في عام 2021 ألقى جَيْ دي فانس JD Vance، المرشح حينذاك لمجلس شيوخ ولاية أوهايو، خطابًا رئيسًا استفزازيًا في المؤتمر الوطني للنزعة المُحافظة National Conservatism Conference. كانت محاضرةُ دي فانس بمثابة اتهام صريح للتعليم العالي الأميركي بأنّه "مؤسسة معادية hostile Institution" تُضفي مصداقيةً على بعض أكثر الأفكار سخافةً في هذا البلد (أميركا). لمْ يُخْفِ السياسيُّ الطَّموحُ كلامه أمام جمهوره اليميني المُتناغم مع أفكاره: "إذا أراد أيٌّ منا أن يفعل ما يريده... فعلينا أن نهاجم الجامعات بصدقٍ وحزم". استوحى دي فانس عنوان خطابه الرئيسي من مقولة قديمة للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون: "الجامعات هي العدو".
حركة "ماغا :MAGA لنجعلْ أميركا عظيمة مرّة أخرى"، التي يترأسُها الآن نائبُ الرئيس دي فانس، شنّت هجومًا لا هوادة فيه على الجامعات والأساتذة والطلاب. يصف دونالد ترامب الجامعات بأنها "خاضعة لسيطرة المجانين والمهووسين الماركسيين"، ويصفُ الطلّاب المتظاهرين بـ"المتطرّفين" و"الهمجيين" و"الجهاديين" الذين غُسِلَتْ عقولُهُمْ من قِبل أعضاء هيئة التدريس "الشيوعيين والإرهابيين"، وقد انتقم بالفعل الصريح من المتظاهرين وغير المتظاهرين في الجامعات على حد سواء بإنهاء تأشيراتهم وإقاماتهم وترحيلهم من الولايات المتّحدة. إلى جانب هذه الإجراءات القاسية حجبت هذه الإدارة، وهي في أعلى درجات الانتشاء، مئات الملايين من دولارات التمويل الفيدرالي سعيًا لإخضاع الجامعات وقسرها على قمع المعارضة الطلابية المتنامية.
في الوقت ذاته الذي أشاد فيه دي فانس بنيكسون وغيره من أسلافه المصنّفين في عداد غلاة اليمينيين، فإنّه (دي فانس) لم يُقرّ البتّة بأن سلفه السياسي (نيكسون) كان يُحارب الجامعة كعدو لأكثر من 100 عام. في الواقع، تُعدُّ ردّاتُ الفعل الرجعية العنيفة بالضد من الجامعات الأميركية خصيصةً مميّزة لمرحلتين رئيستين في تاريخ الأكاديمية الأميركية: ديمقراطية سياسة القبول الجامعية وتنويع المناهج الدراسية. تُعدُّ هجمات ترامب ودي فانس جزءًا من تاريخٍ أطول من ردّات الفعل اليمينية التي تلي كل مرة تُصبحُ فيها الجامعاتُ أكثر ديمقراطيةً من ذي قبلُ.
قبل أن تصبح الجامعات عدوًا طيلة أول 300 عام من تاريخ التعليم العالي في الولايات المتحدة، بدءًا من تأسيس كلية هارفارد في ثلاثينيات القرن السابع عشر، كانت الأكاديمية احتكارًا خالصًا موقوفًا على النخبة المسيحية. لم يلتحق بالكليات الاستعمارية في حقبة ما قبل الحرب الأهلية سوى قلة قليلة، والتي كانت بمثابة نوادٍ تعليمية طائفية لأبناء طبقة النبلاء. التحق شبابُ الطبقة البروتستانتية الحاكمة بالجامعة تحقيقًا للتواصل الاجتماعي وتكوين صداقات وشراكات تجارية تدوم مدى الحياة؛ بل وحتى لربط عائلاتهم برابطة قانونية من خلال الزواج المختلط. كان الشباب، بلا شك، يتعرّفون في الجامعات حينذاك على الفنون الليبرالية Liberal Arts (الإنسانيات) واللاهوت المسيحي؛ لكن الجامعة كانت في الوقت ذاته مكانًا للقاء شباب آخرين مثلهم والتعمق في توطيد الأعراف الثقافية لطائفتهم الدينية وطبقتهم الاجتماعية. كان هذا التقليدُ الذي يعود إلى ثلاثة قرون بطيئًا في التغيُر، وعندما تغيّر فعلًا واجهت الكليات معارضةً شرسةً من أولئك الذين تحققت لهم منفعة كبرى من الوضع الراهن The Status Quo.
