الفقر والتقاليد يقيدان مستقبل الأطفال.. آمال التعليم تنهار أمام عمالة الطفولة
بات مشهد الأطفال الذين يكدحون تحت لهيب الشمس، في الشوارع أو بين زوايا الورش ومحطات الوقود والأسواق، مشهدًا يوميًّا مألوفًا، لكنه في جوهره مأساة معلنة. ورغم أن القوانين العراقية تجرّم عمالة الأطفال وتحدد سنًا قانونية للعمل، إلا أن الواقع يُظهر اتساع الهوة بين النص القانوني والتطبيق الفعلي، في ظل تفكك مؤسسي، وتراجع دور الرقابة، وغياب منظومة حماية حقيقية للأطفال.
يقول الناشط العمالي ستار علي: «كثير من الشباب الذين تركوا مقاعد الدراسة في سن مبكرة، لم يفعلوا ذلك عن رغبة أو إهمال، بل لأن الفقر كان سيد الموقف. بعضهم كان مضطرًا للعمل لإعالة أسرته، والبعض الآخر ببساطة لم تكن لديه خيارات. أما الفتيات، فغالبًا ما واجهن عقبة مزدوجة: الفقر من جهة، ونظرة المجتمع من جهة أخرى، تلك النظرة التي لا ترى في تعليم المرأة أولوية».
ويضيف لـ «المدى»، مستنكرًا: «حين أُتيحت فرص للدراسة لاحقًا، لم يكن من الغريب أن تُفضل الأسر تعليم الذكور، فالأعراف والتقاليد كانت أقوى من الرغبة في التغيير. في القرى، كانت المسافات الطويلة إلى المدارس، وتكاليف النقل، سببًا إضافيًا لحرمان البنات من التعليم. إنها ليست مجرد حالات فردية، بل ظاهرة تتكرر بصور مختلفة».
ويُتابع علي حديثه قائلًا: «المؤلم في الأمر أن هذه الظاهرة تتغذى على الفقر والجهل والصراعات، ولا تُدمر حاضر الطفل فحسب، بل تزرع بذور التفكك الاجتماعي لسنوات طويلة. فكل الدراسات المحلية والدولية تؤكد أن الأطفال العاملين هم الأكثر عرضة للانقطاع عن التعليم، والوقوع في أنشطة خطرة أو غير مشروعة، كما أنهم أكثر تعرضًا للعنف والاستغلال».
ويشير إلى أن «الأسوأ من ذلك أن عمالة الأطفال لم تعد مجرد خرق للقانون، بل تحولت إلى أمر مألوف ومقبول ضمن الاقتصاد غير الرسمي، حيث يُستغل الأطفال كأيدٍ عاملة رخيصة لا تُطالب بشيء: لا حقوق، لا تأمين، ولا تعليم. وهذا القبول المجتمعي الصامت لا يقلّ خطورة عن غياب القانون، لأن الكارثة حين تصبح مألوفة، يفقد الناس حساسيتهم تجاهها».
ويوضح أن الخطاب الحكومي تجاه هذه الظاهرة كثيرًا ما يكون موسميًا، وربما تجميليًا، دون إجراءات حقيقية: الأسرة تُترك وحدها لمواجهة الفقر، دون دعم فعلي، دون بدائل. في الريف يعمل الطفل في الحقول من عمر السادسة، وفي المدن يبيع العلكة أو ينظف زجاج السيارات عند الإشارات، في ظل غياب شبه تام لأي رقابة ميدانية أو رادع قانوني فعّال».
ويختم ستار علي حديثه بأسئلة مفتوحة: «من يراقب تطبيق القوانين؟ من يُحاسب من يشغّل الأطفال؟ والأهم: من يحمي الطفل إذا كانت أسرته هي من تدفعه إلى العمل؟».
تقول الحقوقية نورس شاكر، إن ما يحدث ليس فقط مأساة اجتماعية، بل أيضًا خرق صريح للقانون، وتُبيّن أن «قانون العمل العراقي واضح في هذا الجانب، فهو يمنع تشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة، ويضع قيودًا صارمة حتى على تشغيل من هم بين 15 و18، من حيث طبيعة العمل وساعاته وشروطه. ومع ذلك، نشاهد يوميًا عشرات، بل مئات الأطفال وهم يُجبرون على القيام بأعمال شاقة، في الورش، وفي الأسواق، وفي الزراعة، بل وحتى في أعمال البناء والنقل».
وتصف ما يجري بأنه تواطؤ صامت بين أصحاب العمل وبعض العائلات المحتاجة، فتقول: «أصحاب العمل يستغلون حاجة الأسرة، ويستفيدون من الطفل كيدٍ عاملة رخيصة، لا تأخذ أجرًا عادلًا، ولا تتمتع بأي حقوق، ولا تُكلفهم تأمينًا أو التزامات. والأسوأ من ذلك أنهم يعلمون أن غياب الرقابة وضعف تطبيق القانون يجعلهم بمأمن من المساءلة».
