بينما تتصاعد وتيرة المواجهة الإقليمية بين إيران وإسرائيل المعتدية، يجد العراق نفسه محاصراً بتداعيات اقتصادية متزايدة تهدد أمنه الغذائي واستقراره المالي؛ فقد أدى إغلاق المجال الجوي وتعطل المنافذ الحيوية إلى خسائر يومية، تقدّر بعشرات ملايين الدولارات، اضافة لتوقف التبادل التجاري مع ايران.
وسط كل هذا يحذر خبراء الاقتصاد من أن خطط الطوارئ التي تراهن عليها، لن تصمد في حال استمرار الأزمة لفترة طويلة. وفي وقت يتقلص فيه المخزون الاستراتيجي للمواد الغذائية وتتزايد كلفة النقل والاستيراد، سيبقى العراق عرضةً لتداعيات أعمق في حال تطور الصراع واتساع رقعته الجغرافية.
عقم في التخطيط
في هذا الصدد، أكد الخبير الاقتصادي صالح الهماشي أن التصعيد الإقليمي المتواصل بين إيران وإسرائيل يضع العراق في دائرة الخطر المباشر، ليس فقط من الناحية الأمنية، بل من زاويته الاقتصادية حيث باتت أكثر هشاشة في ظل استمرار الحرب، وتعطل حركة الطيران، وتأثر خطوط التجارة والنقل.
وقال الهماشي في حديث لـ "طريق الشعب"، ان "الأزمات الكبرى – سواء كانت حروباً أو كوارث طبيعية – تُصنّف ضمن المخاطر التي يتعامل معها الاقتصاد العالمي عادة من خلال أدوات التأمين وإدارة الطوارئ"، مضيفاً أن "الشركات التجارية الكبرى غالباً ما تكون مؤمّنة ضد هذه المخاطر، لكن الشركات غير المؤمنة ستتحمل الخسائر الكاملة، وهو ما يكشف ثغرات في التخطيط الاقتصادي لدى بعض الفاعلين في السوق العراقي".
وأضاف أن شركات التأمين قد تتراجع عن تغطية بعض الأضرار في ظروف الطوارئ القصوى، مشدداً على أن الأزمة الحالية "لا تقتصر تداعياتها على العراق، بل تمتد إلى دول عدة في المنطقة، إذ تغيّرت مسارات شركات الطيران، وتوقفت مطارات في كل من بغداد ودمشق وطهران وعمّان عن استقبال بعض الرحلات، في حين قلّصت شركات دولية رحلاتها إلى دول الخليج باستثناء الحالات الضرورية".
وفي ما يتعلق بالعراق، رأى الهماشي أن "الوضع الاقتصادي حساس بطبيعته، ويتأثر بأي أزمة، غير أن الصراع المفتوح بين ايران والكيان الصهيوني يحمل تهديداً مضاعفاً، بسبب موقع العراق الجغرافي الحساس يستخدمه الطرفان كممر جوي مباشر، ما يجعل أراضيه ساحةً متداخلة في معركة لا يملك أدوات إدارتها".
تراجع القوة الشرائية للمواطنين
وأضاف ان "القلق يخيّم على الأسواق، والقوة الشرائية تراجعت، والتجار ينتظرون نتائج الحرب بخوف، وسط توقف استيراد كثير من البضائع، وتأخر وصول شحنات أساسية، منها السلع الغذائية والمواد الطبية، في وقت بدأت فيه تكاليف النقل والخدمات بالتضخم".
وتابع الهماشي حديثه بالقول: انه برغم كل هذا "تراهن الحكومة على خطط طوارئ مؤقتة لحماية الأمن الغذائي. إلا أن هذه الخطط تعتمد بالدرجة الأولى على الخزين الاستراتيجي الموجود حالياً، والذي يكفي – بحسب تقديري – لمدة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر فقط. وإذا ما نفد هذا المخزون، فسيصعب جداً إدخال بضائع جديدة في ظل المخاطر الراهنة".
