لا يُختزل العنف في لحظة الصدمة، بل يمتد إلى اليومي، حيث يتسرب إلى تفاصيل العيش، يترك أثره في الجسد، ويتغلغل في اللغة أو في غيابها. العنف لا ينتهي عند وقوعه، بل يعاد إنتاجه في روايات النساء، في سكوتهن، في النبرة الخافتة التي تسرد، وفي العبارات المتقطعة التي تخفي أكثر مما تكشف.
فؤاد غربالي
أستاذ علم الاجتماع، من تونس
في أحد أكثر المشاهد دلالة من فيلم The Piano (1993) ل"جين كامبيون"، تغرق "آدا"، المرأة الصامتة، في عالم تُحْرم فيه من صوتها، ليس فقط بسبب فقدان النطق، ولكن لأن محيطها لا يصغي لمعاناتها إلا عبر الجسد، النظرات، والندوب غير المرئية. يتحول صمتها إلى لغة خاصة، حيث يصبح الألم وسيلة تواصل حين تخذلها الكلمات، وحين تصبح اللغة نفسها ساحة للصراع على المعنى والاعتراف. من هذا المنطلق، يفتح العنف ضد النساء في تونس سؤالًا حول العلاقة بين الألم، اللغة، والحياة اليومية، وهو ما يمكن تحليله من زاوية أن العنف لا يُختزل في لحظة الصدمة، بل يمتد إلى اليومي، حيث يتسرب إلى تفاصيل العيش، يترك أثره في الجسد، ويتغلغل في اللغة أو في غيابها. العنف لا ينتهي عند وقوعه، بل يعاد إنتاجه في روايات النساء، في سكوتهن، في النبرة الخافتة التي تسرد، وفي العبارات المتقطعة التي تخفي أكثر مما تكشف. إنه انحدار في اليومي، حيث لا يُنظر للعنف كحدث استثنائي، بل كجزء من نسيج الحياة العادية.
هنا تحديداً، تكمن إشكالية هشاشة الجسد والخطاب، إذ إن اللغة ليست دائماً مجرد أداة للتعبير، بل هي أيضاً ساحة لإعادة تشكيل الألم، لتمكين الضحية من الكلام أو إسكاتها. حين يُقال للمرأة المعنَّفة: "تحمّلي من أجل أطفالكِ"، أو "هذا أمر طبيعي"، لا يكون هذا مجرد تبرير للعنف، بل هو إعادة صياغة لمعناه، حيث يُحوَّل الألم من تجربة استثنائية إلى ممارسة مبررة داخل النظام الاجتماعي. إن خطاباً كهذا، لا يكتفي بإخفاء العنف، بل يعيد تشكيله في قالب يومي يجعله غير مرئي.
لكن ماذا يحدث حين تعجز اللغة عن حمل هذا الألم؟ حينها لا يُمارَس العنف فقط عبر الأجساد، بل أيضاً عبر الخطابات التي تحدد من يملك حق الكلام، ومن يُختزل إلى مجرد جسد معنَّف، خارج دائرة الاعتراف. النساء اللاتي يعشن العنف لا يُواجهن فقط الألم الجسدي، بل أيضاً عنفاً رمزياً يجعل معاناتهن غير قابلة للقول، أو حين تُقال، تُفرّغ من بعدها السياسي والاجتماعي.
تُحاصر النساء داخل فضاء يصبح فيه العنف جزءاً من نظام اجتماعي غير مرئي[1]، لكنه فعّال في ضبط حيواتهن وأجسادهن. العنف ضد النساء، ليس إذاً مجرد لحظة اعتداء، بل هو عملية تستمر في الزمن، تتجذر في اللغة، وفي الصمت، في القبول القسري، وفي الأثر الذي يتركه الألم حتى حين يختفي الجرح. إنه تجربة تتسرب إلى اليومي[2]، وتعيد تشكيل الذات، لا عبر الصدمة فقط، بل عبر كل ما يليها من سرديات، من صمت، ومن مقاومة كامنة في التفاصيل اليومية للحياة.
تحرير النساء في تونس: بين سردية الدولة الوطنية والتجذر الاجتماعي للعنف
عندما قدم "الحبيب بورقيبة" "مجلة الأحوال الشخصية" سنة 1956، كانت تلك لحظة مؤسِّسة في سردية الدولة الوطنية الحديثة. لم يكن الأمر حينها مجرد إصلاح قانوني، بل كان إعلاناً سياسياً يعكس مشروعاً أوسع لإعادة تشكيل المجتمع التونسي، حيث تم التعاطي مع تحرير المرأة التونسية كجزء من بناء الأمة التونسية الحديثة والدولة المستقلة. في خطبه، لم يتردد "بورقيبة" عن التأكيد أن تونس كانت سباقة في تحرير النساء مقارنة بمجتمعات أخرى، متفاخراً أنها قطعت مع ’’ الرجعية"، وصارت نموذجاً في المنطقة العربية.
