منذ أربعة عقود تقريباً، وصورة بغداد مرتبطة بالحروب والقتال والميليشيات الطائفية. حتى يخيل للمرء أحياناً، وكأن قدر هذه المدينة أن يبقى لصوص «علي بابا الأربعون حرامي»، وهم يتنقلون بين أزقتها ليلاً، دون أن يتيحوا لأهلها النوم بهناء ولو ليوم واحد. وفي مقابل هذه الصورة اليومية، هناك من حاول أيضاً الهروب من هذا الواقع القاتم، عبر الحديث عن بغداد العباسية، وقصورها، وزمنها الذهبي.
ومقابل هاتين الصورتين، يمكن الحديث أيضاً عن صورة ثالثة، أخذنا نقرأ عنها في السنوات الأخيرة، من خلال عدد من المذكرات والسير الذاتية، التي تحدثت عن بغداد النصف الأول من القرن العشرين، حتى السبعينيات تقريبا، والتي تبدو فيها المدينة وهي تعيش فصولاً من الحداثة المدينية، على صعيد الثقافة اليومية، من موسيقى، ولباس، وفضاء عام، وولادة نخب أكثر انفتاحاً على العالم، مقارنة بنخب ما بعد الثمانينيات. ومع هذه المواد الجديدة عن المدينة، أصبحت أمامنا صور أخرى عن بغداد القرن العشرين، وهي صور تقول إن المدينة شهدت انعطافة تاريخية مع بدايات القرن العشرين، وإن هناك نخباً عاشت فيها، وكانت تطمح لصياغة مجتمع آخر غير المجتمع التقليدي، لكن ظروف السياسة في الستينيات، ولاحقاً الحرب كانت كفيلة بتفريغ البلاد، وجعلها لاحقاً مسرحاً للأحداث الطائفية.
وفي سياق البحث عن هذه الصورة، كان الكاتب العراقي علي عبد الأمير عجام، قد حاول قبل سنوات في كتابه «يا أم الفستان الأحمر» رصد تفاصيل من حداثة بغداد الغنائية خلال الخمسينيات، ومما لاحظه يومها أن الموسيقى العراقية هي موسيقى الفرح بامتياز خلال هذه الفترة، وأن هناك نخبا وسطى كانت تبدو أكثر انفتاحاً وأملا بالحياة، ولذلك فقد تبنت الجانب المرح من الأغاني، وهو ما نراه مثلا في أغاني ناظم غزالي، الذي مثل مطرب الطبقة الوسطى العراقية في الخمسينيات، وبالتالي مع جهود عبد الأمير كنا نرى أن الأغنية العراقية، وخلافاً لمن يراها مرتبطة بالحزن منذ أيام «الإله تموز»، كانت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين البغدادية، تعكس صورة من صورة الحداثة. ولعل هذا الاكتشاف المتعلق بموسيقى بغداد وأهلها في الخمسينيات، هو ما دفع الكاتب ذاته للحفر أكثر في تاريخ المدينة في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى السبعينيات تقريباً، ما سمح له بالكشف أيضا عن صور أخرى غير مروية. ففي كتابه الصادر قبل فترة بعنوان «الاغتراب الجميل» ـ دار الرافدين، حاول علي عبد الأمير تتبع قصص أخرى من حياة البغداديين المرتبطة بالحداثة (التي يصفها بالاغتراب الجميل)، من مراكز ثقافية، إلى شوارع المدينة ومقاهيها، مروراً بصناع الثقافة فيها، محاولاً من خلال ذلك كما ذكرنا رسم صورة أخرى عن المدينة وأهلها، غير الصورة الطائفية أو السوداوية التي عاشتها المدينة بعيد عام 1991 وحتى الحرب الأمريكية على المدينة عام 2003. يعتقد عبد الأمير أن من بين أبرز ملامح الاتصال «الجديد» لبغداد مع العالم، تمثل في الانفتاح على وسائل الثقافة الجديدة، ومن بينها اسطوانات الموسيقى، سماعاً وإنتاجاً، فلم يعرف الجمهور البغدادي وسائل الترفيه والتسلية سوى النزهات في البساتين والحدائق في المناسبات. وكانت النزهة محظورة على النساء حتى وقت متأخر من عشرينيات القرن الماضي، وكانت وسائل التسلية واللهو مباحة للرجال، ومقتصرة على المقاهي وما يقدم فيها من حفلات غنائية وموسيقية.
