاء.
أجور متدنّية وتهديد دائم بالطرد
أحمد السيد (29 سنة) عامل في معمل للطابوق بمحافظة ذي قار، يقول إن الأعمال الشاقة ليست مشكلة العاملين الوحيدة، بل أيضاً الأجور التي تنخفض باستمرار.
ويوضح: “معامل الطابوق تعتمد على النفط الأسود الذي تزوّدها به الدولة وبأسعار مدعومة بموجب حصص شهرية، وفي حال قلّت تلك الحصص، فإن أصحاب المعامل يخفّضون أجورنا بذريعة أن التكاليف زادت عليهم نتيجة شرائهم النفط الأسود من السوق السوداء تعويضاً عن حصصهم المفقودة”.
ويشير الى أن العمال يرضخون في العادة، في ظل غياب أي جهة تحمي حقوقهم، ويؤكد: “إذا اعترضت يطردونك من العمل ويأتون بغيرك”. ويتابع: “لا يمكنني التوقف عن العمل والاحتجاج، فأنا من عائلة فقيرة، وهناك زوجة وثلاثة أطفال ينتظرونني في بيتي الطيني المؤلف من غرفة واحدة”.
يتقاضى العامل في معامل الطابوق بالمحافظات الأربع أجراً يومياً يتراوح بين 25-40 ألف دينار عراقي مقابل 8 إلى 10 ساعات عمل يومية، حسب نوعية العمل المطلوبة، وهي أجور يصفها رئيس الاتحاد الوطني لنقابة العمال حسن الشمري، بالمتدنية مقارنة بالجهد المبذول والخطورة الكامنة.
ويلفت إلى أن بعض العاملين يحصلون على أجور تتراوح ما بين 5-7 آلاف دينار لقاء تحميل كل عجلة نقل طابوقاً، وهو مثال يسوقه الشمري عن تدني أجور عمال الطابوق.
ويقول إن الظروف الاقتصادية الصعبة “تدفع الكثيرين الى العمل في مجال صناعة الطابوق، باعتبارها أسهل المهن ويمكن أن يمارسها أي شخص، فهي لا تحتاج الى خبرة أو مستوى تعليم محدد”.
ويتابع أن في مجمع النهروان لوحده يعمل قرابة الـ 10 آلاف عامل في معامل الطابوق “في بيئة عمل غير آمنة” لاسيما بالنسبة الى النساء والأطفال.
قوانين غير مفعلة
ينص قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015 على حماية الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال من الانخراط في أعمال قد تعرضهم لمخاطر صحية أو استغلال اقتصادي. وتحظر المادة 85 من هذا القانون تكليف النساء بأعمال خطرة قد تؤثر على صحتهن الإنجابية أو سلامتهن الجسدية، مثل الأعمال المرهقة أو التي تتطلب استخدام مواد ضارة.
كما تمنع المادة 84 من قانون العمل تشغيل المرأة الحامل في الأشهر الأخيرة بأي عمل شاق، وحظر تشغيل النساء أثناء الليل باستثناء وظائف محددة. وبطبيعة الحال، معامل الطابوق لا تمتثل لأي من ذلك، وكثيرات من النساء يعملن طوال الليل فيها.
وتفتقر هذه المعامل، لا سيما الواقعة في مناطق نائية، ومنها النهروان، إلى خدمات الرعاية الصحية الأولية، الى جانب غياب أو قلة الخدمات العامة، ما يجبر أطفال العمال على الانخراط في العمل بدلاً من الذهاب إلى المدارس، وهي أيضاً “مخالفة واضحة لقانون العمل العراقي الذي يمنع تشغيل الأطفال”، يؤكد الشمري.
ويضيف: “في مقابل ذلك، هنالك ضعف في المتابعة الحكومية والبحث عن مصالح اليد العاملة، فأصحاب معامل الطابوق لا يصرفون أحياناً أجوراً كاملة للعمال، وفي الغالب لا يوفرون لهم تأميناً أو ضماناً صحياً”.