في تونس، كثير من النساء لا يبلِّغنَّ عن العنف، ليس لأنهن لا يدركن خطورته، بل لأنهن تَعلمنّ التعايش معه، وإعادة تشكيله ضمن معادلات الحياة اليومية. في الأحياء الفقيرة، مثلاً، حيث تعاني النساء من العنف الاقتصادي والعنف المنزلي، لا يجدن دائماً خياراً سوى التأقلم، عبر استراتيجيات تفاوضية، تتيح لهن الاستمرار في الحياة، من دون مواجهة مباشرة مع العنف الذي يحيط بهن.
لا يُمارَس العنف فقط عبر الأجساد، بل أيضاً عبر الخطابات التي تحدد من يملك حق الكلام، ومن يُختزل إلى مجرد جسد معنَّف، خارج دائرة الاعتراف. النساء اللاتي يعشن العنف لا يُواجهن فقط الألم الجسدي، بل أيضاً عنفاً رمزياً يجعل معاناتهن غير قابلة للقول، أو حين تُقال، تُفرّغ من بعدها السياسي والاجتماعي.
لكن، وعلى الرغم من أهمية هذه الإصلاحات، لم يمنع ذلك من ترسخ العنف في البنى الاجتماعية، ما يبين أن التشريعات، مهما كانت تقدمية، تظل غير كافية إذا لم تترافق مع تغييرات أعمق في المنظومة الثقافية والاقتصادية والسياسية. فالعنف ضد النساء ليس مجرد حالات فردية أو استثناءات، بل هو ظاهرة متجذرة في العلاقات الاجتماعية، تتخذ أشكالاً متنوعة، من العنف الأسري إلى التحرش في الفضاء العام، وصولاً إلى القتل باسم " الشرف"، أو بدافع السيطرة الذكورية. وبالتالي، فالتركيز على القوانين وحدها قد يفضي إلى اختزال العنف ضد النساء، في عيب غياب الحماية القانونية، بينما هو جزء من علاقات قوة تاريخية تتجدد باستمرار. فحتى عندما تُسنّ قوانين لحماية النساء، تظل المؤسسات المسؤولة عن تنفيذها متأثرة بالتراتبيات الجندرية، مما يؤدي إلى تعطيل وصول النساء إلى العدالة، أو حتى إعادة إنتاج العنف بطرق بيروقراطية وغير مباشرة. كما أنه لا يمكن اختزال العنف ضد النساء فقط في التقارير الإحصائية والتقارير الرسمية، التي تظهر تصاعد حالات العنف والقتل ضد النساء في تونس. تلك الأرقام، رغم أهميتها، لا تظهر كيف تعيش النساء هذا العنف، وكيف يؤثر على حياتهن اليومية.. فالنساء اللواتي يواجهن العنف، يجدن أنفسهن في معركة يومية ضد التهميش، حيث تختبرن قدرتهن على المقاومة داخل مؤسسات لا تعترف دائما بمعاناتهن، أو تحوِّل قضاياهن إلى مسألة تقنية.
التفكير خارج خطاب "العنف المبني على النوع الاجتماعي"
منذ سقوط نظام "بن علي" وخوض تونس تجربة الانتقال الديمقراطي، صارت مقولة ’’العنف المبني على النوع الاجتماعي" محوراً أساسيّاً في النقاشات الحقوقية والسياسات العمومية. غير أن التبني المفرط "للعنف الجندري"، لم يصاحب دائماً بنقد عميق لسياقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى الحد الذي صار يُستخدم أحياناً لإخفاء أشكال أخرى من العنف، على نحو يجعله يتماشى في غالب الأحيان مع رؤية نخبوية، تتجاهل تنوع وتعقيد تجارب النساء. ضمن هذا السياق، كثيراً ما نجد أن النخب المهيمنة في تونس تتبنى بشكل فج الخطابات النسوية الغربية، التي تصوِّر النساء في المجتمعات غير الغربية كضحايا تحتاج إلى ’’التحرر"، على نحو يتجاهل الأنظمة الاجتماعية والثقافية التي تؤطر تجربة النساء مع العنف. يمكن تفسير الاستخدام المفرط لفكرة "العنف المبني على النوع الاجتماعي"، بالضغط الذي تمارسه المنظمات الدولية، التي صارت تفرض معايير محدَّدة على الحكومات مقابل التمويل، وهو ما أسهم في إنتاج خطاب معياري حول العنف ضد النساء، يركز على التصورات الغربية لحقوق المرأة، في حين يُهمل العوامل العميقة، التي تؤثر على حياة النساء في الأوساط الفقيرة المهمشة. فبدلاً من تحليل الجذور الاقتصادية والسياسية للعنف، يتم الاكتفاء بتقارير جاهزة، تغذيها لغة بيروقراطية حقوقية تخدم أجندات المموِّلين الدوليين أكثر مما تعكس الواقع المحلي، وهو ما أسهم في إنتاج رؤية محدودة للعنف، بينما تظل النساء الأكثر هشاشة يعانين في صمت. هذا التبني الإيديولوجي غير النقدي لمفهوم العنف الجندري يحول القضية إلى مجرد خطاب، يكرِّس علاقات الهيمنة القائمة، حيث يتم توظيف "تحرير المرأة" في خدمة مشاريع معينة داخل الدولة والمجتمع المدني.
