لم تكن حركة الشعر الحر، قد بدأت بوادرها أواخر عام 1947، مجرد قصيدة نُشرت، فعُدت شعرا حرا، ولا هي سبقُ شاعرٍ لواحدٍ آخر. ولا هي مجرد تحرر الشعر من صرامة الوزن التفعيلي وقيود القافية الموحدة، وإنما هي أيضا تحرر الشاعر من الإخبات والانقياد لما هو تقليدي أيا كان فنيا أو اجتماعيا أو فكريا. وما بين تحرر الشعر واستقلال الشاعر نمت حركة الشعر الحر. وبهذا الاسم كانت وستظل به تُسمى. ولا يزال العالم العربي منبهرا بها حتى اليوم. وهو أمر طبيعي إزاء تحرر واع، وثورة على الرتابة والانقياد، منها بزغ جيل الرواد، ابنا لعصره وحالة استثنائية بين الأجيال الشعرية.
وما أن تذكر حركة الشعر الحر حتى يذكر جيل الرواد بسمته وسماته كما أن هذا الجيل ما أن يُذكر حتى يأتي اسم نازك الملائكة في الصدارة شاعرة وناقدة كتبت البيان التأسيسي لحركة الشعر الحر في مقدمة ديوانها (شظايا ورماد) 1949 واستمرت تؤسس للحركة حتى صارت المنظرة الوحيدة لها بكتابها(قضايا الشعر المعاصر) 1962.
واحتلال نازك الملائكة صدارة جيل الرواد لا يقدح في جيلية نظرائها الثلاثة بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري- على مجازية الجيلية هنا-؛ فلفظة الجيل تعني تاريخيا الدلالة البايولوجية بوجود آباء هم أسلاف، وأبناء هم أخلاف في حين أنَّ لفظة الجيل أدبيا تعني أن الأدباء الأحياء يحلون محل الأدباء الراحلين. ويخضع الجيلان البايولوجي والأدبي لاشتراطات الزمان الفيزيائي مع اختلاف جوهري هو أن زمان الجيل الأدبي يسير بشكل عمودي، لأن الذين يشكلونه هم الأفراد من المبدعين وذوي القدرات الفنية والمهارات الجمالية والثقافية. أما زمان الجيل البايولوجي فيسير بشكل أفقي في الأساس، وعادة ما يكون تحركه خطيا وبشكل كمي بسيط واجتماعي. ولا وجود للأفراد في هذا السير، لأن المجموع هو الذي يشكله وبالفئات العمرية من الشباب وكبار السن.
وعادة ما يتحدد أثر الجيل الأدبي في ما يتركه الشعراء الأجداد للأحفاد، بيد أن أثر الجيل الاستثنائي هو في ما يتركه على الأجداد. وهذا سر آخر من أسرار ديمومة حياة جيل الرواد.
كان لحركة الشعر الحر في العراق دور مهم في تحديث الرؤى الفكرية لا حول الشعر العربي تاريخا وأبنية ومسارات ونماذج حسب، بل حول الحياة العربية بمجملها سياسة واجتماعا واقتصادا وما الى ذلك. وهذا ما أثار حماسة الشباب العربي نحو تجديد الواقع وتحديثه من جانبين: الأول فني يتمثل بالبحث في بنائية هذا الوليد الجديد، والاخر فكري يتمثل في النظر في قضية التحديث نفسها بوصفها فعلا تنويريا.
وازدادت الحماسة للتغيير بشكل كبير بعد الأبحاث النوعية غير المسبوقة لنازك الملائكة سواء في عروض الشعر الحر والجذور الاجتماعية لحركة هذا الشعر أو في القضايا الأخرى التي لها مساس مباشر بواقع المجتمع العربي من النواحي السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وساعد في ذلك أيضا ما كانت قد شهدته البلدان العربية منذ أواسط خمسينيات القرن العشرين من نزعة نحو التغيير والنهوض، تأججت مع موجة المد الايديولوجي المتطلع الى النهضة والتنوير.