طوال هذه الفترة كان الأشخاص الملوّنون أو النساء في الحرم الجامعي هم زوجات وبنات أعضاء هيئة التدريس، والخادمات، والطهاة، وعاملات الغسيل، والخدم، والعبيد.
مع مَقْدَم ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن ذاته أُنشئت كلياتٌ منفصلة للنساء البيض، والرجال الملوّنين الأحرار (حتى تأسيس كلية بينيت College Bennett وكلية سبيلمان Spelman College كان على النساء الملونات "التظاهرُ" بأنهنّ بيضاوات حتّى يتاحَ لهنّ الالتحاقُ بكليات البنات)؛ ولكن لم يكن الهدفُ من هذه المؤسسات منافسةَ الكليات التقليدية أو حتى مقارنتها بها. كانت المناهج الدراسية مختلفةً اختلافًا كبيرًا عن تدريس الإنسانيات في جامعتي هارفارد وبرينستون؛ إذْ بالنسبة للفتيات كانت الدروس تدور حول تدبير المنزل والأمومة المسيحية؛ أما بالنسبة للأطفال والبالغين الملونين فكانت الدروس حول المهن العملية. وبرغم ذلك كان الالتحاق بالجامعة امتيازًا للجميع. حتى مطلع القرن العشرين التحق أقل من 5% من الأميركيين بالجامعة، وحصل عدد أقلُّ بكثير من هذه النسبة الضئيلة على شهادة جامعية.
رد فعل عنيف ضد القبول الجامعي
بدأت أولى معالم تذمّر اليمين بشأن اعتبار الجامعة عدوًا خلال القرن العشرين مع بدء تغيّر طبيعة الحرم الجامعي Campus لمواكبة العصر الحديث. تركّزت شكوى اليمين آنذاك على مَنْ يُقبَلُ من الطلبة. بحلول عشرينيات القرن الماضي بدأ الطلاب الأوروبيون المهاجرون بالتسجيل في جامعات الساحل الشرقي وبخاصّة في جامعتَيْ نيويورك وبنسلفانيا. سعت أقدم وأعرق الجامعات- مثل هارفارد وييل وبرينستون- إلى الحدّ بشدة من التحاق "غير المرغوب فيهم اجتماعيًا ودينيًّا" سعيًا للحفاظ على الحرم الجامعي واحتكاره من قبل البروتستانت القدامى. دفعت هذه السياسة وردود الفعل الرجعية على التقدمية في تلك الحقبة اليمينيين إلى اتّخاذ موقف الشكّ بالحرم الجامعي، حيث بدا أنّ جميع العلوم الاجتماعية الجديدة في ذلك العقد صارت لها سطوة متزايدة، كما استنكر الأصوليون المسيحيون المرعوبون من دراسة فكرة التطور، الفصول الدراسية الأكاديمية التي وصفوها بِـ "المشؤومة".