ويقر رئيس الاتحاد الوطني لنقابة العمال، بتعرض المئات من عمال الطابوق إلى “حوادث خطرة كبتر الأصابع أو الحروق الى جانب التهابات المجرى التنفسي الحادة أو الربو”، كما يؤكد “تعرض البعض منهم الى الإصابة بأمراض سرطانية بسبب سموم أدخنة المعامل التي يستنشقونها”.
وسط تلك المخاطر، وعدم وجود تحرك حقيقي لوقفها، يكتفي مدير قسم التوعية والتدريب في المركز الوطني للصحة في وزارة العمل ليث عواد، بدعوة أرباب العمل في معامل الطابوق الى توفير مستلزمات الوقاية والسلامة المهنية والحفاظ على صحة العامل، وتوفير بيئة عمل مناسبة للحد من حوادث العمل وإصابات العمال، التي قال إنها “تتطلب وعياً وتعاوناً” بين العامل وممثلي العمال ووزارة العمل.
ويرى عواد أن بيئة العمل في معامل الطابوق “تحوي مخاطر مهنية مختلفة”، مشيراً إلى أن دور مركزه ينحصر في توعية العمال من كلَي الجنسين “وإلزام أصحاب المعامل بتوفير معدات السلامة الوقائية في مواقع العمل”.
غير أنه لا يذكر آلية لهذا الإلزام، والإجراءات التي تتخذ ضد أصحاب معامل الطابوق المخالفين، داعياً العمال إلى “عدم الرضوخ لصاحب العمل، والمطالبة بحقوقهم بشكل دائم ومستمر”، من دون أن يبين الجهات التي يفترض بهم مطالبتها بحقوقهم.
خلال جولتين ميدانيتين في مواقع معامل الطابوق، امتدت كل واحدة منها ساعات عدة، رفض معظم أصحاب المعامل إجراء مقابلات معهم، ولم يسمحوا بالتصوير بنحو قاطع. بعض العاملين هناك، فسروا السبب بخشيتهم من المساءلة بسبب المخالفات الحاصلة للمتطلبات المحددة بشأن السلامة المهنية وحقوق العمال.
حتى العمال، كانوا مترددين وبعضهم رفض الحديث، وأجمعوا على احتمال طردهم من عملهم بسبب ما سيقولونه، لذلك فضل البعض الحديث بعيداً عن التوثيق الصوتي أو المصور.
يظهر إحصاء من شعبة تقنية المعلومات التابعة للمركز الوطني للصحة والسلامة المهنية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، تسجيل 2702 إصابة عمل في مختلف القطاعات خلال سنة 2024.
شمل هذا الإحصاء الذكور والإناث، وتم تصنيف الإصابات بناءً على مسبباتها، التي تضمنت الحوادث الناتجة من الآلات والمكائن، وأدوات العمل اليدوي، والسقوط، والانزلاق، والصعقات الكهربائية، والمواد الكيميائية، والحرائق، وحوادث السير، وغيرها.
وتفيد نتائج الإحصاء، بأن بيئات العمل في القطاع الخاص، تعاني من نقص ملحوظ في تطبيق معايير السلامة المهنية، ما يزيد من احتمالية الحوادث والإصابات الخطرة.
مركز صحي مغلق وعيادات بدائية
في الساعة الحادية عشرة من صباح الأربعاء 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، زار معد التحقيق المركز الصحي الوحيد في منطقة النهروان، فوجده مغلقاً، ولم يكن هنالك سوى الحارس الذي قال إن هنالك فقط معاونين طبيان يتناوبان على الدوام في المركز، وأن أحدهما لم يبق سوى فترة وجيزة في ذلك اليوم قبل أن يغادر.
