سيرة جديدة عنها باللغة الفرنسية
تسعى الباحثة اللبنانية الدكتورة كارمن البستاني من خلال نتاجها البحثي والأكاديمي باللغة الفرنسية إلى إبراز تجارب نساء ناضلن في سبيل المساواة بين الجنسين، وفي هذا السياق يأتي إصدارها الجديد عن حياة مي زيادة بعنوان "مي زيادة شغف الكتابة".
منذ بداياتها، اهتمت البستاني، في العديد من أعمالها، بدراسة المؤنث والمذكر والجسد في الأدب. فأصدرت "كتابة الجسد عند كوليت" (2002)، "التأثيرات النسوية: تنوعات السرد بالفرنسية" (2003)، "كتابة الحب عند كوليت" (2016) ، وصولا الى إصدارها الأخير "مي زيادة شغف الكتابة" عن دار نشر "أنطوانيت فوك".
"المجلة" حاورت كارمن البستاني عن إصدارها الجديد وعن النسوية وعالم الأدب.
تهتمين بالأدب النسوي عموما، وتناولت بالبحث عددا من الكاتبات، وصولا إلى مي زيادة، ما السبب؟
يعود اهتمامي بالكتابات النسائية إلى مرحلة الطفولة حين كنت أنظر بعين النقد إلى النساء في محيطي اللواتي كن يعشن في مجتمع محافظ. كنت أرى فيهن نساء متفانيات جدا في النهوض بدور الأم إلى درجة نكران الذات إلى أبعد الحدود، بحيث ينسين أنهن أيضا نساء. وقد تبلور هذا الاهتمام حين شاركت في حلقة دراسية عن النسوية أثناء دراستي لنيل الإجازة في الأدب المعاصر في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية. ولاحقا تخصصت بالكتابة النسائية في جامعة ليون.
توجهت بشغف نحو هذه الاختصاصات، التي أدخلتها في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، وتوليت، على مدى ربع قرن من الزمن، الإشراف على أطروحات عن المؤنث/المذكر، والنوع الاجتماعي (الجندر) واللاوعي في النص. ومن الطبيعي أن أوجه مهنتي في التدريس، وبحوثي ومؤتمراتي وكتاباتي، نحو هذا الاختصاص.
القاسم المشترك بين كوليت وأندريه شديد ومي زيادة أنهن يغصن في كتاباتهن وحيواتهن، في أعماق أنفسهن، في محاولة لإيجاد تعبير جديد
هل التمرد هو القاسم المشترك بين مي زيادة وأندريه شديد وكوليت، ونضال كل منهن لرفع صوت النساء وحضورهن على المساحة الثقافية وفي الحياة؟
لكل من كوليت وأندريه شديد ومي زيادة تاريخ خاص وسياق تاريخي محدد. والقاسم المشترك بينهن هو أنهن يغصن في كتاباتهن وحيواتهن، في أعماق أنفسهن، في محاولة لإيجاد تعبير جديد، وذلك في بيئة قاسية جدا في التعاطي مع المرأة، خصوصا في حالة مي زيادة، وفي المشهد الثقافي الباريسي في حالتي كوليت وأندريه شديد.
وقد أسرني مسارهن. وفضلت إدراجهن في إطار الكتابات عن الحب والشغف والجسد. وكان في إمكاني أن أضع لسير حياتهن العنوان التالي "بورتريه امرأة ثائرة وشجاعة" أو امرأة غير خاضعة، امرأة لا تقهر.
السيرة الذاتية
ما مصادر البحث في كتاب مي زيادة، وهل هناك تخييل أم أنه كله يستند إلى الواقع؟
لا شك في أنني استندت إلى مراجع حقيقية. لا يمكن كتابة سيرة حياة بالاتكال على الخيال. ولكن كتابة سيرة حياة مي زيادة ليست بالأمر السهل. ليس هناك أرشيف محفوظ لأعمالها، وذلك خلافا لأندريه شديد التي حفظت مجموعة أعمالها في "معهد ذاكرة النشر المعاصر" في كاين، وكوليت التي حفظت مجموعة أعمالها في المكتبة الوطنية في باريس. لا يمكنني ذكر جميع المراجع هنا. يمكن الأشخاص المهتمين العودة إلى قائمة المراجع في الكتاب. تجدر الإشارة إلى أن كتابة سيرة الحياة لا يمكن أن تكون موضوعية تماما. فالكاتب يتخذ موقفا، وينشئ أسطورة معينة.
