لا تزال أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية تشهد ارتفاع ملحوظاً في الأسواق، من دون أن يلمس المواطن أي تحسن في قدرته الشرائية، برغم الانخفاض النسبي في سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي.
وتتحدث الحكومة عن إجراءات لضبط الأسعار ومحاسبة المتلاعبين، فيما يؤكد كثيرون أن الغلاء يواصل خنق العائلات ذات الدخل المحدود، في ظل غياب رقابة فعلية واستغلال واضح من بعض التجار.
جشع مستمر
يقول علي حمود، مواطن بغدادي، إنه يعاني كثيراً من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، مضيفًا أنه رغم انخفاض سعر الدولار قليلاً في الفترة الأخيرة، إلا أن أسعار المواد ما زالت مرتفعة بشكل غير مبرر.
ويضيف حمود لـ "طريق الشعب"، أن "التجار يستغلون الأزمة بشكل كبير، مشيرًا إلى أن وضعه الاقتصادي صعب جداً، حيث أصبح من الصعب تأمين الحاجات الأساسية لعائلته.
ويعتقد حمود أن جشع بعض التجار وعدم وجود رقابة فعالة يزيدان من معاناة المواطنين، خصوصاً وأن الكثير منهم يرفعون الأسعار بحجة ارتفاع الدولار رغم أن الواقع غير ذلك، لافتا الى ان "في كل مرة ترتفع فيها الأسعار، نُترك وحدنا لمواجهة الكارثة، من دون اي دعم حكومي حقيقي، ولا إجراءات تردع التلاعب في السوق. الحكومة تتحدث عن تحسين الوضع الاقتصادي، لكن ما نراه هو العكس تماماً".
ويطالب حمود بتدخل حكومي بشكل عاجل لمراقبة الأسواق وضبط الأسعار، لأن استمرار هذا الوضع يزيد من صعوبة الحياة على الجميع. بالرغم من قوله ان "تصريحات الحكومة بمراقبة الأسعار نعلم انها مجرد اخبار إعلامية".
وأصدر رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، في 2 حزيران الجاري، توجيها إلى الدوائر المختصة بمكافحة الجريمة الاقتصادية لمتابعة ومحاسبة المتلاعبين بالأسعار. وبحسب الكتاب الصادر عن مكتب رئيس مجلس الوزراء، والذي اطلعت عليه "طريق الشعب"، ان "بالنظر الى استقرار أسعار الصرف امام الدينار العراقي لوحظ قيام بعض الشركات وضعفاء النفوس لاستيرادهم للأسعار او ابقاءها على وضعها السابق، دون مراعاة الاستقرار في الأسواق وبالأخص أصحاب المواد الغذائية والأدوية وأصحاب المخابز والافران".
وعزا ذلك إلى: "عدم التزامهم بتعديل أسعار البيع للمواد التي يحتاجها المواطن بشكل يومي"، مؤكدا "عدم وجود دور رقابي واضح من قبل الدوائر الاقتصادية لمتابعة تلك الحالات".
ممانعة السوق
من جانبه، قال الخبير في الشأن المالي مصطفى حنتوش أن انخفاض سعر الصرف لا يظهر تأثيره بسرعة في الأسواق، على عكس حال ارتفاعه، حيث تشهد الأسعار قفزات سريعة.
وأضاف في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "السبب في ذلك يعود إلى أن التجار يحتفظون ببضائع تم شراؤها بأسعار صرف مرتفعة، وهي لا تزال تحت تصرفهم"، مشيرًا إلى، أن "المخازن ممتلئة ببضائع تم استيرادها وفق سعر الصرف الأعلى، وبالتالي فإن أي انخفاض في السعر لا يظهر على الفور، بل ينتظر حتى نفاد تلك الكميات ووصول شحنات جديدة مستوردة بالسعر الجديد".
وأشار إلى أن هناك أيضاً كمية كبيرة من السلع في السوق العراقية تم تسعيرها وفق السعر الرسمي، ما يعني أن تأثير التغير في سعر الصرف يكون محدوداً على المدى القصير.
تجربة الهايبر ماركت
كما لفت إلى أن بعض القطاعات، مثل الهايبر ماركت والأسواق المركزية، قد تعكس التغيير بشكل أسرع نسبياً، لأنها تعتمد على دورة سريعة في استبدال البضائع، مما يتيح لها شراء السلع بأسعار صرف منخفضة وبيعها بأسعار أقل للمستهلك.