عمال في معامل الطابوق بالمنطقة اشتكوا من ضعف الخدمات التي يقدمها المركز الصحي، ويقول “علي. م” إنه يتوجب فتح أبواب المركز على مدار الساعة، بخاصة أن المعامل تعمل في الليل وفي ظل المخاطر المتأتية من طبيعة العمل وهي بالعشرات، كاحتمالية التعرض للإصابات التي تستدعي تدخلاً طبياً عاجلاً، بخاصة أن المنطقة بعيدة عن أقرب مستشفى مؤهل، ووصول سيارات الإسعاف في حال الضرورة يحتاج الى وقت طويل.
بسبب غياب الدور المطلوب من المركز الصحي في النهروان، ازدهر عمل العيادات الشعبية هناك، والتي تقدم خدمات مختلفة بعضها خارج تخصصها. وأحصى معد التحقيق تسعاً منها، وكلها بدائية ومبنية من ألواح الـ(سندويج بنال).
أخبرنا معاون طبي يدير إحدى تلك العيادات التي لا تبعد سوى 50 متراً عن إحدى معامل الطابوق، إنه يستقبل يومياً الكثير من حالات الحروق الخفيفة والمتوسطة، وإصابات بجروح متفاوتة الخطورة، إلى جانب أطفال مصابين بأمراض جلدية مثل الجرب والحصبة وجدري الماء، مشيراً على أنهم جميعاً من العمال.
القاسم المشترك بين هذه العيادات هو بناؤها بشكل يتقاطع مع المتطلبات الصحية والبيئية، وافتقارها الى النظافة ومتطلبات تقديم خدمات صحية نوعية، فهي مخصصة لتقديم بعض العلاجات البسيطة والإصابات الطارئة الخفيفة. وبدورهم، رفض أصحابها السماح لنا بالتصوير.
على الرغم من ذلك، تظل تلك العيادات هي الملجأ الأول للعمال، حتى أنهم يقصدونها لإجراء جراحات صغيرة، بينما يتم تحويل الحالات الخطرة إلى مستشفى النهروان الذي يبعد عن المعامل قرابة 37كم.
في عيادة أخرى، يديرها معاون طبي متقاعد، أخبرنا أنه شهد خمس حالات وفاة في العام 2023 بين عمال معامل الطابوق بسبب الحروق أو الإصابات الناتجة من ماكينات تقطيع الطابوق. وذكر أن معامل طابوق النهروان، تسجل سنوياً ما بين خمس إلى عشر وفيات بين العمال.
ويقول: “نستقبل شهرياً ما بين 100-170 عاملاً يعانون من أمراض تنفسية وسعال حاد بسبب أدخنة المعامل التي يعملون فيها، في ظل عدم توافر أي نوع من الرعاية الصحية داخل المعامل”.
بينما ينص قانون العمل، وتحديداً في المادة 88، على أن أصحاب المعامل ملزمون بتوفير طبيب للعمل في كل وحدة إنتاجية تحتوي على 50 عاملاً، لضمان سلامة العمال، وهذا ما لم نشاهده أو نوثقه خلال زيارتنا الميدانية إلى معامل الطابوق.
استغلال العمال
يصف عضو لجنة العمل في مجلس النواب، أمير المعموري، ما يتعرض له عمال الطابوق في المعامل والمصانع الأهلية بـأنه “استغلال بشع”. ويشير إلى أن “هؤلاء العمال يعانون في غالبيتهم من الربو وأمراض تنفسية أخرى وبعض أنواع السرطان بسبب الغازات والأدخنة السامة”.
ويضيف: “لا تنحصر حقوق العمال الضائعة في تلك المعامل بعدم توفير مستلزمات السلامة المهنية والصحية فقط، بل تمتد الى تأخير مستمر للأجور، وهو ما يجبر بعض العاملين على ترك العمل والبحث عن غيره من دون أن يحصلوا على أتعابهم، وتلك مخالفة صريحة لقانون العمل”.
ويكشف عن تلقّيه معلومات مفصلة عن أسباب ارتفاع الإصابات والوفيات في صفوف العاملين في صناعة الطابوق، منها:”عدم ارتداء معدات الوقاية الشخصية للسلامة المهنية، وعدم توافرها في موقع العمل”. ويرى أن انعدام بيئة عمل صحية “سيعني بلا شك ارتفاع احتمالية وقوع إصابات خطيرة”.
