في السماوة، تُمنَع "جامعات الملح" من الوصول إلى مصدر رزقهن الوحيد، بعدما استحوذ مستثمر على المملحة الوحيدة في المنطقة، وفرض سيطرته على الملح الأبيض... تحقيق عن نساء أبعدن عن العمل بالعنف والقوة.
على بعد 30 كيلو متراً إلى الجنوب الغربي من مدينة السماوة، تقع مملحة السماوة، منطقة غنية بالملح، وكانت لعقود مصدرَ رزقِ نساء يعملن بصبر، ويصارعن التقاليد الاجتماعية، ومشقّة لقمة العيش، ومطامع المستثمرين.
أم نورة (33 عاماً)، بدأت العمل منذ كانت طفلة صغيرة ترافق أمها، واستمرت فيه إلى أن تزوجت. لديها أطفال الآن، وزوجها مريض لا يستطيع العمل وراتب الرعاية الاجتماعية الذي تحصل عليه لا يكفي العائلة، لذلك تذهب كل صباح مع أربع نساء أخريات إلى مقلع الملح.
تجمع أم نورة مع النساء الأخريات الملح ويحملنه إلى منطقة قريبة من البيت، يعبئنه في أكياس ويبعنه، يساعدن بعضهنّ في المشقّة كلّها، “بناتي يشاركنني في مرحلة تعبئة الملح”، تقول أم نورة.
في الماضي كان هناك الكثير من النساء اللاتي يعملن في جمع الملح، لكن الآن تراجع العدد بشكل كبير بسبب قيام المستثمر بطمر الآبار التي كانت تحتوي عليه، والتي كانت توفر لقمة العيش للناس، “هناك مواقع ملحية بعيدة عن أي مشروع تابع له، لكنه لا يسمح لأحد بالعمل فيها”، فلم يتبقَ سوى المقالع التي تعمل بها أم نورة وإن كانت مساحاتها ليست كبيرة.
المقالع التي تعمل فيها النساء ليست مثل آبار المياه التي تُحفر بأعماق بعيدة، حيث يتوفر بواسطتها الملح بشكل أسرع، لأن كميات المياه في المقلع قليلة وبالتالي، فإن الملح الذي يتجمّع فيها تكون نسبته أقل، لأن المقلع عبارة عن حفرة تحتوي على عيون مياه جوفية أو مياه الأمطار، ومع الوقت يتجمع فيها الملح.
تشكو النساء من تحكم المستثمر بالمقالع القريبة من المعمل، من خلال تنصيب مضخات لسحب المياه من العيون المائية، فعندما يشغّلها تقلّ كمية المياه، ويقوم بذلك عمداً لزيادة سيطرته على مساحات الملح.
تبيع أم نورة كل مئة كيس من الملح بـ 50 ألف دينار عراقي (33 دولار أمريكي)، وعندما تكمل عملية جمعه وتعبئته بأكياس تبيعه لأصحاب المحلات الذين يأتون لشراء كيس الملح الواحد بمبلغ (500) دينار.
وراثة الملح
تقول خولة (43 عاماً) من سكنة منطقة المملحة، “آني أشتغل بهاي الشغلة من 25 سنة وما اعرف غيرها”، تعتمد في عملها على الحُفر التي تمتلئ بالماء خلال فصل الشتاء، حيث يتصلب فيها الملح ويصبح جاهزاً للجمع في فصل الصيف، وتقوم بدورها بجمعه باستخدام عربات صغيرة تُعرف بـ “الكاروبة”، تجمع كمية كافية من الملح تكفي لملء سيارة كبيرة (لوري).
سعر (اللوري) يتراوح بين 600 ألف إلى 700 ألف دينار (400 دولار أمريكي)، وهذا العمل الشاق جداً يستغرق أسبوعاً أو أكثر، وتعمل فيه مجموعة مكونة من خمس إلى ست نساء، بتعاون وصبر كبيرين، “مرات نبيع سيارات مرات نعبي الملح بأكياس ونبيعه ومرات المعمل يطلبنا نحمل الملح مقابل أجور يومية”.
جامعات الملح يتفقن على تقسيم الأماكن، حيث يكون لكل واحدة مكان محدد تعمل فيه، وغالباً ما يكون المكان الذي تختاره المرأة هو الذي كانت أمّها تختاره في السابق وتجمع فيه الملح، “إنها وراثة الملح”، تقول خولة وتضحك.