يتناول الفصل الأول من الكتاب مرحلة علاج مي زيادة في المصحة العقلية، ماذا تخبريننا عن هذه المرحلة؟
من خلال التطرق إلى مرحلة علاج مي زيادة في المصح العقلي في الفصل الأول من الكتاب، أردت أن أظهر أنه غالبا ما يكون مصير المرأة الذكية والموهوبة مأسويا، حين تعيش في مجتمع ذكوري متسلط يعتبرها مجرد أداة لتحقيق اللذة وإنجاب الأطفال.
غالبا ما يكون مصير المرأة الذكية والموهوبة مأسويا، حين تعيش في مجتمع ذكوري متسلط يعتبرها مجرد أداة لتحقيق اللذة وإنجاب الأطفال
بعدما فقدت مي زيادة والديها وجبران خليل جبران في فترة زمنية قصيرة، أصيبت باكتئاب حاد. وربما أدركت، إلى جانب الجفاف العاطفي الذي وجدت نفسها فيه، أنها بدأت تفقد صباها وقدرتها على الإغواء. لطالما كانت تخشى التقدم في السن. وقد شعرت بالقلق على إرثها، الذي طالب أنسباؤها بحصتهم فيه. أغضبها ذلك كثيرا، هي التي ناضلت من أجل حقوق المرأة. فبعثت برسالة إلى الدكتور جوزف زيادة الذي أحبته في طفولتها، فسارع إلى الاستجابة لطلبها في أوائل عام 1936. وتوجه إلى القاهرة وعرض عليها الإقامة في منزله في لبنان، ونجح في إقناعها. ثم طلب منها توقيع ملف من الأوراق كي يتولى إصدار جواز سفر جديد لها بدلا من جواز سفرها الذي انتهت صلاحيته. فوافقت، دون أن تدري أنه أوقع بها وجعلها توقع توكيلا عاما له. وقد أودعت في مصح للأمراض العقلية، بمؤامرة من الدكتور زيادة والدكتور جورج مولر، مدير مستشفى الأمراض العقلية.
ويعترف أمين الريحاني، الذي هب لنجدتها، أنها وقعت ضحية مؤامرة عائلية. وقد رفعت دعوى قضائية، بناء على نصيحة محاميها وأصدقائها. وطلبت المحكمة الاستماع إليها، فرفضت. ونصحها محاميها بهيج تقي الدين بإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت، كي تثبت للجميع أنها ليست مريضة عقليا. في 22 مارس/ آذار 1938، ألقت مي زيادة محاضرتها في "وست هول" بالجامعة.
وما إن بدأت بإلقاء كلمتها حتى أصيب الجمهور بالذهول. فالمؤتمر قدم الدليل القاطع على أنها لا تعاني من أي مرض عقلي. وبعد بضعة أسابيع، أصدرت المحكمة قرارا بإخراجها من المصحة العقلية. فعادت إلى القاهرة حيث توفيت في 19 أكتوبر/ تشرين الأول عن عمر 55 عاما.
ومن المفاجئ أن النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل، التي كانت امرأة نابغة أيضا، واجهت مصيرا مماثلا في الحقبة نفسها في فرنسا. عوقبت مي زيادة وكاميل كلوديل لأنهما لم تسلكا الطريق المحكوم على المرأة سلوكه في الزواج وإنجاب الأطفال. وبدلا من أن تنجبا حياة حقيقية، أنجبتا أعمالا أدبية وفنية.