الشكاوى المتعلقة بظروف العمل، دفعت المركز الوطني للصحة والسلامة المهنية التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 الى زيارة معامل الطابوق في النهروان للتحقق من ظروف بيئة العمل ومدى التزامها بتطبيق معايير الصحة والسلامة المهنية.
وتضمنت الزيارة جمع بيانات بشأن مستويات التلوث، سواء أكانت كيميائية أو فيزيائية، وتقييم مدى الالتزام بتطبيق الإجراءات الوقائية في 18 معملاً، وتقديم التوصيات اللازمة لتحسين الأوضاع الحالية، وتخفيف المخاطر المحتملة.
لكن لا شيء تغير بعد تلك الزيارة، فالمعامل ما زالت تعمل خارج المتطلبات البيئية ولا تلتزم في غالبيتها بتوفير بيئة عمل مناسبة وبضمان إجراءات السلامة المهنية والصحية.
عمال بلا ضمان
أبو ثامر(47 سنة) مشرف عمال في معامل طابوق ناحية الطابو، بمحافظة الديوانية، يقول إن أولاده الأربعة بالإضافة إليه، يعملون في معامل الطابوق، وذكر أن أجورهم قد ارتفعت في الآونة الأخيرة الى 30 ألف دينار، بعدما كانت فقط 15 ألفاً، “لكنها زيادة لا تعكس التحديات الحقيقية في هذه المهنة المرهقة والخطرة”، على حد تعبيره.
وعلى الرغم من مرور عقدين على مزاولته العمل في معامل الطابوق تلك، ووجود 150 عاملاً يعملون تحت إشرافه حالياً، إلا أنه بلا ضمان اجتماعي أو رعاية صحية. يقول وهو يشير الى مكتبة حديدية فارغة الرفوف: “ليست لدينا أصلاً عقود عمل، وفي حال توقف المعمل سنجد أنفسنا وبكل بساطة من دون عمل، وفي وسعهم طردنا في أي لحظة حتى من دون أي سبب، فليست لدينا أية حماية قانونية”.
ويرى أبو ثامر، أن أصحاب المعامل “يهتمون فقط بأرباحهم، من دون النظر إلى حقوق العمال أو ظروف عملهم”، بينما المسؤولون “يزورون أصحاب المال فقط ويراعون مصالحهم من دون الالتفات الى معاناة العمال وظروف عملهم القاسية.
كما يتهم أصحاب معامل الطابوق باستغلال حالة البطالة المتفّشية بين سكان المناطق القريبة من معاملهم، وهي مناطق نائية، فيعرضون عليهم العمل من دون عقود رسمية وبأجور زهيدة، ولا يكون أمام هؤلاء خيار، “فإما البقاء من دون عمل أو القبول بواقع الحال المفروض عليهم”.
ويشير إلى أن الغالبية العظمى من العمال “يتجنبون المطالبة بحقوقهم خشية أن يتسبب ذلك بطردهم”.
تحدث معد التحقيق، مع عدد من أصحاب معامل الطابوق في محافظتي بغداد والناصرية، الذين أرجعوا عدم تسجيل العمال في الضمان الاجتماعي الى أسباب مالية وإدارية، واشتكوا من الأعباء المالية التي قالوا إنهم يتحملونها، ومن الخسارات المتكررة التي تلحق بهم بسبب القرارات الحكومية المتغيرة.
واتهم بعضهم دوائر حكومية بإصدار قرارات “مقيدة ومربكة” لعملهم، كتأخير تزويدهم بمادة النفط الأسود، وهي المادة الأساسية المستخدمة في فخر الطابوق.
