كأن ما عاشه الفلسطينيون خلال النكبة لم يكن كافياً. المفاتيح التي أبقت لديهم الأمل في العودة، أضيفت إليها أخرى جديدة من جراء الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة اليوم
لم يحفظ الأبناء والأحفاد في قطاع غزة مفاتيح العودة الموروثة من أجدادهم الأوائل الذين شهدوا النكبة فحسب، بل حملوا أوجاع اللجوء في مخيمات وبيوت تهالكت مع مرور الزمن، وأزقّة ضيقة بقيت شاهدة على مرارة العيش. وأخيراً، تجلت المعاناة في حرب إبادة جماعية عاش خلالها أهالي القطاع النزوح مجدداً، وفقدوا منازلهم، فعادوا إلى حياة الخيام وعاشوا الجوع والعطش. اختبروا كل ما كانوا يسمعونه من أجدادهم... وأكثر.
كان عمر الحاجة سارة مطلقة أبو عبيد (85 عاماً) ثماني سنوات خلال أحداث النكبة. هي من مواليد عام 1940، لكن ذاكرتها لم تنسَ يوم التهجير. تجاعيد وجهها شاهدة على رحلة لجوء طويلة عاشت فيها المسنة النكبة والإبادة. تقول لـ "العربي الجديد": "نزحت من بلدة حمامة. يومها خرجت مع أمي وأبي وأشقائي وهربنا من الموت. كنت صغيرة جداً. ربما لا أذكر الكثير من التفاصيل، لكن لا أنسى اليوم الذي نمت فيه تحت شجرة للتخفي عن عيون العصابات الصهيونية بعدما حل الليل وبقينا حتى الصباح، وأكملنا طريقنا نحو بلدات أخرى سيراً على الأقدام، إلى أن وصلنا إلى غزة".
لم تسعفها ذاكرتها لاستحضار مواقف أخرى، إلا أن النكبة تركت ندوباً في ذاكرتها وحياتها لا تُمحى. مع بداية حرب الإبادة، عاشت أبو عبيدة الوجع مجدداً. تقول: "قصف الاحتلال منزل جيراننا، فأصبت ونقلت إلى المستشفى. كنت مصابة ونازحة، ثم توجهت إلى مراكز الإيواء".
ومع اقتحام الاحتلال مجمع الشفاء الطبي، نزحت العائلة برفقة الجدة إلى جنوب القطاع. سارت المسنّة على عكازها حتى أنهكها التعب. كانت خطواتها المتثاقلة في رحلة النزوح تذكّرها بتلك الطفلة التي كانت تركض يوم التهجير خلف والديها. مرت سبعة عقود وبقيت المعاناة ذاتها. "تعبت عند الحاجز الإسرائيلي، عمد أحد الرجال إلى إنزال حقائبه من كرسي متحرك، وأعطانا إياه، ودفعني حفيدي طيلة المسافة المتبقية".
وصلت أبو عبيدة إلى جنوب القطاع، وعاشت في خيمة إيواء على الحدود مع مصر، تشبه تلك الخيمة التي عاشت فيها بعد وصولها إلى غزة إبان النكبة. بقيت الخيمة شاهدة على حياة لجوء ونزوح عاشتها المسنة. ورغم عودتها إلى غزة وتقدمها في السن، تقول: "يا حسرتي على حمامة والظالم".
في خيمة أخرى، تعيش نفوز محمود ناجي (65 عاماً) الحياة التي عاشها والداها وأجدادها، أو "ربما أقسى مما عاشوه"، تقول. تفاصيل وجهها تحكي الكثير، هي التي فقدت زوجها وثلاثة من أبنائها. تجلس على مقعد حجري في فناء صغير أمام خيمتها التي لا تتجاوز مساحتها مترين مربعين، تسقفها بشادر، إلى جوارها حفيدها أحمد (11 عاماً). وفي إحدى الزوايا، تضع موقد النار لطهي الطعام على الحطب، وإلى جانبه دلوان مليئان بالمياه. هذا كل ما لديها. تعيش حياة بدائية تشبه النكبة. هربت من الحر في الخيمة إلى الفناء لاستنشاق بعض الهواء.
ناجي، وهي لاجئة من بلدة السوافير، تحكي لـ "العربي الجديد" عن التهجير. تقول: "كنت في السابعة من عمري، ودائماً ما كنت أجلس مع جدي وأستمع لحكاياته. كان يحدثني عن يوم الهجوم على البلدة من قبل العصابات الصهيونية. يومها هجروا ولم يستطيعوا أخذ أموالهم أو ملابسهم أو مقتنياتهم الثمينة كالذهب. اعتقدوا أن الفترة ستكون مؤقتة، تماماً كما نعتقد نحن منذ تسعة عشر شهراً. لكنني لم أستطع العودة إلى منزلي في شمال قطاع غزة".
في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقدت نجلها باسل (22 عاماً) بعدما أصابته شظايا صواريخ إسرائيلية. ثم استشهد نجلها سائد (40 عاماً) خلال تعبئة المياه، إذ تعرّض لإطلاق نار من قناص إسرائيلي في 7 ديسمبر/كانون الأول 2023. حدث ذلك أمام حفيدها أحمد. يقول الطفل: "رأيته يسقط على الأرض. اقتربت ووجدت الدماء تسيل من رقبته".