ضمن هذا السياق جرى اختزال العنف ضد النساء إلى مجرد مشكلة قانونية، بحيث صارت المقاربة السائدة تركِّز على التشريعات كوسيلة - أحياناً وحيدة- لمكافحة العنف. وعبره صارت الجمعيات النسوية والحقوقية تركز على سن القوانين، وتعديل النصوص القانونية، وإدماج المصطلحات الحقوقية في الخطاب السياسي، من دون أن ترافق ذلك سياسات فعلية، تعالج الفقر والبطالة والتمييز الاجتماعي وصعوبة الولوج إلى العدالة.
التركيز على القوانين وحدها قد يفضي إلى اختزال العنف ضد النساء، في "عيب" غياب الحماية القانونية، بينما هو جزء من علاقات قوة تاريخية تتجدد باستمرار. فحتى عندما تُسنّ قوانين لحماية النساء، تظل المؤسسات المسؤولة عن تنفيذها متأثرة بالتراتبيات الجندرية، مما يؤدي إلى تعطيل وصول النساء إلى العدالة، أو حتى إعادة إنتاج العنف بطرق بيروقراطية وغير مباشرة.
لا تستطيع أغلب النساء اللاتي يتعرضن للعنف في الأوساط الفقيرة والمناطق الريفية، تقديم شكاوى قانونية، حتى حينما يَعينَ إمكانية ذلك رسمياً، ويتخلصن من الاستكانة إلى فكرة أن العنف ضدهن أمر "طبيعي" بل "مشروع"، وذلك بسبب تعقيدات الإجراءات، ولعدم امتلاكهن الموارد المالية أو الاجتماعية اللازمة لمتابعة القضايا، وهو ما يجعل اللجوء إلى العدالة امتيازاً لا يتاح إلا للنخب.
في هذا السياق، تمّ في تونس إصدار كثيرٍ من القوانين المناهضة للعنف ضد المرأة، مثل القانون الأساسي رقم 58 لسنة 2017، الذي يجرِّم العنف الجندري ويوسع تعريفاته ليشمل العنف الاقتصادي والنفسي. لكن، التركيز المفرط على الجانب القانوني، خلق وهماً بأن حلَّ العنف ضد النساء يكمن فقط في التشريع!
في تونس تعاني النساء من صعوبة الوصول بشكل سلس إلى العدالة، نتيجة ضعف الدعم القانوني المجاني، وتعقيد الإجراءات القضائية، مما يجعل القانون أداة شكلية لا تخدم سوى الفئات النسائية القادرة على التعامل مع النظام القانوني. في هذا الصدد، تشير تقارير عديدة إلى أن أغلب النساء اللاتي يتعرضن للعنف في الأوساط الفقيرة والمناطق الريفية، لا يستطعن تقديم شكاوى قانونية، حتى حينما يَعينَ إمكانية ذلك رسمياً، ويتخلصن من الاستكانة إلى فكرة أن العنف ضدهن أمر "طبيعي"، بل و"مشروع"، وذلك بسبب تعقيدات الإجراءات، ولعدم امتلاكهن الموارد المالية أو الاجتماعية اللازمة لمتابعة القضايا، وهو ما يجعل اللجوء إلى العدالة امتيازاً لا يتاح إلا للنخب، بينما تُترك النساء الأكثر هشاشة خارج النظام القانوني تماماً. وهكذا صارت المنظمات التي تعمل بمثابة "خبراء في الجندر" في تونس، امتداداً إلى البيروقراطية الدولية، بدلاً من أن تكون أدوات حقيقية للتغيير الاجتماعي.
