أثارت حملة إزالة التجاوزات السكنية في محافظة البصرة موجة استياء شعبي واسع، لا سيما بعد رفض المحافظ أسعد العيداني تنفيذ توجيه رئيس الوزراء بإيقاف عمليات الهدم مؤقتا لحين إيجاد بدائل للمتجاوزين من ذوي الدخل المحدود. وزاد من حدة الجدل تصريحات العيداني التي ألمح فيها وفق مراقبين إلى أن "أغلب المتجاوزين ليسوا من أبناء البصرة"، وهو ما اعتبروه خطابا تمييزيا يعزز الانقسام الاجتماعي ويستهدف شرائح سكانية على أساس الانتماء المناطقي.
وبينما استندت الحكومة المحلية إلى المادة 154 من قانون إزالة التجاوزات في تمسكها بالإجراءات، يرى ناشطون أن الحملة افتقرت إلى البُعد الإنساني والاجتماعي، وضربت عرض الحائط المبادئ الدستورية التي تكفل حق المواطن في السكن الكريم.
وأدى تداول مشاهد مؤثرة لعمليات الهدم، خاصة تلك التي طالت منازل تحتضن نساء وأطفالا في مناطق فقيرة، إلى تصاعد الغضب الشعبي، ودفع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى دعوة موظفي البلدية للانسحاب من الحملة، أعقبها توجيه رسمي من رئاسة الوزراء بإيقاف الإزالات مؤقتا.
وتحولت القضية إلى صراع بين اقطاب متعددة وسباق انتخابي يحاول استغلال حاجة المواطنين، وسط تساؤلات حول مسؤولية الدولة عن معالجة أزمة السكن قبل استخدام الجرافات.
توجيهات غير ملزمة
ووجّه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، بحسب وثيقة رسمية صادرة عن مكتبه بتاريخ 19 أيار الجاري بـ"إيقاف حملات تهديم الدور السكنية العشوائية للأراضي المتجاوز عليها، والتي يقطنها مواطنون معدومو الحال، ممن لا يملكون مأوى بديلا"، مشددًا على "أهمية إيجاد البديل قبل رفع أي تجاوز سكني، مراعاة لأوضاعهم".
في المقابل، ردّ محافظ البصرة أسعد العيداني على التوجيه، مشيرا إلى أن "العراق دولة اتحادية، وتوجيهات حكومة المركز غير ملزمة للمحافظات".
وأضاف العيداني في بيان اطلعت عليه "طريق الشعب": أن "المحافظ يُنتخب من قبل مجلس المحافظة ولا يُعد موظفا تابعا للحكومة الاتحادية"، معتبرا أن التوجيه الأخير "يتعارض مع المادة 154 من قانون إزالة التجاوزات، ويُعد سابقة خطرة قد تفتح الباب أمام مزيد من التعديات على الأملاك العامة والخاصة".
وأوضح أن "الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المحلية في البصرة جاءت بناء على قرارات قضائية باتّة تقضي بإزالة تجاوزات على أراضٍ تعود لمالكين أصليين".
قانوني يرد على العيداني
وعلق المحامي والناشط السياسي من محافظة البصرة، عبد الكاظم الكناني، على ما وصفه بـ"الاستناد غير الدقيق" من قبل محافظ البصرة أسعد العيداني إلى المادة 154 لتبرير حملة إزالة التجاوزات، مؤكدًا أن "ما ورد على لسان العيداني بشأن تنفيذ قرارات الهدم بناءً على أحكام قضائية استنادا إلى المادة 154 غير صحيح ولا يستند إلى غطاء قانوني واضح".
وأوضح الكناني في تصريح لـ "طريق الشعب" أن "القرار 154 الذي استند إليه المحافظ هو في الواقع قرار صادر عن مجلس قيادة الثورة المنحل، ولا يُعد مادة ضمن القانون المدني أو القوانين الجزائية النافذة"، مبينًا أن "نص القرار المذكور يتحدث فقط عن فرض عقوبات جزائية – مثل الحبس أو الغرامة – على المتجاوزين على أملاك الدولة، وهذه العقوبات تُفرض بموجب حكم قضائي صادر من المحكمة الاتحادية، وليس فيها ما يجيز تنفيذ الهدم مباشرة من قبل السلطات المحلية".