ونوّه الهماشي إلى أن "المنافذ الشرقية، خصوصاً مع إيران، أصبحت مهددة، فيما يظل المنفذ البحري عبر البصرة معرضاً للمخاطر بسبب قربه من مناطق التوتر، وفي حال أقدمت إيران على إغلاق مضيق هرمز، فإن صادرات النفط العراقية ستتوقف عملياً، باستثناء خط جيهان التركي، الذي لا يملك القدرة على تصدير كميات كبيرة، ما يُفاقم الأزمة".
واستبعد ان تتمكن خطط الحكومة، خصوصاً وزارة التجارة، من الصمود في حال طال أمد الحرب، لأن العراق يفتقر إلى منظومة استراتيجية متكاملة لإدارة الأزمات الكبرى والمخاطر الطارئة، وهي فجوة لا بد من معالجتها سريعاً قبل تفاقم الأضرار".
خسائر كبيرة
أما الخبير الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي فقد حذر من التداعيات الاقتصادية الخطيرة الناجمة عن توقف حركة الملاحة الجوية في العراق، مؤكداً أن استمرار هذا التوقف يُكبّد البلاد خسائر مباشرة تُقدّر بمئات الملايين من الدولارات شهرياً، بما يعادل نحو 5 ملايين دولار يومياً.
وقال الشيخلي لـ"طريق الشعب"، إن "الإيرادات المتأتية من مرور الطائرات عبر الأجواء العراقية تُعد مورداً مهماً يعزز الإيرادات غير النفطية للدولة"، مشيراً إلى أن "تعليق هذه العمليات ألحق ضرراً مباشراً بالعوائد السيادية، لا سيما وأن تلك الأجور تُستوفى بموجب اتفاقيات دولية مع شركات الطيران".
وأضاف أن "الخسائر لا تقتصر على رسوم عبور الأجواء فحسب، بل تمتد إلى تراجع إيرادات بيع التذاكر، وتوقف عمليات الشحن الجوي، وتأثر نشاطات الاستيراد والتصدير، فضلاً عن التزامات العراق المالية تجاه شركات الطيران التي أبرمت عقوداً تجارية قائمة على تشغيل الأجواء والمطارات العراقية".
وأشار الشيخلي إلى أن "الحكومة حاولت احتواء جزء من الأزمة عبر تشغيل مطار البصرة لساعات محددة، وهو إجراء جزئي لا يعوض الخسائر الفعلية"، معربا عن أمله في استئناف العمل في مطارات أخرى خلال الأيام المقبلة.
وانتقد الشيخلي أداء وزارة النقل في ما يتعلق بإدارة ملف الأجواء العراقية، مبينا أن "الوزارة لم تكن تستوفي أجور مرور الطائرات منذ نحو عقدين، ما يعني أن تصريحاتها بعدم اعتبار تلك الأموال ضمن بند الخسائر تفتقر إلى الدقة".
وتابع ان "هذه الإيرادات كانت تُهدر، وكان من الممكن أن تُسهم في تخفيف الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للتمويل".
وحول الوضع الأمني وتأثيره على حركة الطيران، نبه الشيخلي الى أن "الظروف الحالية جعلت الأجواء العراقية من بين أخطر المسارات الجوية في المنطقة"، لافتاً إلى أن "المخاطر الأمنية تبرر جزءاً من الخسائر، خاصة في ظل تهديدات غير متوقعة من طرف مثل إسرائيل، الذي لا يلتزم بأي قواعد أو مواثيق دولية، وقد يرتكب أي عمل عدائي دون اعتبار للقانون الدولي".
مرحلة حرجة اقتصاديا
وضمن السياق، أكد المراقب للشأن الاقتصادي حسنين تحسين أن التطورات الأمنية الأخيرة في المنطقة تُنذر بتداعيات خطرة على الاقتصاد الوطني، خاصة إذا استمر إغلاق المجال الجوي وتعطلت حركة المنافذ الحدودية.
وقال تحسين في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "الاقتصاد العراقي يواجه مخاطر حقيقية في ظل التصعيد الأمني المستمر، وعدم وجود بوادر لوقف إطلاق النار أو تهدئة طويلة الأمد"، مضيفًا أن "استمرار هذا الوضع يعني دخول العراق في مرحلة حرجة اقتصاديًا، خصوصًا مع اعتماده الكبير على الواردات من إيران في السنوات الماضية”.