تحدث أحياناً خلافات حول الأماكن، لكن في النهاية، عندما تتفق النساء يعملنَ معاً، “نستطيع تحميل العربة في غضون خمس دقائق فقط”.
يُستخدم الملح لأغراض عديدة فهو ضروري لصناعة الطرشي، كما أن مربي الماشية يأخذون كميات منه لخلطها مع النخالة والشعير لتغذية الحيوانات، أما في البساتين، فيتم خلطه مع التربة عند الزراعة لمنع انتشار الديدان، تقول خولة مع ابتسامة تملأ وجهها، “ذكرتني بأيام الملح الحلوة وحركتي روحي جانت الشغلة بواهس ولمة حلوة وكسب مال”.
الجدة بنية
الجدّة بنية (66 عاماً) كانت تعمل هي وعائلتها في جمع الملح منذ طفولتها، وكانت أرض المملحة غنية بالملح، نتيجة لوفرة حفر الآبار صغيرة لاستخراج المياه الجوفية أو من خلال الاستعانة بمياه الأمطار في فصل الشتاء، وبعد ذلك يتكوّن الملح، يستخرج من “النگرة/الحفرة” في فصل الصيف وتجمعه النساء على حافة المقلع ثم مرحلة التعبئة في الأكياس. بعد ذلك يُترك لمدة أسبوعين، ثم يتبلور مرة أخرى، ثم يُجمع في مرحلته الأخيرة.
استلمت الحكومة آنذاك المنطقة، وشرعت في حفر عشر مقالع باستخدام الحفارة، حيث كانت تتراوح أحجامها بين مترين إلى ثلاثة أمتار، “من أدخل ألكي الملح رايب وجان الملح اللي نطلعه نظيف وأبيض مثل الشب”، تصف الجدة بنية ذلك الملح الذي كُنَّ يستخرجنه.
يُشحن الملح في عربات يجرّها حصان، ثم يُنقل إلى المنطقة التي يُجمع فيها، وكان هنالك موظف حكومي يراقب سير العمل ويجهز جامعات الملح بأكياس لملئها، وكانت النساء يتقاضين خمسة دنانير عن كل مئة كيس، والهدف كان تحقيق الرقم الذي يتراوح بين 200 إلى 300 كيس يومياً، فهذا العمل هو مصدر رزقهنّ الوحيد.
كان المراقبون الحكوميون يدفعون لهنّ كلّ نصف شهر مبلغاً من المال، من خلال حساب كمية الملح الناتج الذي يُعبّأ في هذه المدة، وكانت الجدّة بنية ومثلها بقيّة النساء، تعمل مع الدولة بعقد عمل، وحصلت على هوية عمل تتيح لها الاستمرار بوصفها “عاملة جمع ملح” بشكل رسمي للحكومة، التي بدورها تبيعه للتجار من بغداد والشمال والمحافظات الأخرى.
نساء المنطقة كنَّ يعملن بمجموعات كبيرة، يصل تعداد المجاميع تلك إلى حوالى 400 امرأة، ولكن لم تكن النساء هنَّ العاملات الوحيدات في جمع الملح، كل أفراد الأسرة يعملون في المملحة، رجالاً ونساء.
كانت المجموعة تتكون من أربع نساء، يتولين تحميل عربة واحدة ويبقين حتى وقت المغرب، ويتناولن الغداء معاً ويشربن الشاي معاً، “لم نواجه أي صعوبات في عملنا، بل كنا نشعر براحة كبيرة وحماس. وكثيراً ما أحببنا هذا العمل ولم يسبب لنا أيّ ضرر صحي أو مشاكل جلدية بالعكس “المملحة دوه”. استمرّت الجدّة بنية على هذا الحال حتى نهاية الثمانينات.
بعد ذلك، بدأت الحكومة بإنشاء مصنع، مما أثر على استمرار عملهن، فقد تغيّر الحال، وأصبحت النساء في المنطقة يُستدعَين للعمل في تعبئة الأكياس مقابل أجور، ولكن لفترات قصيرة وغير منتظمة، وأصبحن يجمعن الملح من أحواض كبيرة مملوءة بالماء والملح باستخدام “الكرك/مجرفة صغيرة”، كانت العربات “الكاروبات” تصطف بجانبهن ويقمن بتحميلها، وهذه “الكاروبات” إما مملوكة لأبناء المنطقة أو كانت تحت تصرّف موظفي المعمل.