وعدوا هذا التأخير معطلاً لعملهم ويتسبب بإضافة تكاليف مالية تشغيلية لأنهم يضطرون الى شراء النفط الأسود من السوق السوداء لتعويض النقص، وهذه أحد مبررات “عدم قيامهم بتحمل أعباء دفع أجور وتكاليف الضمان الاجتماعي للعمال”.
كما أشاروا إلى رفض بعض العمال لفكرة التسجيل في الضمان الاجتماعي “لأنهم مسجلون أصلاً فيها للحصول على رواتب الإعانة الشهرية، وتسجيلهم كعاملين فيها يعني وقف تلك الرواتب”!.
عضوة لجنة العمل النيابية، نور نافع، تلقي باللائمة على اللجان التفتيشية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والنقابات العمالية، وتتهمهم بالتساهل في ما يخص تسجيل العمالة المحلية في سجلات الضمان الاجتماعي الإجباري.
وتضيف: “من المضحك أن بعض أصحاب المعامل يعلمون حتى بموعد زيارة اللجان التفتيشية لمواقع عملهم، وبالتالي يعملون على إخفاء العمال وإبعادهم عن المعمل”.
من جهته، يقول مدير المركز الإعلامي في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، نجم العقابي، إن وزارته سجلت تهرب أرباب العمل من شمول عمالهم بالضمان الاجتماعي، مستغلين اضطرار العمال للعمل بمثل هذه البيئات نتيجة ظروفهم المعيشية الصعبة وعدم قدرتهم على تقديم شكاوى بشأن ذلك.
ووفقاً لما يقوله، فإنه في حال تعرض العامل غير المشمول بالضمان للإصابة خلال العمل، فإن من حقه أن يتقدم إلى محكمة العمل بشكوى وستتم إدانة صاحب العمل “شريطة توفر الأدلة التي تثبت حقه في الضمان الاجتماعي، والذي لا بد أن يشمله منذ اليوم الأول للعمل”.
معامل مخالفة للبيئة
وفقاً لمدير القسم القانوني في المديرية العامة للتنمية الصناعية في وزارة الصناعة، علي العطواني، فإن هنالك 781 معمل طابوق في العراق، 252 منها في مجمع النهروان الصناعي، بالإضافة إلى وجود 32 معملاً في منطقة الجعاري شمال بغداد، وجميع هذه المعامل هي خاصة وغير حكومية.
ويقول إن غالبية معامل الطابوق في بغداد والمحافظات “تعمل وفق منظومة الحرق البدائية غير الصديقة للبيئة التي تعتمد على النفط الأسود، الذي يحتوي على نسبة عالية من الكبريت”.
ويؤكد أن دائرته “أمهلت معامل الطابوق مدة سنة ونصف السنة بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر 2024 لتحويل معاملهم إلى صديقة للبيئة تعتمد على الغاز بدلاً من النفط الأسود”.
خلافاً لأرقام التنمية الصناعية، يكشف مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط سنان جعفر، عن وجود 273 معملاً لصناعة الطابوق فقط في مدينة النهروان، من بينها 64 معملاً غير حاصل على الإجازة البيئية، ويؤكد بدوره أن تلك المعامل “تعمل بتقنيات بدائية وسيئة”، في إشارة الى كونها تفتقد شروط السلامة والجودة وتتسبب في تلويث البيئة.
ويوضح: “تتم عملية الحرق بطريقة عشوائية ووسط كثافة عالية للوقود، وهو ما يساهم في انبعاثات كبيرة وسامة، ما يعرض أكثر من 9 الآف عامل هناك إلى أمراض تنفسية ومشاكل صحية”.
ما تحدث به المسؤول في وزارة البيئة، تم رصده والتثبت منه خلال الزيارة الميدانية لفريق التحقيق الى مجمع النهروان الصناعي، إذ لم تمض سوى دقائق على وصولهم حتى أصيبوا بنوبات متكررة من السعال الشديد، نتيجة تشبع الهواء بالدخان الكثيف المنبعث من مداخن المعامل.