مع حلول ثلاثينيات القرن الماضي (العشرين) انضمّ الصناعيون الأثرياء إلى جوقة المشكّكين في فائدة الجامعات. جمعت إدارة فرانكلين روزفلت "مجموعة العقول" الشهيرة من الأكاديميين الذين كانت خبرتهم ضرورية لانتشال الأمة من الكساد الكبير؛ لكنّ عمالقة الصناعة الذين رفضوا التسامح مع اقتصاد روزفلت المخطّط ردّوا بإنشاء مراكز أبحاث السوق الحرة، مثل معهد المشروع الأميركي American Enterprise Institute (AEI)، الذي أصدر أوراقًا بيضاء اقتصادية منافسةً دفاعًا عن الرأسمالية. أثبت وجود معهد المشروع الأميركي أنّ الأقسام الأكاديمية الجامعية لم تكن المكان الوحيد الذي يمكن للخبراء فيه إنتاجُ المعرفة. في الواقع أصبحت مراكز الأبحاث اليمينية في العقود القليلة السابقة أداة اليمين المميزة لإنتاج معلومات حزبية مضللة مثل إنكار أزمة المناخ، والترويج للعلوم الزائفة المتعلقة بالعِرْق طوال القرن العشرين.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية احتاج الكونغرس الأميركي إلى وسيلة لضمان انتقال اقتصادي سلس مع عودة أعداد كبيرة من المحاربين القدامى إلى سوق العمل. سمح قانون إعادة تكيَف العسكريين لعام 1944- المعروف أيضًا باسم لائحة جي آي GI Bill- لأكثر من مليون جندي عائد بتأخير عودتهم إلى سوق العمل لبضع سنوات عند التحاقهم بالفصول الدراسية.
ولدهشة العديد من دعاة السوق الحرة والنخب الاجتماعية ضاعف قانون جي آي عدد طلاب الجامعات على المستوى الوطني ممّا أدى إلى تنويع الحرم الجامعي حسب الطبقة والعمر، وفي حالة المحاربين القدامى الجرحى، حسب القدرة البدنية (وليس حسب العِرْق أو الجنس فحسب كما كان معمولًا به من قبلُ).
رد فعل عنيف على ما يُدرّس في الجامعة
في أعقاب قانون جي آي الديمقراطي أصبحت حملة التطهير المكارثية لأكثر من 100 أكاديمي بسبب انتمائهم للحزب الشيوعي قبل الحرب ذات أبعاد أسطورية مخيفة. في الوقت نفسه أصدر ويليام إف. باكلي الابن William F Buckley Jr، المعجب الشاب بجوزيف مكارثي، كتابه "الله والإنسان في جامعة ييل: خرافات الحرية الأكاديمية" God and Man at Yale: The Superstitions of Academic Freedom عام 1951، مجادلًا بأن الأساتذة الاشتراكيين مارسوا ضغوطًا شديدةً على الحرم الجامعي وغرسوا في عقول الطلّاب مبادئ الاقتصاد الكينزي والإلحاد. تحوّلت الأكاديمية، في نظر مكارثي وباكلي وأتباعهما، إلى بؤرة لمعاداة أميركا، وتوطّدت قناعة اليمين بأنّ التعليم العالي لا يمكنُ الوثوق به. رأى اليمينُ أنّ كثيرًا من الناس باتوا يلتحقون بالجامعة ويتعلّمون الدروس الخاطئة.
في أعقاب الهجمة المكارثية على الحريات العامة - والأكاديمية منها بالتخصيص- جاءت حقبة الستينيات الشهيرة، وحينها واصلت الجامعة إضفاء الطابع الديمقراطي على قبولها ومناهجها. سمح قانون التعليم العالي الذي أصدره ليندون جونسون عام 1965 بزيادة فرص الحصول على قروض الطلاب وبرامج العمل والدراسة، وقد سمح ذلك لأجيال إضافية من طلاب الطبقة العاملة بالالتحاق بالجامعة، وأتاح زيادة أعداد الملونين منهم. جاء إنشاء دراسات السود Black Studies، ودراسات المرأة Women’s Studies وغيرهما من التخصصات المماثلة خلال سبعينيات القرن الماضي في أعقاب إضرابات طلابية احتجاجية. في الوقت ذاته شكّلت الاضطرابات المناهضة لحرب فيتنام تحديًا لالتزامات المؤسسات الجامعية بتطوير أسلحة الحرب الباردة. بالنسبة لليمين كان هذا مَحْضَ دليل إضافي على أن الكلية مؤسسة متطرفة.