وقد دخل الفونوغراف أو «الصندوق المغني» بغداد في عام 1893 وهو صندوق كان يذيع الأسطوانات الموسيقية القديمة، لكنه ظل فضلاً عن أغلب الوسائل الحديثة (التليغراف، السينما، الراديو) بعيداً عن عامة الناس حتى عام 1925، أي بعد مرور ما يقارب أربع سنوات على تشكيل الحكومة العراقية بزعامة الأسرة الهاشمية، والبدء بتأسيس دولة حديثة كانت أقرب إلى المستحيل لكون» الملل والنحل العراقية متفرقة ويصعب جمعها وقيادها»، كما قال الملك المؤسس فيصل الأول في رسالته المتألمة على أحوال العراق والتي دوّنها أواخر حياته.
اشتهرت أصوات أشهر المطربين العراقيين ومن بينهم مطرب العراق السيد محمد القبانجي، ومطرب الموصل السيد سلمان الموصلاوي، كما أنشئت محال في خان دلة في بغداد لبيع الجملة والمفرد، وكذلك فونوغرافات بقيمة 50 روبية. بالتوازي مع هذا المشهد، نرى في مكان آخر في بغداد، شارع الرشيد، ببيوته ورواد مقاهيه، الذين كانوا في الغالب من عابري السبيل. لكن لم يكن يخلو أي مقهى من زاوية تجتمع فيها نخبة من الأدباء، أما شارع أبي نواس الذي يسير بمحاذاة نهر دجلة، فمقاهيه معدة لاستقبال المتسكعين كل مساء، على أمل الظفر بمجلس يدنيه من شاطئ النهر المنساب بكثير من البطء والتثاقل. ولعل في مشهد شارع الرشيد وحداثة المدينة، ما يذكرنا بما كتبه أيضا المعماري العراقي الراحل رفعة الجادرجي في كتابه «مقام الجلوس في بيت عارف آغا»، الذي رصد فيه حياة عائلة من الحي (بيت جده)، وتطورات بيت هذه العائلة، بدءاً بالشكل الخارجي وزواج جده من سيدة تركية في بدايات القرن العشرين (الحداثة الجديدة)، مروراً بالتغييرات على مستوى أثاث البيت، ورفض جده لاحقاً الجلوس على الكراسي الجديدة (الكلاطخ)، وهو ما اعتبره يومها الجادرجي دليلاً ثقافيا على طبيعة العقلية العراقية، التي ظلت ترفض الجلوس على كراسي الحداثة، لصالح الجلوس على الأرض (التشبث بالتقليد)، في حين من يقرأ كتاب الأمير، يلاحظ أن النخب العراقية لم تتشبث بالتقليد بالضرورة كما ذهب لذلك الجاردجي، والذي ظل مولعاً بالتفسيرات الثقافية أحيانا في قراءته للعقل البغدادي والعربي عموما، وإنما نرى أن هذا التدهور في أحوال النخب العراقية، ناجم بالأساس عن تدهور وسلطوية الدولة العراقية الحديثة، والتي دفعت البلاد لمغامرات ومذابح لا تتوقف، ما دفع في النهاية إلى ولادة كائن الفرنكشتاين البغدادي (وفق عنوان رواية أحمد سعداوي)، الذي ظهر بهيئته المسخة في شوارع بغداد بعيد عام 2003، كتعبير ونتاج تاريخ طويل من عنف الدولة العراقية المعاصرة من ناحية، ونتاج أيضا الميليشيات الطائفية العابرة للحدود، الشيعية منها والسنية، التي اجتاحت البلاد. ولعل ما يدعم هذه الخلاصة من دور الدولة والفضاء السياسي السلبي في تحطيم الشخصية