في السنوات الأخيرة، شهد العراق ارتفاعا مقلقا في معدلات الانتحار، خاصة في أوساط الشباب والطلبة، ما يعكس أزمة نفسية واجتماعية متفاقمة.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى تصاعد حاد في عدد الحالات المسجلة، وسط تباين في الأسباب التي تراوحت بين العوامل النفسية والعائلية والاقتصادية. كما برزت مخاوف حقيقية من تراجع دور المؤسسات التعليمية والصحية في تقديم الدعم النفسي اللازم، في وقت حذّر فيه مختصون من هشاشة الوضع النفسي لدى فئة الأحداث وتفاقم الضغوط المعيشية.
في نهاية نيسان الجاري، وقعت حادثة انتحار مؤسفة في محافظة النجف، حيث أقدمت طالبة جامعية في المرحلة الأولى في قسم القانون على إنهاء حياتها بإلقاء نفسها من مبنى متعدد الطوابق داخل جامعتها في قضاء الكوفة.
وأفادت مصادر بأن الطالبة كانت متفوقة دراسيا، وكانت تستفيد من تخفيض في الأقساط الدراسية، إلا أن ضغوطًا نفسية ناجمة عن عدم قدرتها على سداد القسط السنوي قد تكون ساهمت في اتخاذها هذا القرار المأساوي.
هذه الحادثة أثارت موجة من الغضب والحزن في الأوساط الطلابية والمجتمعية، ودفعت الجهات المختصة إلى تشكيل لجنة تحقيق فورية للوقوف على ملابسات الحادثة وتحديد المسؤوليات.
المستثمر متنفذ
وذكر ناشط من محافظة النجف، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن "المستثمر للجامعة الاهلية التي أقدمت الطالبة على الانتحار في داخلها، هو قيادي في أحد الأحزاب السياسية المتنفذة"، مشيرا إلى أن هذا القيادي كان قد صرح في عام 2011 بأن الجامعة "ليست مشروعاً شخصياً، بل مشروع ثقافي خيري غير ربحي، تابع لمؤسسة خيرية عالمية".
وتساءل المصدر "كيف يمكن أن تكون الجامعة خيرية وغير ربحية، وتهدف إلى دعم الطلبة الفقراء، في حين تمارس ضغوطا شديدة على الطلبة في حال تأخرهم عن سداد الأقساط؟".
إحصائيات
وكشفت الإحصائيات الرسمية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى في العراق خلال عام 2024، عن حالات الانتحار خلال الفترة الممتدة من عام 2017 إلى عام 2022. فقد سجل العراق 178 حالة انتحار عام 2017، ثم ارتفعت إلى 306 حالات في 2018، و316 حالة في 2019، قبل أن تنخفض إلى 233 حالة في عام 2020. إلا أن عام 2021 شهد زيادة ملحوظة لتصل الحالات إلى 364، بالتزامن مع تداعيات جائحة كورونا، فيما بلغ العدد ذروته في عام 2022 بـ511 حالة انتحار.
إلى جانب ذلك، سجلت وزارة الصحة خلال عام 2022 أكثر من ألف محاولة انتحار لم تؤد إلى الوفاة، وكانت معظمها بين الإناث. بينما شكلت الفئة العمرية دون الـ 18 عاما، ما نسبته 20 في المائة من هذه المحاولات.
وترجع الأسباب الرئيسة للسلوك الانتحاري بحسب الوزارة إلى عوامل نفسية بنسبة تتراوح بين 45 إلى 50 في المائة، تليها أسباب عائلية بنسبة 35 في المائة، واقتصادية بنسبة 15 في المائة، إلى جانب دوافع أخرى شكلت نحو 8 في المائة.
أكثرها في مناطق حضرية
وقال الخبير الأمني رياض هاني بهار، إن عدد حالات الانتحار المسجلة خلال الربع الأول من عام 2025، بلغ 270 حالة.
وأضاف بهار أن التوزيع العمري لتلك الحالات كشف أن الذكور البالغين شكلوا النسبة الأكبر بـ121 حالة، يليهم الذكور من فئة الأحداث بـ41 حالة، بينما سُجلت 68 حالة بين الإناث البالغات و40 حالة بين الإناث الأحداث.
وأوضح لـ "طريق الشعب"، أن هذه المعطيات تشير إلى أن أكثر من 30 في المائة من المنتحرين كانوا من فئة الأحداث، وهو ما يعكس وضعاً نفسياً واجتماعياً هشاً بين أوساط الشباب، في حين كانت نسبة الذكور تقارب ضعف الإناث، ما يدل على تعرض الذكور لضغوط نفسية أو اجتماعية مضاعفة.
