“بعض أصحاب العمل يستغلّون الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي يمرّ بها الأردن لفرض شروط مُجحفة، ما يدفع نساء كثيرات لقبول وظائف بأقلّ من الحدّ الأدنى للأجور”
“بيحاول يضغط علينا أكبر قدر ممكن حتى نترك الشغل بنفسنا ويجيب بدل الموظفة تنتين بنفس الراتب”، تشتكي سارة (اسم مستعار) من الضغوط النفسية التي تتعرّض لها في مكان عملها نتيجة ممارسات مديرها، والتي تهدف؛ كما تقول، إلى دفع الموظّفات للاستقالة طوعاً.
تشغل المرأة الأردنية مناصب متعدّدة في سوق العمل، في بلدٍ يُسجَّل فيه حضور لافت للنساء المتعلّمات والحاصلات على شهادات جامعية. ورغم استمرار المطالبات النسوية بتحقيق المساواة في الأجور والترقيات، لا يزال الكثير من النساء يواجهن انتهاكات لحقوقهن في بيئات العمل، خصوصاً في القطاع الخاصّ، حيث يُمعن بعض أرباب العمل في استغلال حاجاتهن، مفترضين أنهن الحلقة الأضعف، ويكرّسون سياسات ظالمة تنطلق من عقلية: “اللي مش عاجبها تترك، ومنجيب مكانها عشرة”.
ارتفاع مشاركة الأردنيات اقتصادياً يقابله تراجع في الحقوق
في كثير من الزيجات، يُشترط على المرأة أن تكون عاملة “لتساعد في المصاريف”، مما يجعلها مصدر دخل أساسي في العديد من العائلات الأردنية، لكن هذا الدور الاقتصادي لا يقابله بالضرورة حماية في بيئة العمل، بل كثيراً ما تُضطرّ العاملات لتحمّل انتهاكات تمسّ صحّتهن النفسية وحقوقهن العمّالية، ليس لغياب الوعي فقط، بل لأن ترك العمل في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية لم يعد خياراً متاحاً.
وبحسب تقرير دائرة الإحصاءات العامّة الأردنية، أظهر مسح قوّة العمل للعام 2024 ارتفاعاً في معدّل المشاركة الاقتصادية للإناث الأردنيات ممن يبلغن 15 عاماً فما فوق إلى 14.9%، بزيادة بلغت 6% خلال عام واحد فقط. وتُشير البيانات إلى أن 95.4% من العاملات هن مستخدمات بأجر، وأن القطاع الخاصّ استقطب النسبة الأعلى منهن (48.6%). كما تُظهر الإحصاءات أن غالبية المشتغلات الأردنيات يتركّزن في وظائف الاختصاصيين والفنّيين ومساعدي الاختصاص، حيث بلغت النسبة 75.9%.
قصّة رؤى مع العمل والحقوق المنتهكة
قابل “درج” ثلاث نساء عاملات في القطاع الخاصّ في الأردن، فضّلن الحديث بأسماء مستعارة، في إشارة واضحة إلى حجم الضغوط التي يتعرّضن لها، وخوفهن من فقدان وظائفهن إن تحدّثن علناً.
رؤى (اسم مستعار) حاصلة على شهادة الماجستير، وتعمل منذ عامين مع موقع إلكتروني من منزلها، متنازلة عن جميع حقوقها العمّالية تقريباً. لا عقد عمل ينظّم العلاقة بينها وبين جهة العمل، ولا عدد محدّد لساعات العمل، كما أن راتبها يقلّ عن الحدّ الأدنى للأجور المعتمد في الأردن (290 ديناراً أردنياً) الذي دخل حيّز التنفيذ مطلع العام الجاري. كذلك، لا تتمتّع بحقّها في الإجازات المرضية أو السنوية، ولا حتى في التسجيل في مؤسّسة الضمان الاجتماعي، رغم أن ذلك إلزامي قانوناً على صاحب العمل.