عمل مناف للقانون
الخبير القانوني علي التميمي، يرى أن وضع العمال في معامل الطابوق منافٍ للقوانين المرعية التي ضمنت حقوق العمال، وحمتهم من العمل في ظروف صعبة، وألزمت أرباب العمل بتوفير بيئة عمل مناسبة، وتهيئة المناخ المناسب لهم. لكن تلك القوانين لا تجد طريقها للتطبيق في ظل دولة تمتلك أجهزة رقابة ومحاسبة ضعيفة.
ويعتقد أن بعض العمال يرتكبون خطأ قانونياً يتمثل “بإمضائهم على عقود يكتبها أرباب العمل وفقاً لقناعتهم، من دون قراءتها أو عرضها على متخصص قانوني، بسبب حاجتهم للعمل، وفي الغالب فإن بنود هذه العقود تشكل إذعاناً وعبودية كونها لا تعطي للعمال حقوقاً واضحة ومحددة”.
كما يشير إلى أن الكثير من عمال الطابوق لا يوقعون عقوداً أصلاً، “ويتسبب ذلك بضياع حقوقهم لأنه في حال لجوئهم الى القانون للمطالبة بحق من الحقوق، فلا بد من عقد عمل يحدد التزاماتهم وحقوقهم”.
وعن طبيعة تلك العقود التي يفترض وجودها، يقول المحامي عماد عبد السادة، إن العقود المبرمة بين أرباب العمل وعمالهم تتضمن إنجاز عمل معين مقابل أجر محدد، ويجب أن تكون مكتوبة وأن “تحرر بثلاث نسخ، واحدة لصاحب العمل والنسخة الثانية للعامل والثالثة لوزارة العمل”.
وينبه الى أن قانون العمل حدد عدد ساعات العمل بـ 8 ساعات “ومن يعمل أكثر من ذلك عليه المطالبة بأجور إضافية، وإذا امتنع صاحب العمل يمكن إدانته قضائياً”.
ويعبر عبد السادة، عن أسفه لامتناع بعض أرباب العمل عن تنظيم العقود بنحو أصولي “لإدراكهم أن تلك العقود ستتضمن حقوقاً من السهل إثباتها أمام القضاء وإدانتهم في حال التقصير”.
إلى ذلك، يتهم رئيس الاتحاد العراقي لنقابات العمال وليد فارس، أصحاب معامل الطابوق بـ”استعباد العمال”، ويقول إن غالبية معامل الطابوق تعود ملكيتها الى جهات متنفذة في الدولة، وهي قادرة على منع اللجان التفتيشية النقابية من دخول المعامل، “فيما يتسلط أصحاب المال على العمال بسبب عدم وجود عقود عمل تربط الطرفين، ولذلك أصبحوا عرضة للاستغلال”.
في مطلع العام 2024، نظم العمال وقفة احتجاجية أمام معامل الطابوق في مدينة النهروان، رفعوا خلالها جملة من المطالب، من ضمنها: شمولهم بقانون التقاعد والضمان الاجتماعي، فضلاً عن زيادة أجورهم مقابل ما يقدمونه من أعمال قاسية، وتحديد ساعات العمل، كونهم يمضون قرابة 10 ساعات يومياً في أعمال يدوية قاسية بين إخراج الطابوق من الأفران وتحميله إلى الشاحنات.
إجراءات محدودة التأثير
في محاولتها للحد من الانتهاكات التي يتعرض لها العمال، ألزمت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أصحاب المعامل والمشاريع الخاصة بتسجيل عمالهم في دوائر الضمان الاجتماعي، وفقاً لما يقوله المشاور القانوني لدائرة الضمان وتقاعد العمال في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية صدام الشمري.
ويوضح: “ألزمنا جميع دوائر الدولة أيضاً، بعدم منح إجازات تأسيس للشركات والمعامل، ومنها معامل الطابوق، الإ بعد امتلاك صاحب الشأن براءة ذمة صادرة من دائرة الضمان الاجتماعي وتقاعد العمال في الوزارة، والتي لا تُمنح إلا بعد شمول جميع العمال العاملين بقانون الضمان”.