بعد ثلاثة أيام من انتهاء عزاء نجلها، فتحت عزاءً جديداً لزوجها الشهيد فتحي ناجي. تقول: "نزحنا إلى مستشفى اليمن السعيد في بلدة بيت لاهيا، والذي تحول إلى مركز إيواء. يومها، ألقى جيش الاحتلال غازات واختنقنا. نظرت إلى زوجي ووجدته لا يتحرك. لم أستطع نقله إلى المستشفى لعدم وجود وسائل نقل. ظل على هذا الحال حتى استشهد خنقاً". وكان نجلها أحمد (17 عاماً) قد استشهد عام 2006.
من داخل بيتٍ عاشت فيه ناجي حياة سعيدة على مدار سنوات طويلة، إلى خيمة لا توفر أدنى مقومات العيش، انقلبت حياتها رأساً على عقب. اليوم تربي حفيدين يتيمين. تقول: "تربية الأحفاد مرهقة لأنني كبرت ولم تعد صحتي كما في السابق". تتابع: "كان أجدادنا يعيشون حياة بسيطة، حتى أن بطولاتهم كانت بسيطة بالمقارنة مع المقاومة اليوم. لم يكونوا يعرفون ماذا سيجري. القهر الذي عشناه ينفجر غضباً في وجه الاحتلال".
أما عن الحياة اليومية في خيمة النزوح، فتقول: "عندما نسمع أي صوت أو انفجار، نستيقظ فزعين. وعندما تحوم الطائرات في السماء، نشعر بالخوف. المياه لا تكفي. نفرح حين يحل الصباح لكن الذباب ينغّص يومنا".
في خيمة أخرى، كانت وسام كالي (57 عاماً) تحتمي هي الأخرى تحت شادر أمام خيمة، وتجلس مع ابنها وزوجته. لجأت من بئر السبع، وسمعت عن النكبة كما رواها لها والدها وجدها، وعاشت فصولاً أخرى من الوجع الممتد حتى اليوم، تحكي لـ"العربي الجديد" بينما كانت تستعد للذهاب إلى الطبيب بسبب مضاعفات صحية جراء العيش في الخيام: "ترك البيوت أمر صعب على الإنسان، وهذا ما كان يشعر به جدي. نحن أيضاً قصف بيتنا، واستشهدت حفيدتي وزوجة ابني وزوج شقيقتي وأولاده فيما أصيب ابني. يومها غادرت المنزل وقُصِف بعد ساعات. رحلت حفيدتي وهي جائعة قبل عام".
عن فارق زمني يبلغ 77 عاماً بين النكبة والإبادة، تقول إن ما يعيشه أهالي غزة اليوم أصعب مما عاشه الآباء والأجداد إبان النكبة. توضح: "الحرب لم تطل هكذا. نحن في هذا الوضع منذ تسعة عشر شهراً. نعيش الموت والقتل بشكل متواصل. الحياة في الخيام تبدأ وتنتهي بمعاناة. نبحث عن مياه الشرب والطعام. أحياناً، تبقى التكايا مغلقة. أحياناً أخرى لا نشعر بالشبع. كما أن الطحين مفقود".
أما الحاج عارف أحمد حمادة (75 عاماً) فلم يعش اللجوء الأول جراء النكبة لأنه يتحدر من مدينة غزة، لكنه استضاف عائلة لاجئة في بيته، إلى أن استقرت في أحد مخيمات اللجوء شمال غزة، لكنه نزح إلى جنوب القطاع منذ بدء حرب الإبادة.
يجلس حمادة، وهو مدرس متقاعد، على سرير في بيت ابنته في شارع الجلاء بمدينة غزة، بعدما هدم منزله في مدينة الزهراء جنوب مدينة غزة. واضطر إلى النزوح مجدداً من منزله الثاني في شارع الجلاء مع بداية الحرب نحو جنوب القطاع، مع بدء التوغل البري للمدينة.
يروي حمادة لـ "العربي الجديد": "نزحنا إلى خانيونس (جنوب)، ثم توجهنا إلى رفح (جنوب) حيث مكثنا ثلاثة أشهر. ثم توجهنا إلى شاطئ المدينة غرباً، واستمرت رحلتنا بين الخيام إلى أن توجهنا إلى بلدة الزوايدة (وسط). عدنا إلى خانيونس حيث تنقّلنا مرتين، ثم إلى غزة".
خلال طريق العودة على مدار يومين، نام حمادة ليلتين في شارع صلاح الدين بانتظار مرور طابور طويل من السيارات إلى داخل المدينة. يقول والدموع في عينيه: "في عمري هذا، أجبرتني الظروف على النوم على الأرض، وركوب عربة كارو، وعربة التكتك، والشاحنة. هذه الوسائل ترهق رجلاً مسناً يصعب عليه الوقوف. كما حملتُ غالونات المياه، لكن أكثر ما يعذبني هو خوف أحفادي الخمسة جراء القصف".