وتابع حنتوش بالقول إن طبيعة الأسواق والتجارة في العراق تجعل من السهل انعكاس ارتفاع سعر الصرف على الأسعار، نظراً لعوامل مثل الخوف من تقلبات السوق وسلوك رأس المال، في حين أن الانخفاض لا يُترجم مباشرة إلى انخفاض في الأسعار بنفس الوتيرة.
وأشار إلى أن انخفاض الدولار أمر غير واضح إذا ما كان سيستمر أم يعاود الارتفاع، لأنه غير مرتبط بمعالجات عراقية بحتة إنما بتأثير إقليمي خصوصا مع تأثير المفاوضات الإيرانية الأمريكية وارتفاع قيمة العملة الإيرانية.
استيراد بالرسمي وبيع بالموازي!
فيما نبه الخبير الاقتصادي صالح الهماشي الى أن العلاقة بين سعر صرف الدولار وأسعار السلع في الأسواق المحلية باتت غير واضحة، رغم تثبيت سعر الصرف الرسمي عند 132 ألف دينار لكل 100 دولار.
وقال الهماشي لـ "طريق الشعب"، أن "أغلب التعاملات التجارية لا تزال تُحتسب وفق سعر الصرف في السوق الموازية، والذي يتجاوز 144 ألف دينار لكل 100 دولار، ما يخلق فجوة كبيرة بين السعر الرسمي وسعر السوق، تنعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات".
وأضاف أن التحديات لا تقتصر فقط على اختلاف أسعار الصرف، بل تمتد إلى التكاليف غير الرسمية التي يتحملها التاجر العراقي. فمن المنافذ الحدودية، إلى النقل، مرورا بالسيطرات الأمنية والموانئ، تنتشر الرشاوى والمعوقات، ما يضطر التاجر إلى رفع الأسعار لتعويض تلك التكاليف الإضافية.
وأكد أن هذه الممارسات لا تقتصر على جهات غير حكومية بل تشمل مؤسسات حكومية، ما يزيد من تعقيد الوضع.
وأشار إلى أن انخفاض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار زاد من الضغوط على السوق، خاصة في ظل غياب سيطرة حكومية فعالة على المناطق والنقاط الحيوية. وأكد أن ما تحتاجه البلاد هو دولة قوية تحارب الفساد بجدية، وتستمع إلى مشاكل التجار والاقتصاديين، وتتعامل معها بعين الاعتبار.
وفيما يتعلق بالضرائب، أوضح الهماشي أن التحكم الضريبي سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السوق إذا تم فرض ضرائب غير مدروسة، لكنه في المقابل قد يُستخدم للحد من الاستهلاك أو تنظيم السوق إذا استُخدم بشكل إيجابي ومدروس.
واختتم الهماشي حديثه بالتأكيد على أهمية السيطرة على نوعية البضائع المستوردة، ومنع دخول السلع غير المطابقة للمواصفات، لما تشكله من تهديد على الأمن الغذائي والاقتصاد الوطني.
وشدد على أن معالجة الفارق الكبير بين السعر الرسمي وسعر السوق باتت أولوية ملحّة تتطلب تحركا حكوميا حازما.
عجز حكومي عن ضبط الأسعار
من جانبه، يعلق الناشط السياسي، علي القيسي أن "استمرار ارتفاع الأسعار رغم وعود الحكومة المتكررة بالتخفيض يكشف عن فجوة كبيرة بين الخطاب الرسمي والتنفيذ الفعلي على الأرض. فالحكومة أعلنت مراراً عن نيتها محاسبة المتلاعبين بأسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، إلا أن الواقع يشير إلى عجز واضح في السيطرة على الأسواق، أو حتى في فرض آليات رقابة حقيقية".
ويقول القيسي لـ "طريق الشعب"، إن "عدم التزام الحكومة بوعودها يضعف ثقة الشارع بها، خاصة وأن المواطن بات يسمع الوعود أكثر مما يلمس النتائج، في وقت تزداد فيه أعباؤه اليومية نتيجة الغلاء المتصاعد".
كما اشار إلى أن غياب استراتيجية اقتصادية متماسكة وتراخي الأجهزة الرقابية خلقا بيئة مثالية لجشع بعض التجار، ما فاقم معاناة المواطن البسيط.
ويؤكد أن "الاقتصاد لا يُدار بالتصريحات، بل بالإجراءات الميدانية الصارمة، وهو ما لم تلتزم به الحكومة حتى الآن".
واختتم حديثه بان "غلاء الأسعار تحول إلى كابوس يومي يؤرق العائلات ذات الدخل المحدود، فيما تنشغل الطبقة السياسية بصراعاتها ومصالحها الضيقة، غير مهتمة بانهيار القدرة الشرائية لأغلب العراقيين".