التجنيس الأدبي من وجهة غير غربية
نشر بواسطة: mod1
الإثنين 30-06-2025
 
   
د. نادية هناوي

كثيرة هي الدلائل على تبعية النقد الأدبي العربي، فهو لا يعتد إلا بما أتى به النقد الغربي، ولا تعجبه سوى طروحات منظري الغرب، ولا يطمح أن يناقشهم، بله أن ينافسهم في ما توصلوا إليه من نتائج أو اتخذوه من تصورات وتقسيمات أو ما اعتمدوه من مفاهيم ومصطلحات.  ولقد تربى الناقد العربي على التبعية، سيان في ذلك الذي نشأ في أحضان الاكاديمية والذي نما ونضج خارجها، باستثناء نفر من النقاد الأصلاء الذين ما احتكوا بالمنظومة النقدية الغربية إلا لأجل التطوير الذاتي والنماء المعرفي والاهتداء إلى صيغ كفيلة بتعزيز أساليب البحث النقدي، بغية تحليل النصوص الأدبية واستقراء أبعادها الفنية والموضوعية.

وبالطبع لا ترجح كفة الأصلاء نظرا لثقل كفة الاتباعيين من الذين يتعاملون مع النقد الغربي بشكل مقدس، بمعنى أن الصواب لا يكون إلا بالمسايرة العمياء. وعلى هذا الأساس يغدو التجديد محصورا في إطار ما أتى به النقد الغربي من نظريات وما حدده من منهجيات. ولأن هذا الأخير سابق ومتقدم يصبح أمر اللحاق به شبه مستحيل؛ ثم كيف يتاح للنقد العربي أن يسبق، وهو يضع نفسه في موضع التابع، ويقبل بهذا الوضع صاغرا عن جدٍّ وبلا اجتهاد.

إن استجلاء أسس هذه الصورة السلبية لحال النقد العربي متحقق بوضوح في تناول أية قضية من قضايا الأدب والنقد، ومنها قضية التجنيس لاسيما التجنيس الروائي: من أين أتى؟ وكيف حصل ؟ ومن سبق ؟ وما الذي كان قبله وما الذي جاء بعده ؟ وأسئلة أخرى لا إجابات محددة عنها سوى ما أتى به النقد الغربي من كشوفات، وما أقر به من إشكاليات في مناح معينة لم يحسم القول فيها حتى الآن.

وإزاء هذا الحال الاتباعي للناقد العربي في تناول التجنيس الروائي، تغيب حقيقة ما في السرد العربي القديم من أصول ومصادر، كانت محصلتها تقاليد أدبية، ترسخت بمرور الزمان وانتقلت خلال العصور الوسطى وتحديدا أواخرها إلى الأدب الأوروبي. وعليها أقام هذا الادب قواعد نهضته. وكان الادب الايطالي السباق في استلهام تقاليد السرد العربي. فهل يعترف النقد الغربي بهذه الحقيقة التاريخية؟ الجواب كلا، بل هو يفسر ظهور حكايات كانتربري لتشوسر بأنها "نوفيلا " مبنية على قصة إطارية، وداخلها قصة ضمنية وبموضوعات تدور حول الفروسية. وبهذا تغيب حقيقة التقاليد التي كان قصاصو القرن الرابع الهجري قد ساهموا في ترسيخها وانتقلت الى الأدب الايطالي واتبعها تشوسر في بناء حكاياته، مستعملا موضوع الفروسية الذي عرفه الادب العربي منذ عصر ما قبل الإسلام.

ولعل أكثر ما شاع في النقد الأدبي الأوروبي وتابعه عليه النقد العربي هو أن الآداب الأوربية في أواخر العصور الوسطى نشأت تستلهم الأدب الإغريقي والروماني. وهذا خلاف ما كان من حركة ثقافية وفكرية إشاعتها الحضارة العربية الإسلامية في أوروبا أبان العصور الوسطى وكانت كبيرة في قوة تأثيرها. وليس شعراء التروبادور وحدهم الذين ساروا على تقاليد شعر الموشحات والأزجال الأندلسية، بل معهم الأدباء الذين اتبعوا تقاليد السرد العربي. ومن المفارقة حقا أن يعتبر النقد الغربي تجنيس الرواية سابقا تجنيس القصة القصيرة بأكثر من قرنين في حين أن القصة العربية كانت قد أكدت أجناسية قالبها منذ زمن بعيد يعود الى العصور الوسطى، وفيه ابتكر الادباء العرب مواضعات كتابتها وبأساليب سردية ومرجعيات مختلفة. وهو ما تشهد عليه مخطوطات المرويات التراثية التي استقرت في مكتبات الأندلس لاسيما في آخر قرن من قرون ازدهارها.