مشاريع تشغيل النساء الممولة دولياً: تكريس العنف البنيوي بواجهة تنموية
إلى جانب التركيز القانوني الضيق على العنف ضد النساء، لعبت المنظمات الحقوقية والمؤسسات المالية الدولية، وأبرزها البنك الدولي، دوراً في إعادة تشكيل الاقتصاد النسوي في تونس وفق مقاربة نيوليبرالية، تخدم مصالح السوق أكثر مما تحمي النساء من العنف الاقتصادي. فمن خلال برامج دعم "ريادة الأعمال النسائية"، وتمويل المشاريع الصغرى، وتعزيز "التمكين الاقتصادي للمرأة"، يتم الترويج لمشاريع في ظاهرها داعمة للنساء، لكنها في الواقع تعيد إنتاج هشاشتهن داخل بنية اقتصادية غير عادلة. في هذا الصدد يروج البنك الدولي، إلى جانب منظمات الأمم المتحدة، وهيئات "الاتحاد الأوروبي" لفكرة أن تشغيل النساء هو الحل الأساسي لمقاومة العنف ضدهن. فيتم دعم النساء الفقيرات عبر قروض صغرى أو مشاريع اقتصادية صغيرة، أو إدماجهن في سوق العمل غير المستقر، من دون مساءلة البنية الاقتصادية، التي تجعل النساء في وضع هش منذ البداية.
هذه السياسات لا تعالج أسباب الفقر، بل تكرس إعادة إنتاجه من خلال تحويل "العدالة الاجتماعية" إلى مجرد إدماج فردي في السوق، ويتم تحميل النساء مسؤولية خروجهن من الفقر عبر مشاريع فردية، حيث تُدفع النساء نحو مشاريع غير مستدامة، لا تضمن لهن الاستقلال المالي الحقيقي. فالقروض الصغيرة التي يتم الترويج لها كحل لمشاكل النساء في المناطق الفقيرة، تؤدي في الغالب إلى مديونية مرتفعة، حيث تجد النساء أنفسهن مضطرات لسداد الديون بفوائد عالية، من دون وجود ضمانات لدعم مشاريعهن على المدى الطويل. وبدلاً من أن تصبح هذه المشاريع وسيلة لتحسين أوضاعهن، تتحول إلى عبء إضافي يزيد من هشاشتهن الاقتصادية، إذ إن تلك المشاريع والبرامج تعتمد على فكرة ’’ الفرد المسؤول’’، الذي يجب أن يجد الحلول بنفسه، بدلاً من مساءلة الدولة ودورها في حماية الفئات الهشة. في هذا الإطار يتم الترويج للمرأة " كرائدة أعمال" بدلاً من الاعتراف بها كعاملة، بحاجة إلى حماية اجتماعية وضمانات اقتصادية تمنع استغلالها.
يمكن تفسير الاستخدام المفرط لفكرة "العنف المبني على النوع الاجتماعي"، بالضغط الذي تمارسه المنظمات الدولية، التي صارت تفرض معايير محدَّدة على الحكومات مقابل التمويل، وهو ما أسهم في إنتاج خطاب معياري حول العنف ضد النساء، يركز على التصورات الغربية لحقوق المرأة، في حين يُهمل العوامل العميقة، التي تؤثر على حياة النساء في الأوساط الفقيرة المهمشة.
التركيز على دعم النساء من خلال آليات السوق، يخدم في النهاية النخب الاقتصادية والشركات الكبرى، أكثر مما يخدم النساء الفقيرات. فالخطابات التنموية التي تروِّجها المؤسسات الدولية، غالباً ما تُستخدم كأدوات سياسية لخلق صورة عن "الدولة التقدمية"، التي تدعم حقوق المرأة، بينما تستمر الهياكل الاقتصادية الظالمة في إنتاج العنف ضدهن. في تونس، تمول هذه البرامج من قبل البنك الدولي، تحت شعار "تمكين المرأة اقتصادياً"، لكنها في الواقع تؤدي إلى دمج النساء في قطاعات عمل هشة، مثل الحرف اليدوية والصناعات التقليدية والفلاحة، حيث يعملن من دون حماية اجتماعية، وبتفاوتات كبيرة في الأجور.
العنف والصمت وقتل النساء: الانحدار نحو اليومي
بدل التركيز على العنف من خلال الإحصائيات والقوانين وبرامج الحماية الرسمية، يجب الاقتراب أكثر من تجارب النساء أنفسهن لنفهم كيف يُعاش العنف، وكيف يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، حيث يتراكم ويتحول إلى معاناة عادية، وتصبح الجروح غير مرئية لأنها جزءٌ من الروتين.