بدأ الوسط الليبرالي يتبنى بشكل متزايد فكرة أنّ الحرم الجامعي يحمل إمكاناتٍ للتطرف، وشهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي هوسًا ثنائي الحزب (إشارة للحزبيْن الديمقراطي والجمهوري، المترجمة) بالحروب الثقافية، وكان الحرم الجامعي مسرحًا واضحًا لها. جاءت نتيجةُ هذه الحروب لصالح اليمين عندما لفتت النقاشات الشعبية حول الصوابية السياسية Political Correctness وسياسات الهوية Identity Politics الانتباه الحقيقي إلى إجراءات التقشف التي استنزفت موارد التعليم العالي منذ عهد ريغان. خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين صعّد اليمين هجماته على الحركات المناهضة للحروب الثقافيّة في الحرم الجامعي، مهاجمًا أعضاء هيئة التدريس والطلاب الذين عارضوا "الحرب على الإرهاب" واحتجاجات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها. بحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وفي أعقاب التخفيضات الكبيرة التي شهدها التعليم العالي خلال فترة الركود الاقتصادي الكبير، عادت هجمات المحافظين إلى حملات التوعية الاجتماعية في الحرم الجامعي، حيث هاجم اليمين بشدة حركات "احتلوا وول ستريت Occupy Wall Street" و"حياة السود مهمة Black Lives Matter" و"أنا أيضًا #MeToo"، وأثار ذعرًا أخلاقيًا بشأن المساحات الأكاديمية الآمنة، وثقافة الإلغاء.
طوال القرن العشرين وحتى القرن الحادي والعشرين صوّر الخطاب المحافظ الكليات والجامعات على أنها مُسيّسة politicized للغاية، وغير فعّالة، ومعادية لأميركا. من عشرينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي ولّد هذا التوجّه تصوّرات شائعةً بضرورة إصلاح الكليات وإعادتها إلى دورها السابق كمساحة انتقائية لإعادة إنتاج الطبقات. منذ ثمانينيات القرن الماضي كان الهدف نزعَ الشرعية عن المؤسسات الأكاديمية للحصول على موافقة جماهيرية لإلغاء تمويل التعليم العالي العام وخصخصته وإلغائه في نهاية المطاف. الهدفُ هو إعادة الكليات إلى بيئة مُصممة بعناية، ليس لتعليم الجميع، بل لإعادة إنتاج التسلسل الطبقي الهرمي (وبخاصّة إذا كان ذلك وسيلةً لتحقيق الربح).
لم تكن هذه عملية أميركية حصرية؛ فقد شنّ المستبدون حول العالم حملة قمعٍ على المؤسسات الأكاديمية والصحافة ومنصّات الفنون والثقافة على مدار المائة عام الماضية. هذه هي الأماكن التي تُشارَكُ فيها الأفكار ويحصل فيها تحدّي الأعراف التقليدية. يُعدّ سحقُ هذه الأطراف أمرًا أساسيًا لترسيخ السلطة الاستبدادية. يريد قادةُ اليمين الدوليون اليوم السيطرة على التعليم العالي، تمامًا كما يريدون السيطرة على جميع المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية الأخرى، ولأول مرة يُبدي رئيس أميركي (إشارة إلى دونالد ترامب، المترجمة) استعدادًا أخيرًا لتحقيق هدف اليمين الذي مضى عليه قرن من الزمان.
(*) لورين لاساب شيبرد Lauren Lassabe Shepherd: حاصلة على درجة الدكتوراه PH.D، مؤرخة للكليات والجامعات الأميركية وتاريخ التعليم العالي الأميركي. مؤلفة كتاب "المقاومة من اليمين: المحافظون وحروب الحرم الجامعي في أميركا الحديثة Resistance from the Right: Conservatives and the Campus Wars in Modern America". تعمل مقدمة بودكاست الحرم الجامعي الأميركي الأسبوعي.
(*) الموضوع أعلاه ترجمة كاملة للمادة المنشورة في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 6 أيار/ مايو 2025 ضمن باب Opinion: US Universities.
العنوان الأصلي للموضوع المنشور باللغة الإنكليزية هو: ’The universities are the enemy’: why the right detests the American campus
ترجمة: لطفية الدليمي