وليس أمر تناسي تقاليد السردية العربية بمقتصر على منظري السرد ونقاده الغربيين من الكلاسيكيين وما بعد الكلاسيكيين، بل هو يشمل أيضا النقاد العرب الذين نسوا بدورهم حقيقة هذا التأسيس وراحوا يتبعون نقاد الغرب في تفسير أساليب كتابة الرواية الجديدة والرواية ما بعد الحداثية.

ولا مراء في أن ذلك التناسي يتأتى من الانبهار بالنتائج المتحصلة من النقد الغربي، ولكن هل نعد كل تلك المتحصلات صائبة وحقيقية ؟ إن هذا السؤال هو الذي يقتضي منا وقفات نقدية جادة بها ننفض عن كاهلنا الروح الاتباعية. والاسباب الموجبة للنفض كثيرة؛ منها اولا أن الإرث السردي هو أرث عربي وثانيا أنه قد أسس ولا يزال يساهم في التجديد الروائي والقصصي الغربي. وثالثا أن في الوقوف على تقاليد سردنا والعمل على كشف المزيد منها، تذكيرا وتنبيها بما في هذه التقاليد من أهمية كانت سببا في أن يقع ثرفانتس على عمل، عده منظرو الغرب جنسا جديدا اطلقوا عليه اسم "رواية" في حين أن صاحبه اتبع تقاليد السرد العربي وسماه كتابا. هذا إن لم يكن قد وجده مخطوطا أصلا. وكذلك الحال مع من يعد ( روبنسون كروزو) أول عمل روائي فهو الاخر اتبع فيه صاحبه "ديفو" تقاليد السرد العربي، محاكيا قصة( حي بني يقظان) لابن طفيل.

لا يبحث الناقد العربي اليوم عن هذا وذاك، لان اتباعيته تقيده، وتجعله لا يقر إلا بتوصلات النقدية الغربية التي تذهب بشكل قاطع إلى أن للحكاية وللقصة وللنوفيلا في الأدب الأوروبي( تاريخا !!) وأن الاخيرة كانت حكايات قصيرة !! سميت بهذا الاسم في القرن الرابع عشر ثم تحولت – بقدرة قادر - إلى نوع سردي متطور في القرنين التاسع عشر والعشرين. أما كيف ولدت هذه الحكايات ؟ فلا أهمية له، لأن الامر -من وجهة نظر النقد الغربي - تشكل من سديم فلا مقدمات واجبة ولا أصول سابقة ولا تقاليد كانت موجودة وتم السير عليها وتطويرها. ليس هذا حسب، بل إن النقد الغربي ينحاز بشكل مقيت إلى (السرد في كتابات الرجال البيض )

ولا تغرنّك محاولات هذا النقد في إعادة قراءة الأدب الغربي والتطرق الى مساهمات النساء والرجال الملونين. فهذه تبقى محض محاولات، لن تتحول الى واقع عملي. ومن ثم هي لا تقدم ولا تؤخر من حقيقة عنصرية النقد الغربي، خذ آخر منشوراته، وسترى ذلك واضحا. وانطلاقا من الفكرة المموهة التي  تقول إن للأدب الاوروبي تاريخا، صارت مسميات العصور الوسطى وعصر النهضة موضع اهتمام النقد الكلاسيكي من ناحية اطلاق تلك المسميات على حركات أو اساليب أو اشتغالات الادب في القرنين التاسع عشر والعشرين، فمثلا الرومانسية التي كانت تعني في العصور الوسطى قصصا خيالية اتبعت تقاليد السرد العربي، اطلقها نفر من شعراء ونقاد عصر التنوير على ما عدوه مذهبا ادبيا هو في الحقيقة استقى كثيرا من مبادئه من تقاليد الشعر الشرقي والعربي. أما النوفيلا فتسمية أطلقت في العصور الوسطى لتوصيف القصة الايطالية التي اتبعت تقاليد السرد العربي، فقام نقاد أواخر القرن التاسع عشر بإطلاق هذه التسمية على نوع سردي هو أقصر حجما من الرواية. وترسخ اسم النوفيلا بفضل نقاد القرن العشرين الذين وضعوا اكثر من نظرية في الرواية، وعدوها وريثة للملحمة الإغريقية وليست البابلية بالطبع. ومن جراء هذه الأفكار المموهة، بدت الرواية كأنها سبقت القصة القصيرة. وبدت القصة القصيرة كأنها جاءت بعد النوفيلا وهكذا دواليك !!.

