في عمق الصحراء العراقية، حيث تقف الزقورات والمعابد شاهدة على حضارات امتدت لآلاف السنين، تتسلل عوامل الطبيعة كخصم صامت. التصحر، وجفاف الأنهار، والرياح العاتية، باتت تهدد هذه المعالم أكثر من أي وقت مضى، وسط غياب الحماية الكافية من الجهات المعنية. خاصة وان العراق احد الخمس دول الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية
الآثار تتآكل..
محسن محمدان، اختصاص قسم الآثار، تحدث عن التحديات التي تواجه المواقع الأثرية في ظل التغيرات المناخية القاسية. ويؤكد أن الرياح الشديدة أصبحت تشكل خطراً متزايداً، إذ تخلق كثباناً رملية تغمر المواقع المنقبة، خاصة تلك الواقعة في المناطق الصحراوية، والتي تُعد الغالبية العظمى من الإرث العراقي.
ويبين لـ "طريق الشعب"، أن "التهديد لا يقف عند الرمال. فالرطوبة العالية وملوحة التربة تتسللان إلى أعماق الأبنية القديمة، محدثتين شروخاً في أساساتها، ومهددتين بقاءها على المدى القريب"، مشيرا الى ان " الزقورات، المعابد، والقصور التاريخية تتآكل بصمت، فيما تجف المياه من حول الأهوار، التي صُنفت ضمن لائحة التراث العالمي، لتضيف أزمة جديدة إلى معاناة أماكن مثل الجبايش والحويزة والحمار".
إهمال حكومي
الآثار إذن لا تتوقف عند مواجهة هذه الهجمة الطبيعية، بل تواجه كذلك ما يصفه محمدان بـ"ضعف الاستجابة الرسمية"، مؤكداً أن جهود هيئة السياحة والآثار لحماية وصيانة هذه المواقع ما زالت متواضعة ولا ترقى لحجم الخطر المحدق.
وطالب بزيادة التخصيصات المالية، قبل أن يُدفن التاريخ تحت الرمال إلى الأبد.
التنقيب يعرضها للدمار!
بدوره، أكد كد عمار علي، مدير مفتشية الآثار والتراث في محافظة الأنبار، أن "الأبنية الأثرية والتراثية في المحافظة تواجه تحديات كبيرة ناجمة عن الظروف البيئية والمناخية، ما يتطلب إجراءات وقائية عاجلة لحمايتها".
وأوضح علي لـ "طريق الشعب"، أن "التراث الإنساني، بمختلف أنواعه، يتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بعوامل الطقس وتغير الفصول، وهو ما ينعكس بوضوح على المباني الأثرية والتراثية في الأنبار"، مشيرًا إلى أن طبيعة المواد المستخدمة في بناء هذه المباني تلعب دورًا كبيرًا في تحديد مدى تأثرها.
وأضاف، أن "الأبنية المشيّدة من مادة اللبن أو الطوب هي الأكثر هشاشة، وتتعرض لأضرار كبيرة نتيجة الرطوبة والأمطار، خصوصًا إذا كانت مكشوفة دون حماية. أما الأبنية المبنية بالحجر أو الجص، فهي أكثر صمودًا نسبيًا، لكن لا تزال تتأثر بدرجة أقل".
ولفت إلى أن عدداً من المواقع الأثرية التي تم التنقيب عنها في فترات سابقة تُركت مكشوفة للعوامل الجوية، ما أدى إلى تدهورها بفعل الأمطار والرياح والرطوبة. وبيّن أن "الإجراءات الوقائية الحالية لا ترقى إلى المستوى المطلوب، بسبب قلة التخصيصات المالية وغياب الفرق الفنية المتخصصة في هذا المجال".
وحول الإجراءات المتبعة، قال: "نحاول قدر الإمكان الحد من الضرر البيئي الذي تتعرض له هذه المواقع، من خلال تقنيات بسيطة ومحدودة، مثل محاولة عدم كشف الأثر وتركه محفوظًا تحت الأرض عندما يتعذر حمايته فوقها".
كما أشار إلى وجود حلول معمول بها عالميا، مثل تغطية المباني الأثرية بسقائف أو إنشاء هياكل وقائية لمنع تسرب مياه الأمطار، مؤكدا أن "اختيار نوع الحماية يعتمد على طبيعة البناء ونوعية المواد المستخدمة فيه".
وأكد علي أن التأثيرات لا تقتصر على الأمطار والرطوبة فقط، بل تشمل أيضا ارتفاع درجات الحرارة، وانحسار المياه في المواقع القريبة من المجاري والأنهار، والتي تؤدي إلى تمدد المواد الإنشائية ثم تفتتها عند تعرضها لأشعة الشمس بشكل مباشر بعد الفيضانات.