وشدد الكناني على أن "ما يجري من عمليات هدم في البصرة هو سلوك تعسفي، ويمس شرائح واسعة من أبناء المحافظة الذين لا يمكن اعتبارهم متجاوزين بالمعنى الحقيقي، بل إن الدولة هي من تجاوزت على حقوقهم، عبر الفساد وسوء إدارة الثروات الذي حرمهم من السكن والخدمات".
وأكد الكناني أنه "لا يعارض تنظيم ملف التجاوزات ومعالجة العشوائيات، لكن يجب أن يتم ذلك بعد توفير البدائل السكنية الملائمة للفقراء والمحتاجين، التزاما بالمادة 30 من الدستور التي تنص على حق المواطن في السكن الملائم، إلى جانب البُعد الإنساني الذي يفرض حماية الأسر الهشة من التشرد والانهيار الاجتماعي".
مخالفات قانونية
وأكد المحامي جعفر إسماعيل، الخبير القانوني ومستشار مركز العراق لحقوق الإنسان، أن حملة إزالة التجاوزات التي نُفّذت مؤخرا في منطقة النجمي بناحية خور الزبير في محافظة البصرة، شابها العديد من المخالفات القانونية والدستورية، داعيا إلى فتح تحقيق عاجل وشفاف بشأنها.
وقال إسماعيل لـ"طريق الشعب"، إن "الحكومة المحلية في البصرة، وبإشراف مباشر من المحافظ أسعد العيداني، شرعت في حملة لهدم منازل مشيّدة منذ سنوات في منطقة النجمي، بذريعة التجاوز على أراضٍ تابعة للدولة، إلا أن الوقائع تشير إلى أن عدداً من تلك الأراضي تعود لمالكين من القطاع الخاص".
وأوضح أن "المحافظ استند في قراره إلى قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 154 لسنة 2001، والذي يختص فقط بالتجاوزات الواقعة على أراضي الدولة والبلديات، في حين أن أغلب العقارات التي طالتها الحملة تقع على أراض خاصة، ما يُعد تجاوزاً على صلاحيات القضاء".
وبيّن إسماعيل أن "الإطار القانوني السليم في هذه الحالة يتمثل في قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980، وتحديدا ما نصت عليه المادة 1119 من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951، والتي تشترط صدور حكم قضائي من محكمة البداءة المختصة مكانياً قبل الشروع بأي عملية إزالة، وهو ما لم يحدث في هذه القضية".
وأضاف انه "إلى جانب المخالفة القانونية، فإن الحملة تمثل خرقا واضحا للدستور العراقي، وبالأخص المادة 30 التي تلزم الدولة بتوفير السكن الملائم للمواطنين، وكذلك المادة 37 التي تنص على صون كرامة الإنسان وحرمة مسكنه، بينما تُركت العائلات المتضررة من الهدم في العراء دون بدائل سكنية، وتحت ظروف إنسانية صعبة".
وأشار إلى أن تصريحات المحافظ التي المح فيها إلى أن بعض المتجاوزين "ليسوا من أهل البصرة"، تتعارض بشكل صريح مع المادة 44 من الدستور، التي تكفل حرية التنقل والسكن لجميع العراقيين في أي مكان داخل البلاد، وهو ما يُعد انتهاكًا لمبدأ المساواة ويكرّس خطابًا تمييزيًا مرفوضاً.
وختم إسماعيل بالتشديد على أن "ما حدث في النجمي لا يمكن اعتباره فقط إجراء إداريا، بل هو انتهاك للحقوق الدستورية والإنسانية، ويستوجب تدخلًا عاجلًا من الجهات الرقابية والقضائية لوقف هذه التجاوزات، وضمان تطبيق القانون بعدالة، وحماية كرامة وحقوق المواطنين".
الحملة قديمة وتفعليها يثير الاستغراب
من جانبه، يقول الناشط من محافظة البصرة المحامي مدرك الاسدي، رئيس لجنة المنظمات في اتحاد حقوقي البصرة، أن حملة إزالة التجاوزات ليست بالأمر الجديد في المحافظة، إذ سبقت تولي المحافظ أسعد العيداني، غير أن وتيرتها تصاعدت بشكل واضح في عهده، واتخذت طابعا اجتماعيا مثيرا للجدل.