ولقد شكك كولن ولسن - وهو الأكثر تخلصا من التعنصر بما عرف عنه من اللاانتمائية للمركزية الغربية - في ما ذهب إليه غيره من أبناء جلدته من تفسيرات حول نشأة الرواية الأوروبية ، قائلا:( إن أكبر المفاهيم الخاطئة على الإطلاق أن الرواية لم يبلغ عمرها بعد سوى قرنين ونصف القرن ولكنها في ذلك الوقت غيرت من ضمير العالم المتمدن أننا نقول إن دارون وماركس وفرويد غيروا وجه الثقافة الغربية ولكن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير الثلاثة مجتمعين) وهنا نتساءل: من الذي جعل للرواية هذا التأثير الذي به غيرت وجه أوربا أولا والغرب آخرا ؟

هذا ما لا يجيب عنه ولسن، ولكنه يقول:( إن البقاء للأصلح وأن الكتابة الإبداعية عملية شاقة كالصعود إلى أعلى التل حيث يتساقط الضعفاء بينما يواصل الأقوياء بتؤدة الصعود ) ولا خلاف في أن للتفوق الكولونيالي وسياسة العصا الغليظة فاعليتهما في أن يتجاهل نقاد الغرب دور العرب الحضاري والأثر الذي تركوه في الفكر والأدب الغربيين.

إن مثل هذا التغاضي والعزوف والاستكثار والاستنكاف والحرج هي مظاهر باتت معروفة وملموسة في النقد الغربي. وإذ يصبح من الضروري نبذ التبعية، فان ذلك لا يكون إلا بأن نضع نظرية عربية سردية تعيد أقلمة ما للمرويات التراثية العربية من تقاليد راسخة، انتقلت وأثرت في آداب الأمم المجاورة. وبذلك فقط نعيد الاعتبار لذواتنا ولمنجز أسلافنا.

وأول حجر سيحرك الطمر وينبش المغيب هو تأكيد أن الرواية الأوروبية ما صارت جنسا أدبيا الا بناء على ما تأسس من مواضعات وتقانات في السرد العربي القديم، وما ترسخت فيه من تقاليد قامت عليها أنواع سردية مختلفة كالمقامة والمنامة والقصة والحكاية والرحلة. وتعد رواية (دون كيخوته) مثالا ناصعا على ذلك، ففيها أودعت مختلف التقاليد التي ترسخت من تراكم المرويات التراثية العربية سواء في مرحلتها الشفاهية أو الكتابية.

وما اقبال الادباء العرب المحدثين في منتصف القرن التاسع عشر نحو استعادة تقاليد السرد القديم عبر كتابة المقامات ونشرها بوسائل النشر المتوفرة آنذاك سوى دليل على الرغبة في استثمار هذا الضرب من الكتابة وتطويره تطويرا تزامن مع ما كان السارد الأوروبي يجرّبه ايضا في ذاك القرن من كتابة قصص طويلة، سميت رواية ثم تقلص الطول فسميت نوفيلا ثم تقلص اكثر فسميت قصة قصيرة. وحصول هذا التزامن بين السارد العربي والغربي، يؤكد أن تقاليد السرد واحدة. فالسارد العربي لم يكن خالي الوفاض كي يقلِّد الكاتب الأوروبي ويتبعه إتباعا تاما وانما هي بضاعته الاصلية التي تم تصديرها الى نظيره الاوروبي ثم ردت إلى العربي تحت مسميات مستحدثة. ومهما تصورنا تأثير الرواية المترجمة في قصص عصر النهضة الادبية، فإنه يظل تأثيرا محدودا من ناحية ندرة هذه الرواية نظرا لقلة الترجمة لها أولا، ومدى إتقان السارد العربي اللغات الأجنبية ثانيا.

الطریق الثقافي

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





المهرجان العربي والكلداني
 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced