في تسعينيات القرن العشرين، وسط فوضى الحصار وتراجع البنية الثقافية والمؤسسية في العراق، برزت موجة فنية اتخذت من الوسائط الصغيرة والحميمية مجالا مريحاً للتعبير الحر، كان من أبرزها ما يُعرف بـ"دفاتر" التي تأتي على شكل "الأكورديون" وهي أعمال فنية تُطوى وتُبسط، فتتحول إلى حكاية بصرية ذات تطور سردي تتجاوز حدود اللوحة الكلاسيكية وشروطها التي لم تعد تستجيب للمزاج العام. وبين من أسّسوا لهذا الاتجاه في الفن العراقي، يأتي الفنان كريم رسن ليحتل موقع الريادة، مستخدماً هذا الشكل كأداة مقاومة رمزية ضد التكلّس البصري والانغلاق المؤسسي والذهاب بالممارسة التجريبية إلى تخوم جديدة.
شكلت "دفاتر الأكورديون" اختراقاً جمالياً للحدود التي فرضتها تقاليد العرض التشكيلي الكلاسيكي. هذا الشكل يسمح بحركة داخل الزمن والفضاء معاً، يفتح للفنان إمكانيات سرد غير خطّي، حيث تتجاور المشاهد وتتداخل، وتتراكب الأزمنة والرموز كما تتراكب الطيات.
وفي تجربة كريم رسن الأخيرة، يتحول هذا الدفتر إلى خزانة بصرية لذاكرة بغداد. فمشروعه الأخير "منزل بغدادي هو تحية بصرية إلى جواد سليم"، يعيد بناء المدينة بوسائط بسيطة وشخصية، لكن برموز كثيفة ومدروسة: الأرابيسك، القباب، الحمامات، الجدران، الزخارف، والوجوه الحمراء ذات الطابع النحتي، جميعها تحاكي إرث جواد سليم دون تقليد، بل بإعادة تمثيل تأملية لإقامة جسر عاطفي جديد معها لما مثله ذلك الأرث من حضور جمالي ووجداني في ذاكرة العراقيين.
بالطبع لم يكن كريم رسن وحده في هذا المسار. فقد خاض عدد من الفنانين العراقيين البارزين تجارب مماثلة، حولوا فيها الدفتر من مجرد وسيط توثيقي إلى كائن بصري حي. من أبرزهم فاخر محمد، الذي أنجز دفاتر فنية متعددة تميزت بطابعها التجريدي واللوني المتداخل، مستخدمًا تقنيات الطي والتراكب لخلق "لوحة متحركة" أو "كتاب بلا نهاية". كانت أعماله تحمل بعداً شعرياً حول التبدلات العميقة التي شهدتها البلاد، والتحولات الثقافية، وتمزيق الهوية وإعادة ترميمها بصرياً.
ما جمع هذين الفنانين، وغيرهما من المبدعين، في هذه التجارب هو الانعتاق من مركزية اللوحة المستطيلة المربعة، والخروج إلى فضاء أوسع يشبه مسرحاً ورقياً متنقلاً، أو دفتر يوميات شعري يسجّل أحاسيس المكان والزمان بمرونة لا توفرها اللوحة النمطية.
وسط هذه الطروحات، يبقى جواد سليم هو "المنهل" الذي لا ينضب. لم يكن تأثيره شكلياً بقدر ما كان تأسيسياً. فهو أول من أعاد بناء الحداثة العراقية على قاعدة مزدوجة: الانفتاح على الحداثة الغربية، والرسوخ في تربة وادي الرافدين. "نصب الحرية" الذي أنجزه عام 1961 لم يكن تمثالاً للثورة بقدر ما كان "سرداً حضاريا" بالرمز والتكوين والخط أو ربما هو دفتر آخر كان من الصعوبة طيه تبعا لشروط انتاجه.
ولذلك، فإن تحية كريم رسن له ليست مجرد وفاء لتقليد، بل هي تذكير بأن الحداثة في العراق ليست قطيعة، بل استمرارية رمزية. إن رموز جواد: من الوجوه القلقة، إلى الحصان، إلى الأم، إلى العامل، كلها تظهر متحولة، معاد إنتاجها، ومحمولة على أكتاف الورق في دفاتر كريم.
في دفتره "منزل بغدادي"، نجد لغة كريم رسن شكلية وتجريبية، لكنها مشحونة بالمعنى. الطيّات لا تخفي فقط، بل تكشف تدريجياً. اللون يشتبك مع الرسم، والرسم يندمج مع الخط. الشخوص: رجال بشوارب كثة، نساء يحملن أدوات تقليدية، مشاهد لحدائق وأبواب ومراوح، ليست "تمثيلًا فوتوغرافيًا" للمدينة، بل هي استعادة رمزية لذاكرتها.
العين في هذه الدفاتر لا تتجول كما في اللوحة، بل تُساق في رحلة سردية تتابعية، تجعل المشاهد مشاركاً في فك الطيّة واكتشاف الداخل. وكأن الفنان يعيد ترتيب البيت البغدادي طيّةً طيّة، غرفةً.
في زمن يتعرض فيه التراث الحضري العراقي إلى التآكل، يأتي فن الدفاتر كفعل مضاد: ضد النسيان، ضد الجمود، ضد العنف. في هذه الأعمال، نقرأ مدينة تُعاد كتابتها من جديد، لا عبر الحنين، بل عبر التركيب الجمالي والبحث الحداثي عن معنى جديد للسرد التشكيلي.
لقد تحول "دفتر الأكورديون" إلى فضاء حرّ، يحمل في طيّاته كل ما لم تستطع اللوحة المستقيمة أن تقوله. وبين هؤلاء الفنانين، يبقى كريم رسن من أكثر من فهموا هذا الوسيط، واستخدموه ليس كحيلة تقنية، وإنما كنافذة على جوهر بغداد، وعلى روح الفن العراقي الذي يقاوم النسيان