وأوضح البصري لـ "طريق الشعب"، أن المحافظ ركّز في خطابه على وصف المتجاوزين بأنهم "ليسوا من أهل البصرة"، وهو ما اعتبره البصري خطابا تحريضيا غذى الانقسام المجتمعي، وعمّق الفجوة بين فئات السكان.
وأضاف أن "هناك حالات إزالة تمت لأسباب مختلفة؛ فبعضها نفذ بناء على شكاوى مقدّمة من أصحاب أراض متضررين من التجاوز، والبعض الآخر أُزيل برغم عدم وجود مشروع في الأرض، ما أثار تساؤلات بشأن أولويات الحملة وأهدافها".
وتابع أن "الموضوع تحوّل إلى قضية رأي عام، خاصة بعد تداول مقطع فيديو لإزالة تجاوز تعود لامرأة في قضاء خور الزبير، وهو ما شكّل نقطة تحول وضغطا شعبيا على الحكومة المحلية".
وأشار إلى أنه من الناحية القانونية، لا يُسمح بالتجاوز على أراضي الدولة، غير أن المادة 30 من الدستور العراقي تنص بوضوح على حق المواطن في السكن الملائم، وهو ما يحمّل الدولة مسؤولية توفير هذا الحق قبل الشروع في إزالة أية تجاوزات.
وبين البصري أنه عقب تفاقم الأزمة، وجه زعيم التيار الصدري، دعوة إلى موظفي بلدية البصرة بالانسحاب من الحملة وعدم المشاركة في عمليات الهدم، وهو ما تبعه توجيه رسمي من رئيس مجلس الوزراء بإيقاف حملة الإزالة مؤقتًا لحين توفير البدائل السكنية.
وأكد أن هذا التدخل كان له الأثر الأكبر في تهدئة الشارع، مؤكدًا أن الغالبية العظمى من المواطنين ليست ضد تنظيم ملف الأراضي، لكنها تطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سكن بديل قبل تنفيذ الإزالة، لافتًا إلى أن السبب الأساس للتجاوز هو غياب الحلول السكنية وارتفاع أسعار الأراضي والدول السكنية في المدينة.
وتساءل البصري "هل من المنطقي أن تقوم الدولة بإزالة مساكن عشوائية يسكنها فقراء ومحتاجون، دون أن تتيح لهم فرصة أخرى؟"، مشددا على أن بعض هذه البيوت لا تصلح للعيش أصلا، وهي مبان متهالكة أُقيمت اضطرارا، وليست تعديا بدافع الطمع.
واختتم بالقول: "نحن لا ندافع عن التجاوز كمبدأ، لكننا نؤمن أن الدولة، قبل أن تزيل منازلهم، يجب أن تبني. الحل ليس في الجرافات، بل في المجمعات السكنية وتفعيل برامج الإسكان. عندها فقط، سيتخلى المواطن طوعا عن السكن غير القانوني، لأنه سيكون قد حصل على بديل كريم يحفظ له كرامته وحقه الدستوري".
ويتساءل مواطنون عن دور الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية في معالجة أزمة السكن، بعد سنوات من الوعود الجوفاء التي لم يجنِ منها المواطنون سوى أبراج فارهة يسكنها الأثرياء، فيما تُرك الفقراء ومحدودو الدخل أمام خيارين لا ثالث لهما: إما دفع بدلات إيجار باهظة، أو السكن في تجاوزات تفتقر لأبسط مقومات العيش الكريم. ولا يمكن تجاهل من استغل هذه الأزمة لتحقيق مكاسب شخصية، متخذاً منها بوابة للربح والنفوذ.
ويؤكد مواطنون أن التصعيد الإعلامي وتبادل التصريحات بين المسؤولين لم يكن يوماً حلاً، بل كان الأجدر أن تُتخذ خطوات فعلية تحفظ كرامة المواطن العراقي، قبل أن يُدفع به إلى الأرصفة والمصير المجهول.