ولقد أحسن الشاعر يوسف الصائغ في أطروحته الموسومة(الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1957 دراسة نقدية) حين قدَّم دراسة الفكر على كل من الاجتماع والسياسة وعلم النفس والبناء والصور والأوزان، ذلك أن حركة الشعر الحر كانت بمثابة ثورة انقلابية في الوعي العربي أيقظت المجتمع العربي وساهمت في تطويره الفكري، وليست مجرد تغيير في الأشكال أو الأبنية كما كان يَنظر إليها بعض نقاد ومفكري تلك المرحلة، ومنهم هادي العلوي الذي رأى في مقاله الموسوم(حول قضية الشعر الجديد) مجلة الآداب اللبنانية، 1958 أن الشعر الحر(نمط جديد من الشعر يضاف إلى الأنماط المألوفة، يسير معها جنبا الى جنب كما سار الموشح في العصور السابقة. وهو ليس ضرورة أملاها التطور الجديد في واقع الحياة العربية، بل هو تأثر بالأدب الغربي أي أنه عمل فني صرف وليس لواقع الحياة علاقة في إيجاده. يوضح ذلك تسميته بالشعر الحر أي أن الشاعر حر في أن يسير على الطريقة التعبيرية القديمة أو الجديدة. فتحرر من القيود من كانت تمنعه من الانطلاق. وآخرون لم يشأوا أن يتحرروا من القيود لأنهم وجودوها لا تمنعهم من الانطلاق ومنهم الجواهري، فيه الدليل على تحكم المقدرة في ايجاد الشعر القديم. . وأن القافية ليست عجوزا قميئة ولا عتيقة محدودبة. والإطار القديم ليس قفصا حديديا يمنع الشاعر، إذا أوتي الموهبة الفنية والمقدرة اللغوية، من التحليق)
ولمدني صالح موقف مماثل أيضا؛ ففي مقاله (الفكرة المولدة في بواكير شعر السياب) مجلة الآداب اللبنانية 1967 وجد أن شعر السياب بين الأعوام 1944و1948 يقوم على تكرار اللفظ وثبات العبارة التي عادة ما ترد (بدلالة قاموسية تنتفي معها روعة الشعر).
ولقد كشف مدني صالح في مقاله هذا لا عن باعه المتواضع في نقد الشعر، بل عن تناقض أفكاره أيضا؛ فهو تارة يرى أن بين القارئ وشعر السياب برزخًا فهو (استجدائي في أزقة الهوى ودروب الحب، يمد يديه في انتظار يائس.. عاشق كسول يدلل نفسه واهمًا، يحتضن ولا يحضن، وتمتد ذراعاها إليه ولا يحرك ساكنا). وتارة أخرى يرى السياب شفافا كالبلور صلبا كالماس عميقا كالبحر شاعرا ملأ الدنيا والسمع والبصر والفؤاد وإماما للشعر.
إن مثل هذه الآراء حول الشعر الحر سواء على مستوى النقد في العراق أو في البلدان العربية الأخرى، ليست جزءا من التنازع حول ماهية هذا الشعر بقدر ما هي تنازع حول التحديث بمعناه الفكري التحرري. وعلى الرغم مما قيل في حركة الشعر الحر من رؤى تتفاوت قوة حينا وتغلو وتتحامل حينا آخر، فإنها بالمجموع حرَّكت رواكد المجتمع العربي أفرادا وجماعات ووجهته نحو التحديث والحداثة، لا بالمعنى الذي أرادته "جماعة شعر" اللبنانية وكان مقصدها من التحديث التطلع لكل ما هو غربي عبر اتباع موضاته، بل بالمعنى الذي أكدته نازك الملائكة في كتاباتها وهو الانطلاق من التراث والإفادة من المعاصرة. فهذا هو ما يضع العربي على طريق الحداثة الحقة، الحداثة التي لا تابع فيها ولا متبوع، بل هي هاجس ذاتي موضوعي ينمو بتلقائية ويدوم بقصدية النظر الى الامام وعدم الانقطاع عن النظر الى الأسلاف.
صحيح أن المناوئة التي لاقتها حركة الشعر الحر -ممثلة بمنظرتها نازك الملائكة- كانت حادة وكبيرة. وتصل أحيانا إلى حدِّ العدائية، لكن ذلك كله لم يمنع رواد هذه الحركة ومن جاء بعدهم من أن ينشروا أفكارهم في أصقاع البلاد العربية بدءا من الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر وصولا إلى بلاد المغرب العربي. فحركة الشعر الحر ليست خاصة بالعراق وحده ولا أثرت في أدبائه وحدهم، بل امتدت الى البيئات العربية ودفعتها باتجاه التجديد والتطوير. ومن الطبيعي بعد ذلك أن تتجلى تأثيرات هذه الحركة في أدباء عرب كثيرين.
وهذا ليس بالغريب فمنذ القدم والامتزاج بين البيئات الأدبية العربية حاصل وقائم. ولم تؤثر في ديموميته العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولنخصص الحديث ببيئة الجزيرة العربية لنرى أن أدباء العراق كانوا على تماس دائم مع أدبائها لأسباب كثيرة اقتصادية وثقافية واجتماعية. ولقد وثَّق محمد رضا الشبيبي بعضا من ذلك في رحلته من البصرة إلى حائل ونشرها مطلع القرن العشرين. ولا شك في أن لمواسم الحج دورها في التقارب الثقافي والأدبي. هذا ما أكده العميد طه حسين بالقول: (أهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرا والعراقيون يصعدون إلى نجد ولا بد من ان يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من التعاون الأدبي القوي)
وكان من تأثيرات حركة الشعر الحر أن اتجه بعض القصاصين والروائيين والنقاد نحو محاربة المألوف والتقليدي في المجتمع السعودي، ومنهم د. عبد الله الغذامي الذي تعرف إلى الشعر الحر عام 1962 حين كان تلميذا في المعهد العلمي بعنيزة. فصار في أواسط ثمانينيات القرن العشرين واحدا من الداعين إلى الحداثة والتحديث في العالم العربي.