الوعي واللاوعي
كيف تقرأين طفولة مي زيادة ونشأتها وتزامن ذلك مع بداية تأليفها أشعار "أزهار الحلم" وتعلمها عزف البيانو؟
بدأت مي زيادة بتأليف القصائد في سن المراهقة، حين كانت طالبة داخلية في مدرسة راهبات الزيارة في بلدة عينطورة الكسروانية، وواصلت شغفها هذا لدى وصولها إلى القاهرة. وقد شجعها والدها على جمع قصائدها لتقديمها إلى أحد الناشرين. فأعجبتها الفكرة. ترددت في شأن العنوان الذي ستختاره للقصائد، ثم قررت أن يكون "أزهار الحلم"، الذي اعتبرته عنوانا شاعريا. ألا يحاكي العنوان، في الوعي أو اللاوعي، "أزهار الشر" للشاعر الفرنسي بودلير الذي كانت معجبة به؟ وترددت مي زيادة أيضا في موضوع الإهداء، فهل تهديه إلى صديقتها سيدوني أم إلى عصفورها الكناري أم إلى والدها؟ ثم قررت أن تهديه إلى لامارتين.
عوقبت مي زيادة وكاميل كلوديل لأنهما لم تسلكا الطريق المحكوم على المرأة سلوكه في الزواج وإنجاب الأطفال
وقعت ديوانها "أزهار الحلم" بالاسم المستعار "إيزيس كوبيا"، وإيزيس هي الإلهة المصرية التي تحمل لغز الحياة والموت. وكوبيا هي إلهة الوفرة عند الرومان، وهي الترجمة اللاتينية لكلمة "زيادة" باللغة العربية. لم تكن سبقتها أي امرأة إلى كتابة قصائد باللغة الفرنسية في مصر في تلك الحقبة، وأرادت جميع الأوساط الفكرية أن تعرف من هي إيزيس كوبا، التي لم تتأخر في الكشف عن وجهها الحقيقي خلف قناع الكتابة.
كشفت مي زيادة أن مصدر الإلهام في قصائدها هو الطبيعة اللبنانية حين كانت طالبة في عينطورة. وألهمها هذا الإطار بكتابة الشعر في أوقات فراغها وخلال بعض الحصص الدراسية حيث كانت تفضل كتابة الشعر بدلا من الاستماع إلى شروحات المعلم. كانت تمضي عطلتي عيد الميلاد وعيد الفصح وحيدة أمام البيانو في المدرسة الداخلية في عينطورة، فيما كانت رفيقاتها يذهبن إلى منازلهن. عينطورة هي المكان الذي استمدت منه إلهامها في الموسيقى والأدب.
تحرير اللغة
هناك شىء لافت عند مي زيادة هو سعيها الدؤوب إلى تحرير اللغة العربية وجعلها أكثر سلاسة، كيف ترجمت ذلك في أنشطتها وكتاباتها؟
أبدت مي زيادة تصميما قويا على تحديث اللغة العربية. واضطلعت بدور مهم في هذا الصدد من خلال أعمالها الأدبية والصحافية، وقد لمست ثمار الحماسة الجماعية. وكتبت نصوصا تبرز اهتمامها بهذه اللغة. وكان هدفها تنقية اللغة العربية من الأساليب القديمة والمهجورة التي تشوش فهم النص. وكانت مقتنعة في وجه خاص بأن مصير اللغة يحدده مصير الأمة، معتبرة أن اللغة العربية الجميلة والنبيلة أصيبت بالكبوة في عز ازدهارها، وأن الصدام العاصف مع الغرب كان ضروريا كي نصحو من سباتنا.
وقعت ديوانها "أزهار الحلم" بالاسم المستعار "إيزيس كوبيا"، وإيزيس هي الإلهة المصرية التي تحمل لغز الحياة والموت. وكوبيا هي إلهة الوفرة عند الرومان
تتوقفين عند انتقاد ميخائيل نعيمة لترجمة مي زيادة كتاب "الحب الألماني"، مقابل دفاع شرس من أمين الريحاني عن العمل نفسه... ماذا ترين في هذا الموقف؟
عند صدور رواية "الحب الألماني" لمولر، نشرت مجلة "المقتطف" مقالا أثنت فيه على الرواية في عددها الصادر في أكتوبر/ترين الأول 1921. أما ميخائيل نعيمة فكانت له وجهة نظر مختلفة، وانتقد الترجمة العربية للرواية، فيما عاب أمين الريحاني على نعيمة انتقاده اللاذع للنسخة العربية. وشدد على أنه ليس لنعيمة أن ينتقد كاتبة على اختيارها العمل الذي ستترجمه، بل أن يحكم على نتيجة العمل. ووجه انتقادا حادا إلى نعيمة معتبرا أنه يلجأ إلى مكره المعهود ويمارس سلطته الذكورية.