وعن العقوبات المترتبة على المخالفين، يقول: “فرضنا غرامة مالية مقدارها خمسة ملايين دينار على أي صاحب عمل يمتنع عن تسجيل عماله أو يتخلف عن تسديد اشتراكاتهم الشهرية، وفي حال تكرار المخالفة تتم مضاعفتها حتى تصل إلى 25 مليون دينار”.
ويضيف: “شكلنا جهازاً رقابياً للإشراف على عمل اللجان التفتيشية، ومن حق هذا الجهاز التدقيق في البيانات والمعلومات التي تقدمها اللجان التفتيشية للتأكد من صحتها، بالتالي مهمة هذا الجهاز منع المفتشين من التلاعب بأعداد العمال في المشاريع”.
في 28 شباط/ فبراير 2024، أجرى وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، حملة تفتيشية مفاجئة لمعامل الطابوق في منطقة النهروان، للتحقق ومتابعة تسجيل العاملين فيها بالضمان الاجتماعي وشمولهم بإجراءات الصحة والسلامة المهنية.
وأشرف الوزير خلال زيارته على إجراء الفحوصات الميدانية للعاملين في معامل الطابوق، وأعلن أن العام 2024 سيكون عاماً للعمل “لتطبيق قانوني العمل والضمان الاجتماعي”. وأقر آنذاك بوجود آلاف العمال في معامل الطابوق الذين لم يتم تسجيلهم في الضمان رغم استمرارهم بالعمل منذ سنوات.
بعد نحو عام من الزيارة، تؤكد الوقائع كما تصريحات المسؤولين عدم حصول تغير حقيقي في واقع العمال بمعامل الطابوق، إذ ما زال معظم العاملين غير مسجلين في الضمان الاجتماعي، ولا تتوافر لهم البيئة المهنية والصحية الملائمة للعمل.
وسط بيئة العمل غير الصحية، والخروقات القانونية، تلقت عائلة علي الزهيري في عام 2020، خبراً صادماً حين تم تشخيص إصابة والده بـسرطان الرئة، متأثراً بالتلوث في معمل للطابوق عمل فيه لسنوات عدة.
يقول علي (31 سنة): “العمل في مجمع النهروان خطر جداً، والدي أصيب بسبب التلوث الذي يملأ الأجواء هناك، حاولنا علاجه، لكن المرض كان أقوى منه”.
بعد التأكد من إصابته، قدم صاحب المعمل مساعدة مالية للعائلة، وسهل تسجيل الأب في دائرة الضمان الاجتماعي، ما وفر له راتباً تقاعدياً ساعده في تخفيف العبء المالي، لكنه فارق الحياة في نيسان/ إبريل 2021.
“علي” نفسه يعمل في معمل للطابوق منذ سنة 2008 ومعه الكثير من أفراد أسرته، هم يعملون بين 7 الى 9 ساعات يومياً بأجور تتراوح بين 150 ألفاً إلى 300 ألف دينار أسبوعياً، على الرغم من معرفتهم بالأخطار المتزايدة.
وما زال الشاب مثل الكثير من زملائه، غير مسجل رسمياً، يقول عن ذلك: “مع مجيء لجان التفتيش، أتلقى مع زملائي مبالغ مالية بسيطة من صاحب المعمل لنتوارى عن الأنظار”.
ويتابع وهو يفرد يديه المليئتين بالبثور: “بيئة العمل هنا مميتة لا مستلزمات سلامة، ولا رقابة حقيقية، الأجواء مليئة بالدخان والأبخرة السامة، ندرك أن مهنتنا قد تودي بحياتنا كما حدث لوالدي، لكننا نعمل لإعالة أسرنا فلا خيار آخر لدينا”.
ملاحظة: يبلغ سعر صرف الدينار العراقي في السوق نحو 149 ألف دينار مقابل كل 100 دولار أميركي.
أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.