البغدادية، والحداثة العراقية عموما، هو ما نرصده في تتبع الأمير الممتع لسيرة عائلة «جقماقجي» الموصلاوية، التي عملت في تجارة الأسطوانات وأجهزة الغرامفون، والتي تمثل بحسب الأمير «قصة العراق المعاصر في صعوده واعداً وانهياره متشظيا». كانت هذه العائلة قد عرفت في الفترة العثمانية بالعمل في تجارة السلاح، لكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وفي ظل التطور التعليمي في الموصل والعراق عموماً، قرر أحد أفراد العائلة التوجه نحو تجارة الأسطوانات الموسيقية. بعد ذلك قررت العائلة في عام 1938 الانتقال إلى بغداد وافتتاح فرع لأعمال جقماقجي في منطقة الحيدرخانة في شارع الرشيد الذي كان المركز التجاري الأحدث حينها، والأنشط لاحقا في قلب العاصمة، وكان ذلك قراراً ذكياً وخياراً مدروسا، فبغداد كانت قد قطعت شوطاً طويلاً في الحداثة، حسب الأمير، وهناك تنبه عميد العائلة إلى أن عمله في توزيع الاسطوانات عبر شراكته مع علامات عربية ودولية شهيرة في الإنتاج الموسيقي والغنائي لم يعد ميزة، فكان القرار بالتحول إلى الإنتاج الغنائي والموسيقي، عبر إنشاء ستوديو متطور للتسجيل وانتداب أبرز العازفين ناهيك عن شعراء الأغنية والملحنين وأهل الطرب، من عراقيين وعرب وجدوا في بغداد فسحة تحتضن أصواتهم وتقدّرها حق التقدير وكانت الأغنيات والمقطوعات الموسيقية تسجل في استديو الشركة في بغداد وترسل على شكل أشرطة لطباعتها كاسطوانات في السويد لفترة، ومن ثم يتم طبعها في اليونان. لاحقا استطاعت الشركة أن تنجو من التحولات الصاخبة سياسياً واجتماعياً منذ عام 1958 حتى أواسط الثمانينيات، حين بدأت الحرب تطحن الشباب وأبناء الطبقة المتوسطة، وهم الأكثر إقبالا على إنتاج جقماقجي، الذي أظهر تكيفاً مع التطورات التكنولوجية لجهة التحول من الاسطوانات والأشرطة الدوارة الكبيرة إلى الأشرطة المضغوطة (الكاسيت). إلا أن تأميم قطاع الغناء والموسيقى من قبل الدولة أفقد جقماقجي حيوية تأثير ذوقية وإنتاجية، ناهيك من سلبها حقوق التأليف والنشر الخاصة بها، عبر الاستيلاء على إنتاجها من الغناء والموسيقى من قبل مؤسسات الحكم الإعلامية، دون مراعاة لحقوق الملكية الفكرية، ومن ثم جاءت ظروف حرب الخليج الثانية عام 1991 لتضعف جقماقجي في منتصف التسعينيات، حتى الغزو الأمريكي للبلاد في عام 2003 إذ تعرضت بما فيها من نفائس لا تقدّر بثمن للسلب والنهب والتخريب، وبذلك ضاع ملمح ثقافي آخر من ملامح عراق أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته الملهمة والرائدة، ولتغلق القصة نهائياً مع إغلاق الشركة أبوابها كلياً في عام 2008، لتضيع بذلك صورة، وحياة أخرى، من صور بغداد الجميلة، التي ستبقى جميلة في خاطرنا دوماً، رغم كل الصعاب والشجون.
محمد تركي الربيعو
كاتب سوري