وتُشير إلى أن المخالفات لا تقتصر على تشغيل الأطفال فقط، بل تمتد إلى ظروف العمل نفسها، التي كثيرًا ما تكون خطرة وغير إنسانية، وتضيف: «رأيت أطفالًا يعملون في بيئات لا تصلح حتى للكبار، يحملون أوزانًا ثقيلة، أو يتعاملون مع مواد سامة، أو يُجبرون على العمل لساعات طويلة دون راحة. كل هذا يحدث في وضح النهار، دون رقيب أو رادع».
وتؤكد أن غياب المحاسبة هو ما شجّع هذه الممارسات على التوسع، وتشدد على تفعيل القوانين، وفرض عقوبات رادعة على أصحاب الورش والمحلات والمزارع التي تُشغّل الأطفال، وأضافت أن «ما نراه هو أن الدولة تترك الأمر وكأنه شأن ثانوي، بينما هو في حقيقته جريمة بحق الطفولة والمجتمع».
في المقابل، يبرز موقف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي تؤكد من جانبها سعيها الجاد لمعالجة ظاهرة عمالة الأطفال، خاصة في المناطق الصناعية داخل العاصمة بغداد وفي المحافظات الأخرى.
فبحسب ما ذكره المتحدث باسم الوزارة، نجم العقابي، فإن هناك جهودًا متواصلة تبذلها فرق الوزارة لرصد هذه الحالات، ومتابعتها ميدانيًا، واتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق أرباب العمل الذين يُشغّلون أطفالًا دون السن القانوني.
ويشير العقابي لـ «المدى»، إلى أن الوزارة لا تكتفي بالمخاطبات، بل تُحيل المخالفين فعليًا إلى الجهات المختصة، ضمن رؤية أوسع تهدف إلى حماية الأطفال وضمان حقوقهم، بالتوازي مع برنامج وطني لدعم الأسر الفقيرة، يُركّز على الوقاية من الفقر كأحد أبرز دوافع عمالة الأطفال.
ويلفت إلى أن الوزارة تعمل من خلال لجنة مختصة لمكافحة عمالة الأطفال، وهي لجنة معنية بمتابعة الملفات الحساسة والطارئة، وبتنسيق مباشر مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية.
ويضيف العقابي أن برامج الحماية الاجتماعية تغطي قرابة 4 ملايين طفل عراقي، مشيرًا إلى مبادرات تشمل توزيع سلال غذائية، ومنح مالية لتلاميذ المدارس الابتدائية، يحصل من خلالها الطالب على مبلغ شهري يبلغ 30 ألف دينار لتشجيعه على الاستمرار في التعليم والابتعاد عن سوق العمل.
وفي إطار الشراكة مع المنظمات الدولية، يعلن العقابي عن إطلاق دفعة جديدة من الدعم المالي ضمن برنامج «كاش بلاس»، الذي يُقدّم مبلغ 240 ألف دينار لكل مستفيد لمدة ستة أشهر، في محاولة جادة لسدّ جزء من الفجوة الاقتصادية التي تدفع الأسر نحو تشغيل أطفالها.
ويلفت إلى أن محافظة المثنى، باعتبارها من أكثر المحافظات فقرًا، كانت من أوائل المناطق التي استفادت من هذه المبادرة، حيث شمل نحو 7 آلاف مستفيد خلال الأيام الماضية. كما شمل البرنامج فئات أخرى هشّة، مثل النساء الحوامل، مع مراعاة احتياجاتهن الصحية والغذائية.
ويُؤكد العقابي أن الوزارة تسعى إلى توسيع هذا البرنامج تدريجيًا ليشمل محافظات جديدة خلال المرحلة المقبلة.
ورغم هذه الجهود، تبقى التحديات قائمة، خاصة في ظل الأرقام المقلقة التي كشفتها وزارة التخطيط، حيث تشير إلى أن 17.5% من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يعادل أكثر من 8 ملايين شخص. وتشير تقارير منظمة اليونيسف إلى أن الأطفال هم الشريحة الأكثر تضررًا، إذ يشكلون النسبة الأكبر من بين 4.5 ملايين عراقي معرضين للفقر الشديد.
ويرى الباحث الاقتصادي عبدالله محمد أن «دفع مبالغ مالية شهرية للأسر الفقيرة لا يمثل حلًا فعالًا لمشكلة عمالة الأطفال، بل هو إجراء مؤقت قد يُغفل الأسباب الحقيقية التي تدفع الأطفال للعمل».
ويشير محمد لـ «المدى»، إلى أن «عمالة الأطفال ظاهرة متجذرة في الفقر المستدام ونقص فرص التعليم والتدريب، ولا يمكن مواجهتها بدعم مالي بسيط دون بناء منظومة اقتصادية واجتماعية شاملة»، مؤكدًا أن «المساعدات النقدية وحدها قد تُخفف الضغوط الاقتصادية مؤقتًا، لكنها لا تُعالج الأسباب الهيكلية التي تدفع الأسر لدفع أطفالها للعمل، ولا توفر حماية حقيقية للأطفال من الاستغلال».
ويضيف: «بدون سياسات تنموية حقيقية تُركّز على تمكين الأسر اقتصاديًا وتوفير بيئة تعليمية ملائمة، سيبقى أطفالنا عرضة للعمل المبكر والاستغلال، مما يُهدد مستقبل جيل كامل ومجتمعاتنا بأكملها».