وأضاف أن “إغلاق المجال الجوي يعطّل نقل المواد الحيوية، مثل الأدوية والمستلزمات الطبية، التي تصل عادة عبر الطيران، ما يؤدي إلى نقص محتمل في هذه المواد وارتفاع أسعارها”، محذرًا من أن “المدة التي سيستمر فيها هذا الإغلاق غير واضحة، ما يضيف حالة من الضبابية والقلق في الأسواق”.
وتحدث تحسين أيضًا عن سيناريوهات أكثر تعقيدًا قد تؤثر بشكل مباشر على الصادرات النفطية، قائلًا: “في حال تطور الصراع وشاركت الولايات المتحدة عسكريًا، قد تقدم إيران على خطوات تصعيدية مثل إغلاق مضيق هرمز أو زرعه بالألغام البحرية، وهو ما سيؤدي إلى شلل تام في صادرات النفط العراقية التي تمر عبر هذا المضيق الحيوي”.
وأوضح أن “رغم أن أسعار النفط سترتفع حينها، إلا أن العراق لن يتمكن من الاستفادة من هذه الزيادة، لأنه ببساطة لن يكون قادراً على تصدير نفطه، وبالتالي تتحول الأزمة إلى ضربة مزدوجة تضرب قطاع الاستخراج النفطي وتفقد البلاد موردها الأساسي”.
وانتقد تحسين افتقار الحكومة لخطط فاعلة لتنويع الشراكات التجارية، قائلاً: “كان من الممكن التخفيف من آثار الأزمة الحالية لو أن العراق عمل في السنوات الماضية على تنويع وارداته من دول أخرى، وتطوير المنافذ الحدودية الجنوبية، خصوصًا مع المملكة العربية السعودية”.
وأشار في هذا السياق إلى أن “منفذ عرعر لا يزال الوحيد الفعّال رغم الامتداد الحدودي الواسع بين البلدين، بينما بقي مشروع فتح منفذ الجميمة متعطلاً لسنوات، وهو ما يعكس سوء التخطيط ويؤثر سلباً على سلاسل الإمداد الخاصة بالمواد الغذائية والسلع الأساسية التي يعتمد عليها السوق العراقي بشكل كبير”.
وفي هذا الصدد، قال الخبير الاقتصادي محمد الحسني، ان استمرار اعتماد البلاد على الاقتصاد الريعي "انتج مجتمعاً استهلاكياً واضعف قاعدة الإنتاج الوطني".
واضاف الحسني، ان الحكومة العراقية لم تتحرك "لتطوير قطاعات الإنتاج الصناعة والزراعة المتنوعة من أجل تنشيط قطاع التجارة الخارجية للدولة، ولتحقيق أعلى قدر من الإيرادات المالية التي تساهم في تحقيق أعلى عائد للدخل الوطني وخزينة الدولة العراقية".
وكانت وزارة المالية كشف في وقت سابق بأن حجم الإيرادات في الموازنة الاتحادية منذ كانون الثاني وحتى آذار عام 2025 تجاوز 27 ترليون دينار، مع مساهمة النفط بنسبة 91% من مجموع الإيرادات.
وأظهرت جداول صادرة عن وزارة المالية في حزيران الحالي لحسابات الربع الأول من العام، طالعتها "طريق الشعب"، ان النفط ما يزال يشكل المورد الرئيس للموازنة العامة، مما يكرّس الطابع الريعي للاقتصاد العراقي".
ويبقي اعتماد الدولة المستمر على النفط كمصدر وحيد للإيرادات، يعرض العراق للأزمات العالمية التي تؤثر على أسعار النفط، ما يدفع البلاد إلى اللجوء المتكرر إلى الاستدانة لتغطية العجز، وهذا ما يعكس ضعفاً في إدارة الدولة وصناعة القرار، وعجز المنظومة الحاكمة عن تطوير بدائل تمويلية فعالة.