المراسلة والإغواء
عرفت مي زيادة بمراسلاتها مع شخصيات ثقافية منها جبران خليل جبران، فماذا عن هذا الجانب من إرثها؟
كشف مراسلات مي زيادة مع الشخصيات الثقافية عن آثار الإغواء على مجموعة كبيرة من الأدباء والكتاب، مع ما لديهم من مشكلات وهوامات وأسرار. فالمعجبون بها فرضوا عليها في بعض الأحيان أجواء ضاغطة جدا، مما دفعها إلى اللجوء إلى عالم خيالي، فاختارت، حفاظا على سكينتها، أن تغرم برجل بعيد لم تلتق به قط.
بدأت مراسلاتها مع جبران خليل جبران حين قرأت له مقالا بعنوان "يوم ولدتني أمي". أعجبت كثيرا بأسلوبه واستعلمت عن سيرة حياته، وفكرت في نفسها، إنه جميل وساحر، فما السبيل للوصول إليه؟ بدأت بقراءة نصه "مرتا البانية"، ثم توقفت عن القراءة وشرعت في كتابة رسائل إليه. فكانت هذه بداية مراسلات مفعمة بالشغف استمرت على مدى عشرين عاما دون أن يحصل أي لقاء بينهما.
كان هدفها تنقية اللغة العربية من الأساليب القديمة والمهجورة التي تشوش فهم النص. وكانت مقتنعة في وجه خاص بأن مصير اللغة يحدده مصير الأمة
لم تكن مي زيادة عشيقة ولا زوجة بالنسبة إلى جبران، بل إلهة نصبها على عرش الخلود الأنثوي. لكليهما مفهوم سحري عن الحب ينزع نحو التصوف، ولا سيما لدى جبران. فحبه لها حب خيالي رافقه حتى نهاية حياته. لقد أحب نساء أخريات، ويشار في هذا الإطار إلى تعلقه بماري هاسكل على وجه الخصوص. هناك نساء كثيرات أبدين ميلا تجاه جبران الذي أحب التواصل معهن عن طريق المراسلة.
وقد أظهر سليم مجاعص، في تحليله مراسلات جبران مع العازفة الإيرلندية غرترود باري، أنه كان يرسل أحيانا الرسالة نفسها مع تعديلات طفيفة إلى سيدتين مختلفتين. تقول باربرا يونغ في كتابها "هذا الرجل من لبنان": "ولكن هناك سيدة لبنانية شعر بحب حقيقي تجاهها. لقد فهمت روحه. يقول جبران إنه لو لم يلتقها، لكانت حياته أشبه بالصحراء".
هل قدر مي زيادة أن تبقى "حية" في مجتمع الكتب والمؤلفات فحسب؟
تستحق مي زيادة أن يعاد إحياؤها في عالم الأدب كي تسترد وجهها الحقيقي، وجه المرأة النابغة. فهي ليست فقط "ملكة الأدب النسائي"، كما توصف، بل هي أيضا امرأة عبقرية تجاوزت بفكرها قدرة معاصريها من الرجال على فهمها.
هذه المرأة التي لم تنجب أطفالا من صلبها، خلفت وراءها أجيالا من النساء اللواتي ما زلن يرتبطن بها بالفكر، مع سلوكهن طريق التجديد في الوقت نفسه. هذا ما يمكن تسميته "وظيفة الأمومة" بالمعنى الرمزي. حياتها رواية مفتوحة دائما، لا تعرف نهاية ولا تكتسب معنى إلا عند إعادة النظر فيها بعدسة الأدب.