تقول رؤى إن ظروفها المعيشية، والضغوط الأسرية، والمنطقة التي تُقيم فيها، كلّها عوامل جعلت من العثور على وظيفة مناسبة أمراً شبه مستحيل، خاصّة وأنها بدأت العمل وهي في الأشهر الأولى من حملها. ومع غياب الخيارات، قبلت بعرض العمل رغم كلّ التجاوزات، باعتباره الحلّ الوحيد الذي يضمن لها راتباً شهرياً، ولو كان لا يتجاوز 150 ديناراً أردنياً فقط، أي نصف الحدّ الأدنى للأجور المنصوص عليه في القانون، الذي دخل حيّز التنفيذ مطلع العام الجاري بعد صدوره في الجريدة الرسمية، وينصّ على رفع الحدّ الأدنى إلى 290 ديناراً لجميع العاملين الخاضعين لأحكام قانون العمل لسنة 1996 وتعديلاته، بغضّ النظر عن طريقة تقاضي الأجر، وذلك للفترة الممتدّة بين 1 كانون الثاني/ يناير 2025 و31 كانون الأول/ ديسمبر 2027.
طيلة عام ونصف، عانت رؤى من ضغوط نفسية شديدة، لا سيّما خلال فترة الحمل بما تحمله من تعب وتقلّبات جسدية، ووصل الأمر إلى حرمانها من أي إجازة عند الولادة. تقول إن مديرها لم يراعِ حالتها الصحية أو ظروفها، وأصرّ على أن تعمل 8 ساعات يومياً من دون أي استراحة، وطوال الشهر، في انتهاك صارخ لقانون العمل الأردني، بما فيه حقّها في إجازة الأمومة. ورغم كلّ ذلك، واصلت العمل، لأنها ببساطة لا تملك خياراً آخر.
يُوضح محمد الزيود، الناطق الإعلامي باسم وزارة العمل الأردنية، في تصريح لـ “درج”، أن “ما ورد في حالة رؤى يشكّل مخالفة واضحة للقانون”، مؤكداً أن “عدم وجود عقد عمل لا يُعفي صاحب العمل من التزاماته القانونية، ولا يُسقط حقوق العامل أو العاملة”. ويرى أن “على صاحب العمل، سواء وُجد عقد مكتوب أم لم يوجد، الالتزام بأحكام قانون العمل، لا سيّما ما يتعلّق بدفع الأجور، والعمل الإضافي، والإجازات السنوية والمرضية”.
اتّهام بلا دليل… وخسارة للتقاعد
دينا (اسم مستعار) كانت على بُعد سنتين فقط من التقاعد، عندما أنهى مديرها السابق عقد عملها ورفض تجديده، وذلك بعد أن رفعت عليه قضيّة تتّهمه فيها بالإساءة لسمعتها المهنية واتّهامها بالسرقة من دون دليل. تقول دينا إن قرار إنهاء خدماتها جاء انتقامياً، وهو ما سيكلّفها خسارة سنوات خدمتها الأخيرة، واضطرارها لتسديد اشتراكات الضمان الاجتماعي المتبقيّة من حسابها الشخصي لضمان تقاضي الراتب التقاعدي لاحقاً.
لم تقف الانتهاكات عند هذا الحدّ. كانت دينا قد جمّعت إجازاتها السنوية طمعاً في الحصول عليها دفعة واحدة، إلا أن مديرها ألغى ترحيل الإجازات ورفض دفع أي بدل مالي عنها عند إنهاء العقد.
تقليص الوظائف… وتدهور نفسي
أما سارة (اسم مستعار) فتعمل في دائرة خاصّة شهدت تقليصاً حاداً في عدد الموظّفين من 20 إلى 5 فقط، بحجّة خفض النفقات. لكن ما حدث لاحقاً – وفق قولها – هو تعيين موظّفين جدد برواتب أدنى وبشروط عمل أسوأ.