في تونس كثير من النساء لا يبلغن عن العنف، ليس لأنهن لا يدركن خطورته، بل لأنهن تَعلمنّ التعايش معه، وإعادة تشكيله ضمن معادلات الحياة اليومية. في الأحياء الفقيرة، مثلاً، حيث تعاني النساء من العنف الاقتصادي والعنف المنزلي، لا يجدن دائماً خياراً سوى التأقلم، عبر استراتيجيات تفاوضية، تتيح لهن الاستمرار في الحياة، من دون مواجهة مباشرة مع العنف الذي يحيط بهن. وبالتالي، فالصمت الذي يحيط بالعنف ضد النساء في تونس ليس مجرد نتيجة للقمع أو الخوف، بل هو شكل من أشكال التعايش مع العنف في ظل غياب بدائل حقيقية. ذلك لأن المعاناة عندما تصبح جزءا من الحياة اليومية، تأخذ أشكالاً تعبيرية مختلفة، قد لا تكون صريحة أو مباشرة، بل مبثوثة في اللغة، والتصرفات، وفي الصمت نفسه، وفي التفاعلات الاجتماعية، وفي البنى العائلية.
في الغالب، تؤدي القروض الصغيرة، التي يتم الترويج لها كحل لمشاكل النساء في المناطق الفقيرة، إلى مديونية مرتفعة، حيث تجد النساء أنفسهن مضطرات لسداد الديون بفوائد عالية، من دون وجود ضمانات لدعم مشاريعهن على المدى الطويل. وبدلاً من أن تصبح هذه المشاريع وسيلة لتحسين أوضاعهن، تتحول إلى عبء إضافي يزيد من هشاشتهن الاقتصادية.
ضمن هذا السياق، يمكن فهم حالات جرائم قتل النساء في تونس، حيث إنها لا تأتي بشكل مفاجئ، بل هي الذروة القصوى لمسار طويل من العنف الرمزي والجسدي والاقتصادي الذي تعيشه النساء يومياً. فكثير من جرائم قتل النساء تأتي بعد سنوات من العنف الأسري والإقصاء الاجتماعي والتطبيع مع المعاناة. هنا، يصبح العنف تدريجياً، يتفاقم بصمت حتى يصل إلى لحظة الانفجار. إن فهم هذه الجرائم لا يتطلب فقط تحليل دوافع القاتل، بل أيضاً تفكيك الظروف، التي جعلت الضحية تعيش في علاقة غير متكافئة لفترة طويلة من دون تدخّل فعال من الدولة أو المجتمع. فحين تقتل امرأة بعد تقديمها لشكاوي متكررة عن العنف، بدون أن تتحرك السلطات، حينها لا تكون الجريمة فقط فعلاً فردياً، بل تصبح الدولة شريكاً صامتاً في إنتاج العنف ضد النساء.
من ناحية أخرى، يرتبط العنف، وجرائم قتل النساء في تونس، بتحولات مؤلمة تعيشها الذكورية التقليدية نتيجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مما يدفع بعض الرجال إلى محاولة استعادة سلطتهم عبر العنف المفرط. ذلك أن الأزمات الاقتصادية كثيراً ما تؤدي إلى أن يعوِّض الرجال فقدانهم للسلطة بمزيد من السيطرة على النساء. فهذه تعد وسيلة لاستعادة الشعور بالهيمنة، في بيئة تفقد فيها الذكورية التقليدية أسسها القديمة. بالمقابل، العنف وقتل النساء لا يحدث في الفراغ، بل يتم تبريره ثقافيّاً، عبر خطابات تضع اللوم على الضحية، أو تقلل من أهمية الجريمة، ذلك أن الخطاب الثقافي حول "الشرف" و"الطاعة" و"السلوك المقبول" يُسهم في تبرير العنف ضد النساء، حتى في أكثر السياقات حداثة.
______________________
- بحسب مفهوم homo sacer عند "جورجيو أغمبين"، حيث تصبح النساء المعنفات شبيهات بتلك الشخصية التي يتحدث عنها: كائنات محكومة بالعنف، لكن لا يُعدّ قتلهن جريمة، لأنهن وُضعن في منطقة رمادية، بين الحياة والموت الرمزي. ↑
- بحسب عالمة الانتروبولوجيا الهندية الراحلة "فيينا داس"، في كتابها الصادر بالإنجليزية عام 2006 : ’’ الحياة والكلمات، اعتياد العنف وأصوله". ↑