وهذه الأساليب، وفقًا للمتحدث، تعكس خطورة وسهولة توفر الوسائل العنيفة، ما يزيد من احتمالية تكرار مثل هذه الحوادث مستقبلاً.
تنشيط خدمات الدعم النفسي
وأكد بهار أن "مجمل هذه المؤشرات تمثل خطرا اجتماعيا ونفسيا متصاعدا، لا يمكن تجاهله أو التعامل معه بشكل سطحي، بل يتطلب تدخلًا حكوميا ومجتمعيا واسع النطاق". وشدد على ضرورة اعتبار الوقاية من الانتحار أولوية وطنية، من خلال إنشاء مرصد وطني لرصد الحالات وتحليلها، ودمج مفاهيم الصحة النفسية في المناهج الدراسية، إلى جانب تعزيز حملات التوعية الإعلامية، وتوسيع نطاق خدمات الدعم النفسي المجاني في مختلف المحافظات. كما دعا إلى تفعيل دور الشرطة المجتمعية لتكون حلقة وصل مبكرة في اكتشاف الحالات المعرضة للخطر والتعامل معها قبل أن تتفاقم.
الباحث الاجتماعي
وبالحديث عن ارتفاع معدلات الانتحار بين الطلبة، قالت الباحثة الاجتماعية بلقيس الزاملي: أن "ارتفاع حالات الانتحار بين الطلبة في العراق يمثل جرس إنذار خطير يتطلب تدخلاً عاجلاً من المؤسسات التعليمية والاجتماعية والصحية".
وأوضحت الزاملي لـ "طريق الشعب"، أن "الأسباب متعددة ومتشابكة، منها الضغط الدراسي، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب غياب الدعم النفسي وضعف الوعي بأساليب التعامل مع الأزمات النفسية التي يتعرض لها الطلبة".
وأكدت الزاملي أن "من أهم العوامل المؤثرة هو غياب دور الباحث الاجتماعي داخل المدارس، حيث يعاني هذا القطاع من نقص الكوادر المتخصصة، أو عدم تفعيل دورها بالشكل الصحيح، ما يترك الطلبة دون أي جهة مؤهلة تستمع إليهم أو تقدم الدعم اللازم في الوقت المناسب".
وأضافت ان "الباحث الاجتماعي هو صمام أمان داخل البيئة التعليمية، ومن غير المقبول أن تبقى هذه الوظيفة شكلية أو مهمشة في ظل تصاعد الضغوط على الطلبة".
ودعت الزاملي إلى "تفعيل دور الباحثين الاجتماعيين في المدارس وحتى الجامعات بشكل جدي، وتوفير برامج تدريب وتأهيل مستمرة لهم، إلى جانب تكثيف حملات التوعية النفسية والاجتماعية داخل المؤسسات التعليمية".
طلبة يعانون بصمت!
فيما قال المختص النفسي محمد حطاب، إن الطلبة يواجهون، اليوم، ضغوطًا نفسية واقتصادية كبيرة، تؤثر بشكل ملحوظ على صحتهم النفسية، ما يؤدي إلى زيادة حالات التفكير في الانتحار.
وأضاف أن الأسباب الاقتصادية والنفسية التي يعاني منها الكثير من الشباب، تعد من أبرز العوامل التي تساهم في ارتفاع معدلات الانتحار في صفوفهم، حيث يعاني العديد منهم من شعور بالعجز والإحباط بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة والظروف الاجتماعية.
وتابع حطاب لـ "طريق الشعب"، أن "الأزمة أكبر من مجرد مشاكل اقتصادية، فهي مرتبطة أيضا بغياب الدعم النفسي الكافي في المؤسسات التعليمية. للأسف، كثير من الطلبة يعانون بصمت. ولا يجدون من يساعدهم أو يوفر لهم بيئة داعمة للحديث عن مشاكلهم النفسية".
وزاد بالقول ان "المؤسسات الحكومية الصحية تلعب دورا كبيرا في مواجهة هذه الأزمة، لكن هناك إهمالا واضحا في تقديم الدعم النفسي المناسب للذين يعانون من هذه الحالات؛ ففي كثير من الأحيان، يتم إرجاع المنتحرين إلى ذويهم دون أن تُدرس أسباب الانتحار أو يتم توفير العلاج النفسي الضروري لهم ولعائلاتهم".