“بنتحمل وبنسكت لأنه ما عنا بدائل، ما في وظائف”، تقول سارة، مشيرة إلى أنها تعاني من آلام جسدية وحالة نفسية متدهورة، لكنها تواصل العمل لأنها ببساطة تحتاج إلى الراتب لتأمين أساسيات الحياة.
انتهاكات صريحة لقانون العمل
يعلّق محمد الزيود، الناطق الإعلامي باسم وزارة العمل، على هذه الممارسات قائلاً إن “قانون العمل الأردني واضح في هذه النقاط. فالمادّة (46) تُلزم صاحب العمل بدفع الأجور، وبدل العمل الإضافي خلال سبعة أيّام من تاريخ الاستحقاق، ولا يحقّ له حسم أي جزء منها إلا في الحالات التي يُجيزها القانون. كما أن توقيع العامل على أي كشف لا يُسقط حقّه القانوني في المطالبة بأي مستحقّات إضافية ينصّ عليها العقد أو القانون”.
أما المادّة (61) من القانون، فتضمن حقّ العامل بإجازة سنوية مدفوعة الأجر لا تقلّ عن 14 يوماً، ترتفع إلى 21 يوماً بعد خمس سنوات خدمة متواصلة. وتُوضح المادّة أن هذه الإجازات لا تشمل الأعياد والعطل الرسمية، ويجوز تأجيلها بالاتفاق إلى العامّ التالي فقط، على أن تُصرف نقداً في حال لم تُمنح خلال السنتين، ويُغرّم صاحب العمل بمئة دينار إذا امتنع عن منحها للعامل.
نصوص قانونية في وجه واقع هشّ
تحذّر المحامية نور الإمام، خبيرة تطوير القوانين الخاصّة بحقوق المرأة، في حديثها لـ “درج” من أن “غياب بيئة العمل الآمنة يدفع العديد من النساء للانسحاب من سوق العمل، خاصّة عند تعرّضهن للتحرّش أو التمييز في الأجور”، وتقول: “جاء قانون العمل لضمان بيئة سليمة، وفرض عقوبات على أي تعدٍّ يمسّ حقوق العاملات والعاملين”.
وتُضيف الإمام أن “بعض أصحاب العمل يستغلّون الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي يمرّ بها الأردن لفرض شروط مُجحفة، ما يدفع نساء كثيرات لقبول وظائف بأقلّ من الحدّ الأدنى للأجور”، لكنها تؤكّد أن “القانون يمنح المرأة حقّ تقديم شكوى والمطالبة بفرق الأجر”.
وترى الإمام أن “ما تتعرّض له هذه الفئة “الهشّة” من النساء يعود غالباً إلى غياب المعرفة بحقوقهن، أو عدم قدرتهن على اللجوء إلى القضاء، وهو ما يُفاقم فقدانهن لتلك الحقوق”، وتشدّد على “أهميّة دور النقابات العمّالية في رفع الوعي ومساندة العاملات قانونياً”.
وفي السياق نفسه، أظهر تقييم صادر عن البنك الدولي العام الماضي، أن مشاركة النساء في سوق العمل الأردني لا تزال من بين الأدنى عالمياً، حيث بلغت 15% فقط، مقابل 65% بين الرجال. كما أن ربع النساء العاملات عاطلات عن العمل، مقارنة بـ16% من الرجال.
وكان البنك قد أشار في تقارير سابقة إلى أن المرأة الأردنية تُعدّ من بين الأكثر تعليماً في المنطقة العربية، إلا أن مشاركتها الاقتصادية لا تعكس ذلك. وأوصى بمراقبة بيئة عمل النساء في مؤسّسات القطاع الخاصّ، حيث تُسجّل أجور أقلّ، وساعات عمل أطول، وأيام عمل أكثر، مع ندرة فرص العمل المرن.