احتجاج العاملات
سكان منطقة المملحة من الطبقة الفقيرة، وقد أحيل معمل الملح إلى أحد المستثمرين، فعمد إلى “قطع أرزاق الناس”، كما تصف خولة، “أنشأ قناة مياه كبيرة تمنع الناس من العبور إلى المملحة، وأصبح يرسل دوريات شرطة مع ضباط لمنعنا من الوصول إلى منطقة جمع الملح”.
“أجونا الشرطة أكثر من مرة وانطونه تبليغ بعدم جمع الملح بحجة انه احنه نسرق أموال الدولة فردينا عليهم بانه هاي مو سرقة لأن هذا شغلنا من زمان، بالأخير هددونا ببنادقهم قالوا الّي ما تطلع نقتلها هنا، او نذبها سجن لأن هذا أمر من الوزارة”.
وتردف خولة بأن النساء الكبيرات في السن اللواتي يعملن معهن واجهن الشرطة وشرحن لهم أوضاع عملهن، لكن دون جدوى. بعد ذلك نظّمن مظاهرات وقطعن الطريق، وصرخن “هذا رزقنا! الملح الي مجمعي وتعبانين عليه اجوا فتحو الماي عليه والمستثمر حاربنا لأن ما يريد أحد يشتري ملح من غيره”.
كنَّ أكثر من 25 امرأة، اندلعت مشادات كلامية بينهنَّ وبين الشرطة، إلا أن الرجال رفضوا أن تُهان نساؤهم فتصاعدت الأمور حتى انضموا إلى الاحتجاجات لاحقاً، وجاءت المدرّعات التابعة للجيش، وأقدم الرجال على حرق إحداها.
بحسب خولة، فقد اعتقلت الشرطة شقيقة زوجها، بعد أن اعترضت على قيام بعض العناصر من الشرطة بفتح الماء على الملح الذي جمعته بتعب استمرَّ أياماً طوال، فتسببوا بضياعه بشكل كامل، وفي لحظة اعتقالها تدخّل ابنها الأكبر لحمايتها وواجه الشرطة، ثُمَّ اعتُقل بديلاً عن والدته، وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر.
تصف خولة كيف بذلوا جهوداً كبيرة واستعانوا بالوساطات ودفعوا مبلغ ثلاثة ملايين و500 ألف دينار لإخراجه من السجن. وبعد هذه الحادثة قررت العائلة التوقف عن العمل في جمع الملح.
احتجاج أكبر
عام 2015 أُحيل معمل الملح للاستثمار، وصف أهالي المنطقة وعمال المعمل حينها هذه الخطوة بالاستثمار الفاسد، فشركة الملح كانت رابحة وتعمل بكفاءة عالية بحسب العاملين، “الوزارة أرسلت لجنة لتقييم المعمل، وأعطت تقريراً يفيد بتهالكه، في حين تم تجهيزه بمعدات جديدة قبل نحو عام من قبل الوزارة”، وفي العام نفسه صرّح مدير المملحة أنَّ الإنتاج بلغ 200 ألف طن، محققاً إيراداً مادياً بلغ نحو 6 مليارات دينار عراقي.
فالح الزيادي محافظ المثنى السابق قال في العام ذاته، إنَّ المنشآت التابعة لوزارة الصناعة والمعادن لم تشهد أي تطوير بعد إحالتها للاستثمار، “جرت الإحالة في ظروف غامضة وبطرق غير مدروسة..”، وفي السياق ذاته رفض مجلس المحافظة قرار الوزارة، لكن الأخيرة تجاهلته بحجة تداخله مع صلاحياتها. وأوضح المجلس أنَّه بصدد رفع دعوى قضائية على وزارة الصناعة لمنع إتمام تعاقد استثمار المملحة.
عام 2017، منع مجموعة من الصحفيين من تغطية أيّ موضوع عن الاستثمار في معمل الملح، وتعرض مراسل قناة الحرة والمربد ومراسلين آخرين إلى الضرب والسب والشتم من قبل عناصر عسكرية تابعة لقيادة عمليات الرافدين (سومر حالياً)، أثناء تغطيتهم لحدث التظاهرات في مملحة السماوة، وقامت القوات باحتجاز الكاميرا والهواتف الشخصية لطاقم الحرة، رغم حصولهم مسبقاً على موافقة مكتب المحافظة لدخول المنطقة والتصوير.
المملحة
بدأ معمل مملحة السماوة الإنتاج عام 1989، بمعدل طاقة إنتاجية تبلغ 200 ألف طن في السنة من ملح الطعام المغسول بنقاوة 98 بالمئة، وهذه طريقة تعتمد على إذابة الملح الصخري بطبقة عمقها سبعة أمتار في المنخفض، وتملك المملحة رصيداً احتياطياً بنحو 45 مليون طن من الملح الخام، لم يستخرج منها سوى عشرة بالمئة.