وفي ختام حديثه، شدد على ضرورة توفير دعم حكومي أكبر، سواء من حيث التخصيصات المالية أو الموارد البشرية، لضمان الحفاظ على الإرث الثقافي في الأنبار من التدهور، مشيرًا إلى أن التراث المحفوظ في باطن الأرض قد يكون، في بعض الحالات، أكثر أمانًا من تعريضه لبيئة غير مؤهلة للحماية.
آلاف المواقع بلا رعاية حكومية
من جانبه، حذر الباحث في الآثار والتراث، حسن الشكرجي، من أن العراق يشهد تراجع خطيرا في الحفاظ على مواقعه الأثرية نتيجة التغيرات المناخية، إضافة إلى الإهمال الحكومي والتجاوزات المستمرة، مشيرًا إلى أن واقع الآثار بات مهددًا أكثر من أي وقت مضى.
وقال الشكرجي لـ "طريق الشعب"، إن "المتغيرات المناخية التي طرأت في السنوات الأخيرة، مثل ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة العواصف الترابية، والأمطار الغزيرة، أثرت بشكل مباشر وسلبي على المواقع الأثرية في العراق، خصوصًا القديمة منها والتي لم تُحَصَّن أو تُحَمَ بشكل كاف".
وأوضح أن "الاهتمام بالمواقع الأثرية في العراق كان ضعيفا حتى قبل عام 2003، حيث انحصر الاهتمام بمناطق محدودة مثل الموصل وبغداد والبصرة وجزء من الناصرية، بينما تُركت آلاف المواقع الأثرية الأخرى دون رعاية تذكر"، مبينا أن "العراق يضم أكثر من 80,000 موقع أثري يعود لحضارات متعددة، من السومرية حتى العباسية، لم يُولِها النظام السابق ولا الحكومات اللاحقة الاهتمام الكافي".
وأضاف انه "بعد عام 2003، تفاقم الوضع بسبب النهب والتخريب والتجاوزات على هذه المواقع، إضافة إلى الإهمال من قبل الحكومات المحلية والمركزية، وغياب الدعم الحقيقي لهيئة الآثار والتراث"، مشيرا إلى أن "الظروف الأمنية والاقتصادية التي مر بها العراق، مثل الإرهاب والحروب والنزاعات، زادت من تدهور المواقع الأثرية".
وتطرق الشكرجي إلى التغيرات المناخية التي ضربت العراق خلال العقد الأخير، مؤكداً أنها "تسببت في تآكل المواقع الأثرية، خاصة تلك المبنية من الطين واللبن، وهي مواد ضعيفة أمام الرطوبة والحرارة والرياح".
وسلط الشكرجي الضوء على موقع أثري مهم في مدينة سامراء يُعرف بـ"تل الصوان"، قائلاً: "هذا الموقع، الذي اكتشفه العالم الألماني في عام 1910، يعود إلى العصر الأكدي ويعد من أقدم القرى الزراعية في المنطقة. وهو يمثل نموذجا نادرا للحضارات القديمة التي نشأت في وسط العراق".
تجاوزات وعوامل مناخية
وأكد أن "تل الصوان يعاني من الإهمال والتجاوزات من قبل الفلاحين، فضلاً عن تعرضه المباشر للعوامل الجوية، ما أدى إلى ذوبان جدرانه وطمس معالمه بسبب الأمطار والحرارة"، مضيفا أنه "رغم كونه موقعا مسجلاً على لائحة التراث العالمي، إلا أنه لم يلقَ الحماية الكافية".
وأشار الشكرجي إلى أنه خاطب عدة جهات رسمية وإعلامية، مناشدا رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بالتدخل المباشر، وإصدار قرار سيادي لحماية الموقع، من خلال تسييجه وتوفير مظلات واقية، مشددًا على أن "تل الصوان يمثل رمزية وطنية وتاريخية كبيرة، كونه الموقع الوحيد المعروف في المنطقة الوسطى الذي يعكس حضارة قديمة متكاملة".
واختتم الشكرجي حديثه بنداء مباشر إلى الحكومة العراقية: "إنقاذ المواقع الأثرية لم يعد ترفا، بل ضرورة وطنية وتاريخية. هذه المواقع لا تمثل الماضي فقط، بل هي جزء من هوية العراق ومستقبله الثقافي، ويجب حمايتها بقرارات فعلية وإجراءات عاجلة".