عام 2023 كشفت الشركة العامة للصناعات التعدينية عن خطة لرفع الطاقة الإنتاجية لمملحة السماوة إلى 500 ألف طن سنوياً من الملح الصناعي الخام والمغسول، ضمن عقد الشراكة مع إحدى شركات القطاع الخاص.
وذكر حيدر جبار مدير عام الشركة أن مؤسسته قامت بزيادة عدد أحواض الترسيب من 10 أحواض إلى 15 حوضاً ضمن خطة زيادة الإنتاج، وأوضح أن المملحة تمتد على مساحة 25 كيلو متر مربع، وشهدت أيضاً زيادة طول الحزام الناقل من 480 متر إلى 650 متر.
علي حنوش، خبير بيئي وعضو مجلس محافظة المثنى سابقاً، يتحدث لجُمّار عن أبرز الأضرار البيئية الناتجة عن هذه العمليات، مثل استنزاف المياه الجوفية المالحة وتخزينها في الأحواض، حيث تستهلك نحو 20 متراً مكعباً من المياه الجوفية لإنتاج طن واحد من الملح، وعند مقارنة قيمة هذه المياه مع سعر الطن المُباع، بسعر 32 ألف دينار للطن، فهو سعر زهيد بحسب حنوش، لتكون النتيجة خسارة بيئية واقتصادية فادحة.
يعتبر حنوش المملحة جزءاً مرتبطاً ببحيرة ساوة، حيث تقعان على امتداد خط واحد مما يضرّ بحيرة ساوة بشكل كبير، وسحب المزيد من المياه في المملحة أثّر على المنسوب المائي للبحيرة التي تقع على ارتفاع أعلى بنحو ستة أمتار قياساً بالمملحة.
تتمتع بحيرة ساوة بقيمة علمية وتاريخية عالمية، وشهدت تراجعاً كبيراً في مستواها المائي نتيجة هذه الممارسات، وبحسب حنوش، كانت هناك اقتراحات لتقليل إنتاج الملح من أجل حماية البحيرة، “اقترحنا تحديد الإنتاج بـ 200 ألف طن سنوياً لتقليل الأضرار البيئية، لكن اقتراحنا قوبل بالتجاهل”.
تلاعب استثماري
يعتقد حنوش أن الاستثمار في منطقة المملحة يبدو شعاراً أكثر مما هو استثمار يحقق نتائج فعلية، فهناك العديد من علامات الاستفهام، ليس فقط حول المستثمر نفسه، بل أيضاً حول دور وزارة الصناعة في الإشراف على مشروع المملحة وكيفية استغلالها، حيث أصبحت هذه الموارد الطبيعية في محافظة المثنى مادةً للتلاعب والغش بدلاً من أن تكون فرصة للتنمية الحقيقية، بينما تمثل المملحة أحد مقومات القوة لفرص التنمية والاستثمار متعدد الأهداف في المحافظة.
إن المستثمر الحالي يعتمد بشكل كبير على دعم قوة سياسية قوية، وفقاً لحنوش، يزوّدها بالمال مقابل التغاضي عن الهدر الهائل الذي يحدث في استغلال هذا المورد، وهذا الدعم السياسي يساهم في استمرار الوضع الحالي دون أي رقابة حقيقية أو مساءلة.
“كهيئة رقابية لهذا الموضوع، حاولوا شرَاءنا فقد تعرضنا لضغوط ومحاولات لإسكاتنا، لأن الحديث عن هذا الملف لم يكن مرحباً به”، ويرى حنوش أنه من الأفضل أن تعيد وزارة الصناعة سيطرتها على المعمل.
وبحسب مصادر مطلعة رفضت الكشف عن هويتها، فإن هذه الجهات السياسية التابعة للشركة تنتمي إلى التيار الصدري، وقد أُحيلت إليها المملحة في فترة كان فيها وزير الصناعة من حصّة الصدريين، وما يزال الوضع على حاله حتى الآن.
المستثمر
ثائر الموسوي، المستثمر في مملحة السماوة، تحدّث لجُمّار، ووصف الضرر الواقع عليه وعلى المملحة، وبحسبه فإن الملح “لا يُباع بسبب فتح المنافذ الحدودية، مما يخلق منافسة غير عادلة، خاصة مع وجود مملحة ثانية في البصرة، نحن متضررون من هذا الاستثمار”.
ويكشف الموسوي أنّه “صرف 60 مليار دينار عراقي على المشروع”، لكن المنتج لا يُباع مثلما يرد أو يخطط، “الدول المجاورة تقوم بإدخال الملح، مما يجعل المستهلك يفضل الشراء من إيران بسعر ثمانية دولارات، بدلاً من شرائه من العراق بسعر 20 دولار”، ويسأل الموسوي: كيف يمكننا دفع الحصص السنوية وصيانة المعدات ورواتب الموظفين؟
وينفي الموسوي وجود هدر للمياه في المملحة، وما يستخدمه أقل من أي مشروع زراعي يسحب المياه الجوفية من هناك، “الشركة لا تسحب كميات كبيرة من المياه، وبالتالي لا تؤثر على بحيرة ساوة”.
وكشف الموسوي لجُمّار أن المملحة حالياً تنتج 300 ألف طن سنوياً، بعد أن كانت 500 ألف طن سنوياً، بناءً على طلب محافظة المثنى ووزارة الموارد المائية، لتقليل استهلاك المياه بسبب شحة المياه في البلاد.
يزعم الموسوي أنّه عندما استثمر المشروع، واجه مشكلة كبيرة في السيطرة على المنخفض الملحي، “كان مستحوذاً عليه من قبل عائلات المنطقة، حيث كانوا يسرقون الملح بعد سنوات من عمليات الكري والاستصلاح، الآن وبعد إنشاء مشاريع ضخمة في المنخفض، انتهت ظاهرة سرقة الملح بفضل إنشاء قناة تحيط بالمنخفض لكي يمنع الناس من الدخول”.
لكنّ حديث المستثمر ينفيه أحد العمّال السابقين في المملحة، والذي رفض الكشف عن هويته لأسباب أمنيّة، قال لجُمّار، “إنّ المعمل كان يضم 150 موظفاً عندما كان تابعاً لوزارة الصناعة، ولكن عند قدوم المستثمر بدأ بالتضييق على العمّال، وقررت الوزارة نقل الموظفين إلى فروعها الأخرى، حتى تقلص العدد إلى عشرة موظفين فقط”.
لجأ المستثمر، بحسب العامل السابق في المملحة، إلى تشغيل عمالة مؤقتة بأجر 500 ألف دينار شهرياً، ولكن هؤلاء العمال ليس لديهم أوقات دوام محددة، حيث يعملون أحياناً لمدة تصل إلى 14 ساعة يومياً أو أكثر، وبأعمال متنوعة ليست من تخصصهم، “المشروع لم يعد يقدم فائدة تُذكر للمنطقة”.
يقول سكان محليون إنَّ المستثمر ترك الآبار القديمة واتجه إلى مناطق جديدة لأنها توفر ضعف الإنتاج السابق، مع الاعتماد على مضخات كهربائية وهيدروليكية.
قبل الاستثمار، كانت العائلة الواحدة تستخرج حوالي 30 طناً من الملح أسبوعياً، وتبيعه بسعر أقل من المعمل، مما جعل الطلب على الملح المستخرج من العوائل أعلى من المعمل، وهذا ما جعل المستثمر يواجه العوائل بما يمتلكه من نفوذ ودعم سياسي.
تشكو أم نورة من صعوبة الوضع الاقتصادي وغياب فرصة للعمل في الملح مجدداً، “المستثمر لا يقوم بتشغيل أحد من أهالي المنطقة في معمله، خاصة النساء منهم”.
بينما تتذكر الجدّة بنية ماضي المملحة والمنطقة وتقارنه باستغراب مع الوضع الحالي، “في الماضي، كانت المرأة جزءاً أساسياً من المعيشة، فلم يكن هناك فرق بين رجل وامرأة في العمل”، الجميع كان يسهم بجهده قبل أن تتغير الأحوال هنا في المملحة، وبالنسبة للجدّة بنية، صارت المعامل تسجل الرجال فقط، ولم يعد للنساء أي دور في المملحة.
أما خولة فهي غاضبة من الوضع الحاليّ، “ضجت من گعدة البيت، المستثمر يرفض تشغيل النساء وبدلاً من ذلك، استقدم عمالاً من محافظتي البصرة وذي قار نكاية بأهالي منطقتنا”، تستدرك وتختم خوالة حديثها مع جُمّار بالقول إن المستثمر “سيد”، وكان من المفترض أن يراعي الحلال والحرام.